منذ البداية علم الدبلوماسيون الذين تفاوضوا حول الاتفاق النووي مع إيران أنهم إذا ما حالفهم النجاح في إبرام الاتفاق، سيواجهون انتقادات شديدة ولاذعة جراء ذلك. وبعد أربعة أيام من الإعلان عن الاتفاق، بدا من الواضح وبشكل متزايد أنهم ينالون ما كانوا يتوقعون. فمنذ الإعلان عن إبرام الاتفاق يوم الثلاثاء الماضي، جاءت غالبية ردود الفعل إزاءه انتقادية والبعض منها عدائية بصورة فجة، حيث أعلن الجمهوريون من مرشحي سباق الرئاسة الأميركي، والمثقفون المحافظون، وحتى بعض من حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، عن تصديهم لذلك الاتفاق المعلن.
وعقب ما يقرب من عامين من المفاوضات المكثفة والسرية بشكل كبير، شرعت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما في انتهاج مسار جديد من الدفاع عن الاتفاق والذي قد يحدد ما إذا كان الكونغرس سيصادق عليه عقب مراجعته خلال الـ60 يوما القادمة.
ومع الثناء العميق الذي يوليه المسؤولون في إدارة أوباما للاتفاق المبرم ووصفه بأنه «أفضل البدائل المتاحة» عن الحرب، إلا أن الإدارة ذاتها ومن وراء الكواليس، تعمل على إطلاع خبراء المجال النووي وعدم انتشار الأسلحة النووية حول التفاصيل المعقدة لذلك الاتفاق، سعيا إلى الحصول على دعمهم وتبادل وجهات النظر المشتركة مع المشرعين المشككين في الاتفاق والرأي العام الأميركي من ورائهم.
وينتظر السياسيون من مؤيدي الاتفاق ومنتقديه على حد سواء مساعدة أولئك الخبراء في تفهم وإدراك مواطن القوى ونقاط الضعف بالوثيقة البالغ عدد صفحاتها 109 صفحات والتي تتضمن خمسة ملاحق ذات بيانات تقنية فائقة التخصص.
ويمتدح عدد من الخبراء ذلك الاتفاق، قائلين بأنه يخضع البرنامج النووي الإيراني إلى درجة عالية وغير مسبوقة من عمليات التفتيش الدولية المعمقة ويفرض قيودا مهمة على بعض العناصر لفترة تتراوح بين 10 إلى 15 سنة - ولفترات أطول من ذلك في حالات أخرى.
ويقول جيفري لويس، الذي يدير برنامج شرق آسيا لدى مركز دراسات عدم الانتشار ويكتب في مدونة ذائعة الصيت تسمى «حملة الحد من الأسلحة»: «إذا ما أردت منح المجتمع الدولي أدوات لائقة للحد من فرص إيران في الحصول على السلاح النووي، فهو اتفاق جيد».
ولكن الآخرين شككوا فيما إذا كان الاتفاق يحمل الكثير من أدوات الردع حيال إيران على المدى البعيد.
وعن ذلك يشرح بليز ميزتال، رئيس برنامج الأمن القومي لدى مركز «الحزبين للسياسات»: «ليس ذلك بالاتفاق الذي يمنع وجود إيران النووية. بل إنه اتفاق يحول بين إيران وبين السلاح النووي لمدة 15 عاما فقط». وأردف قائلا: «فهل يعد ذلك علاجا للسرطان؟... كلا».
وتعكس الآراء المتباينة قدر المواءمات المقدمة من أجل تأمين إبرام الاتفاق ما بين إيران والقوى الدولية الست التي تفاوضت معهم - الولايات المتحدة الأميركية، وبريطانيا، وفرنسا، وروسيا، والصين وألمانيا. ورغم إصرار إيران المتواصل على أن برنامجها النووي ليس إلا لأغراض إنتاج الطاقة السلمية، فإن الغرب فرض عقوباته الاقتصادية عليها عندما تأكد أن إيران كانت تسعى وبجدية لبناء الأسلحة النووية.
وصرح أحد الدبلوماسيين الغربيين قائلا، والذي تحدث بشرط عدم الكشف عن هويته لمناقشة المفاوضات السرية التي أدت لحدوث انفراجة في محادثات الطريق المسدود بأنه «يمكننا المنافحة عن ذلك الاتفاق. ولكنه يخول لنا تنفيذ ما نريد تنفيذه. فهو يحول بين إيران وبين العناصر التي قد تؤدي إلى امتلاك السلاح النووي». وأضاف: «فهل يعد ذلك علاجا للسرطان؟... كلا»، موضحا: «إنه لا يعالج شيئا، وهو ليس بالنتيجة المثالية على أي حال. ولكنه أفضل ما استطعنا الوصول إليه الآن».
أحد أكثر الانتقادات الشائعة بين الخبراء تنضوي على فترة الاتفاق ذاتها. في مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية المفروضة، وافقت إيران على تقييد عمل أجهزة الطرد المركزية المخصصة لتخصيب اليورانيوم، وعلى حجم مخزون اليورانيوم المستخدم في إنتاج الطاقة وللأغراض الطبية. كما وافقت إيران كذلك على استخدام «قناة مشتريات خاصة» لتغطية كافة احتياجاتها النووية لمدة 10 سنوات، مع الموافقة المسبقة على كل عنصر من العناصر التي تطلبها. وفي نهاية المطاف، برغم كل شيء، يمكن تخفيف تلك الشروط الصارمة بمرور الوقت.
ويشرح مارك دوبوويتز، المدير التنفيذي لمؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات وأحد أشد المنتقدين للاتفاق حتى قبيل إبرامه: «كل ما على إيران فعله هو تلمس سبيل الصبر والنفس الطويل سعيا وراء السلاح النووي».
ويرى آخرون أنه حتى لو أرادت الولايات المتحدة وشركاؤها إزالة كافة القدرات النووية من داخل إيران، فليس لديهم السلطة الكافية لتنفيذ ذلك وفقا للاتفاقيات الدولية. ومعاهدة منع الانتشار النووي، والتي تعتبر إيران من أعضائها برفقة 190 دولة أخرى، لا تمنح الموقعين عليها حق تخصيب اليورانيوم، كما أنها لا تحظر أو تجرم تخصيبه كذلك.
ويقول جورج بيركوفيتش، الباحث في الاستراتيجية النووية وقضايا عدم الانتشار النووي لدى معهد «كارنيجي للسلام الدولي»، أن قرارات مجلس الأمن بالأمم المتحدة التي أقرت العقوبات الاقتصادية على إيران وسط شكوك حول سعيها لامتلاك القنبلة النووية دعت في بداية الأمر إلى إيقاف إيران لأنشطتها النووية. ولكن تلك القرارات، كما أوضح «لم تقضِ بوقف تلك الأنشطة إلى الأبد».
أما المؤيدون للاتفاق فيقولون: إنه لم تكن هناك فرصة أمام الولايات المتحدة وشركائها في التفاوض لإيقاف البرنامج النووي الإيراني بصورة كاملة، وهو البرنامج الذي بدأت أولى خطواته في عقد الخمسينات من القرن الماضي بمساعدة أميركية خالصة. وعندما بدأت المفاوضات في عرقلة البرنامج الذي بدأ قبل 12 عاما مضت، كان لدى إيران حينها أقل من 200 جهاز طرد مركزي لتخصيب اليورانيوم. وبحلول الوقت الذي استأنفت فيه الإدارة الأميركية المحادثات المؤجلة متعددة الجنسيات في عام 2013. كان لدى إيران ما يقرب من 20 ألف جهاز طرد مركزي، برغم أن معظمها يعمل بتقنيات عفا عليها الزمان منذ عقد السبعينات.
ويقول روبرت اينهورن، الزميل البارز في «مبادرة الحد من التسلح وعدم الانتشار» لدى معهد «بروكينغز»: «في اليوم الذي وصل فيه أوباما للسلطة... كانت إيران بالفعل قد صارت دولة على العتبة النووية. والرجوع الكامل عن ذلك إلى حد نزع كافة أجهزة الطرد المركزية ليست بالهدف الواقعي أو الممكن».
غير أن السيد اينهورن يتفق مع أن القيود الجديدة على أجهزة الطرد المركزية ومخزونات اليورانيوم والأبحاث النووية تعد جيدة فقط باعتبار استمرارها. وبمجرد تمكن إيران من تركيب المزيد من أجهزة الطرد المركزية الحديثة والفعالة، فإن «توقيت الاختراق» - وكم من الوقت يستغرقه الأمر لحشد ما يكفي من المواد لبناء السلاح النووي - سيبدأ في الانخفاض.
وتابع يقول: «إن الاتفاق يقف بصورة جيدة للغاية كعائق أمام الانتشار النووي... لمدة 15 عاما فقط. ولما بعد ذلك، فستكون إيران وبمنتهى الوضوح قادرة على زيادة إمكانات تخصيب اليورانيوم كما سوف تكون قادرة كذلك على اختصار وقت الاختراق».
القلق بخصوص عمليات التفتيش
ومن بين الأمور التي نالتها الانتقادات كان الأسلوب الجديد الذي يمكن لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية من التفاوض بشأن «الدخول الموجه» إلى المواقع التي يشتبهون في إجراء الأبحاث النووية السرية فيها. حيث يمكن لتلك الفترة أن تستغرق نحو 24 يوما كاملة - وهي فترة كافية لإيران، كما يدفع المنتقدون، لإخفاء الأدلة على إجرائها للأبحاث النووية.
ويقول الكثير من الخبراء بأن إيران لا يمكنها إخفاء أي أعمال نووية كبيرة - وخصوصا من حيث استخدام المواد المشعة التي تخلف آثارا لا يسهل محوها ويسهل اكتشافها. ويقول تريفور فيندلاي، وهو خبير لدى عمليات التفتيش التابعة للوكالة الدولية للطاقة الذرية مع مركز «بيلفر» للعلوم والشؤون الدولية التابع لجامعة «هارفارد» الأميركية «إن الـ24 يوما تبدو وكأنها فترة طويلة. ولكن في ذات الأثناء، سوف تخضع تلك المنشأة طوال الوقت لمراقبة مكثفة».
يدفع ويليام توبي، وهو من خبراء مركز «بيلفر» والذي شارك في المحادثات النووية مع كوريا الشمالية سابقا، أن استخبارات الأقمار الصناعية ليست معصومة من الأخطاء، وأنه يمكن لإيران تفسير وجود آثار المواد الانشطارية المتبقية بصورة أو بأخرى. وأضاف: «ليس لزاما على عملية التنظيف أن تكون مثالية. يكفي أن تكون جيدة بالدرجة التي تثير الشكوك فحسب».
ورغم أن الاتفاق يقضي باحتمال معاودة فرض العقوبات الاقتصادية إذا ما «غشت» إيران في التزاماتها، فإن ذلك الغش من شأنه أن ينهي الاتفاق برمته وبصورة فعالة، نظرا لأن إيران حينئذ سيكون لديها الحق في التوقف عن الامتثال لتعهداتها. وهو البند الذي يصفه السيد دوبوويتز بقوله «بند التعافي النووي».
واستطرد يقول: «بالنسبة لإيران، ليست إلا مسألة وقت حتى يمكنهم اللعب بتلك البطاقة».
ولكن كيسلي دافنبورت، رئيسة قسم سياسة عدم الانتشار لدى رابطة الحد من التسلح، تقول: إنه ليس بالطريق السهل على إيران: «إن تكلفة مثل ذلك الانسحاب سوف تكون باهظة للغاية. وسيتحد المجتمع الدولي محاولا منع إيران من معاودة سلوك سبيل تطوير الأسلحة النووية مجددا. ومن واقع تحليل التكاليف والمنافع، فهناك بالفعل مكاسب قليلة للغاية لإيران إذا ما انهار الاتفاق وفقا لذلك السيناريو».
* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»