«قارئ الجثث»... مصر الملكية في مذكرات طبيب تشريح بريطاني

كشف عن خفايا قضايا أثارت جدلاً تاريخياً وسياسياً

سيدني سميث... قارئ الجثث
سيدني سميث... قارئ الجثث
TT

«قارئ الجثث»... مصر الملكية في مذكرات طبيب تشريح بريطاني

سيدني سميث... قارئ الجثث
سيدني سميث... قارئ الجثث

عن «الدار المصرية – اللبنانية» بالقاهرة، صدر كتاب «قارئ الجثث» ترجمة الباحث والروائي مصطفى عبيد، وهو عبارة عن مذكرات طبيب التشريح البريطاني سيدني سميث في مصر الملكية. تكمن أهمية الكتاب في أنه يكشف عبر فصوله عن بعض الجرائم التاريخية في البلاد، وأيضاً لما يحتويه من حكايات مثيرة من أماكن أخرى خارج مصر حول جرائم القتل والانتحار ودور الطب الشرعي في كشفها، كما تتضمن المذكرات وقائع حول أهم عمليات التشريح التي أجراها في مصر، ومن بينها جثامين ضحايا أشهر قاتلتين متسلسلتين، وهما «ريا وسكينة» اللتان كوّنتا عصابة متخصصة في استدراج النساء وقتلهن بهدف الحصول على مصوغاتهن الذهبية. ويوضح الكاتب كيف توصل إلى تحديد شخصياتهما رغم مرور أشهر عدة على دفنهما. كما تضمنت المذكرات تفاصيل عن تشريح جثمان السير لي ستاك، سردار الجيش البريطاني في مصر وحاكم السودان العام في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 1924، والذي لقي مصرعه على يد جماعة مسلحة أطلقت النار عليه، وأصابته بجروح خطيرة أدت إلى وفاته، بالإضافة إلى إصابة الياور والسائق الخاص به، ويعد الحادث هو أكبر عملية اغتيال لضابط رفيع المستوى في الجيش الإنجليزي بمصر، وسبب الحادث ضجة لدى الحكومتين البريطانية والمصرية.
وكذلك يستعرض الكتاب أشهر القضايا المحيرة التي شكلت ألغازاً للشرطة في بريطانيا وآيرلندا، وأستراليا وماليزيا، وكيف ساهمت الخبرات العملية التي اكتسبها الطبيب الشرعي في مصر في حل هذه الألغاز.
ويوضح المترجم في مقدمته كيف استهوته فكرة النبش في الدفاتر القديمة، فعندما ترجم قبل سنوات قليلة «مذكرات توماس راسل - حكمدار القاهرة»، والذي عاش في مصر طوال الفترة من 1902 إلى 1946 وكان شاهداً دقيقاً على وقائع الجريمة في مصر، توقف عند كثير من الإشارات التي قدمها لكتب وشهادات لموظفين كبار قدِموا من إنجلترا وعملوا في مختلف القطاعات في مصر خلال فترة الاحتلال. وكان من بين إشارات راسل باشا، حديثه عن كبار خبراء الطب الشرعي في إنجلترا وزياراتهم المتكررة إلى مصر، في بدايات القرن العشرين، وكيف وجدوا بها حقلاً نموذجياً للتجارب والخبرات نتيجة تنوع الجرائم وتعدد أساليب القتل، ذاكراً أسماء بعض الأطباء الشرعيين المعروفين، مثل مستر نولان، وسيدني سميث. والأخير معروف للعاملين في مجال الطب الشرعي المصري، باعتباره أحد مؤسسي مصلحة الطب الشرعي سنة 1927، كما أنه شارك طبيباً مصرياً في إصدار أول كتاب باللغة العربية عن الطب الشرعي سنة 1924.
قضى سميث في مصر 11 عاماً في النصف الأول من القرن العشرين، ثم سافر لاستكمال تجاربه في مجال كشف الجرائم من خلال الطب الشرعي في آيرلندا واسكوتلندا، وأستراليا، وسيلان، وقدم عنها شهادات ضمن مذكراته التي جُمعت ونُشرت في سنة 1959.
يستشهد الكتاب بقول كيث سيمبسون، كبير الأطباء الشرعيين في لندن، بأن سميث يمثل استنساخاً حقيقياً لجوزيف بيل، طبيب الجراحة بإدنبرة الذي استوحى منه آرثر كونان دويل شخصية «شارلوك هولمز» الشهيرة. كما قال عنه توماس راسل - حكمدار البوليس في القاهرة «لقد وجد سيدني سميث في مصر حقلاً نموذجياً لمختلف الجرائم نتيجة تنوع أساليب القتل».
ويكشف الكتاب كيف أنه وجد في سيرة سميث خفايا غامضة جرى معظمها في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، وكانت اكتشافاته سبباً للوصول للجناة في العديد من القضايا المرعبة التي تمكن من فك غموضها.
ومثلها مثل كثير من شهادات الخبراء والأساتذة الإنجليز في مصر إبان الاحتلال، فقد قوبلت مذكرات الرجل بارتياب وتشكيك من باحثين مصريين، وخاصة بعد تحرر مصر من الاحتلال الإنجليزي، وما تلى ذلك من مقاطعة وطنية لكل ما هو إنجليزي بما في ذلك البحث العلمي. وهكذا لم تتم ترجمة مذكراته رغم أن نصفها على الأقل يتحدث عن عالم الجريمة وطرق القتل وظواهر التسميم الجنائية في مصر، بل عن جرائم شهيرة فيها مثل قضية أشلاء الحسناء الرومانية إيما.

آراء متعاطفة مع مصر

خلال فتره وجوده بمصر في الفترة من بداية 1917 إلى نهاية 1927 احتك سميث بالمجتمع المصري خلال مرحلة مهمة من مراحل تطوره عقب ثورة 1919، وما نتج منها من تطور مجتمعي واضح انعكس على التعليم والثقافة ومختلف مناحي الحياة. كما تابع الرجل خلال وجوده في مصر قضايا جنائية وسياسية معقدة انحاز فيها جميعا إلى ضميره العلمي، قبل انتمائه الوطني؛ ما جعله في بعض الأحيان يكشف بوضوح كيف كانت سلطات الاحتلال البريطاني في مصر توظف لصوصاً سابقين للعمل كخفر غير نظاميين، ثُم تستخدمهم في قتل المتظاهرين وإثارة الشغب لتحقيق أهداف سياسية. بل إننا نجده يشهد في إحدى المرات لصالح سجين مصري تعرض للتعذيب في أحد السجون.
ويقدم سميث في مذكراته آراء متعاطفة مع الحركة الوطنية في مصر ومع سعد زغلول عندما يشير في مقترحاته للمسؤولين الإنجليز، إلى أنه يرى إمكانية منح مصر حكماً ذاتياً مبكراً على غرار ما حدث في نيوزيلندا، وانتخاب سعد زغلول رئيساً للمصريين، وهو ما رد عليه مرؤسوه بسخرية مكررين أنه أفرط في الشراب.
كما يقدم وصفاً دقيقاً للقرى المصرية في بدايات القرن العشرين، وكيف كانت مرتعاً للبؤس والحرمان وموطناً للأمراض النادرة، ومركزاً للجهل والإهمال؛ ما جعلها بمثابة حقل خصب لمختلف أنواع الجرائم وطرق القتل بدءاً بالتسميم بالزرنيخ وحتى الخنق وتقطيع الضحية لأشلاء عدة. لذلك؛ ظلت مصر تعيش معه حتى بعد أن يُغادرها، فيتذكر في كل جريمة يُحقق فيها استناداً إلى خبرته في الطب الشرعي، موقفاً مشابهاً عايشه في مصر واستفاد منه.
ومن الأشياء اللافتة في هذه المذكرات، أن صاحبها لا يجد بأساً في أن يُبدي آراء معتدلة وموزونة عند تحدثه عن عقائد المصريين وعاداتهم، دون استعلاء أو تعمد إساءة مثل كثير من أصحاب الشهادات الأجانب. لذلك؛ تبقى مذكراته وثيقة مدهشة حيث تُقدم بشكل تفصيلي كيف يعمل الطبيب الشرعي كمخبر ومحلل للأحداث، وكيف يستنطق الجثث ويعيد إضاءة مسرح الجريمة ويتتبع الآثار ليُخلّص بريئاً أو يُثبت الإدانة على مُجرم. ولهذا؛ فقد سمح المترجم لنفسه أن يستفيد من خلفيته الروائية فيستبعد عنوان المذكرات الأصلي وهو «على الأرجح... قتل» ليضع عنواناً أقرب لما استشعره خلال ترجمته الحكايات وتنقله من صفحة لأخرى، وهو «قارئ الجثث»؛ إذ يبدو الحاكي هنا أشبه بقارئ للجثث، مُهمته استهداف الحقيقة، بغرض وحيد هو مقاربة العدالة خدمة للبشرية. كما استعان بالدكتورة سمر عبد العظيم أستاذ الطب الشرعي بجامعة عين شمس، لضبط ترجمة المصطلحات الطبية.
ولد سيدني ألفريد سميث في ركسبورج بنيوزيلندا في 4 أغسطس (آب) سنة 1884، ودرس الطب في جامعة إدنبرة وتخرج سنة 1912، قبل أن يتخصص في الطب الشرعي وينبغ فيه، ثم التحق بالخدمة طبيباً بجيش إنجلترا خلال الحرب العالمية الأولى سنة 1914. وفي سنة 1917 تقدم سميث لشغل وظيفة مستشار للطب الشرعي للحكومة المصرية، وتم تعيينه في هذا المنصب ليُنشئ وحدة للطب الشرعي بوزارة العدل. كما عمل محاضراً في كلية طب القصر العيني وتتلمذ على يديه عشرات الأطباء المصريين في مجال الطب الشرعي، وأصدر بمشاركة عبد الحميد عامر كتاب «الطب الشرعي في مصر» سنة 1924.
ثم عاد الرجل إلى بلاده ليتولى مناصب عدة في مجال الطب الشرعي وليحقق في قضايا كبرى، وتم تعيينه عميداً لكلية الطب بإدنبره، وحاز تكريمات عديدة بعد نجاحه في حل ألغاز قضايا جنائية عديدة. وفي سنة 1955 استقبلته كلية طب قصر العيني في مصر وتم تكريمه، ثم تقاعد ورحل عن دنيانا في 9 مايو (أيار) سنة 1969 باسكوتلندا عن عمر ستة وثمانين عاماً.


مقالات ذات صلة

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

كتب إيمانويل كانط

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟

لطفية الدليمي
كتب «الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

«الجبرتي»... الوجه الآخر لأشهر مؤرخي الحملة الفرنسية

يقدم الكاتب والباحث الراحل صلاح عيسى في كتابه المهم «عبد الرحمن الجبرتي - الإنتلجنسيا المصرية في عصر القومية» رصداً لافتاً لحقبة ملتبسة من التاريخ المصري

رشا أحمد (القاهرة)
شمال افريقيا الكاتب الجزائري بوعلام صنصال يتحدث في مؤتمر صحافي خلال الدورة الثانية والستين لمهرجان برلين السينمائي الدولي 9 فبراير 2012 (أ.ب)

الجزائر تواجه دعوات متزايدة للإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال

دعا سياسيون وكتاب وناشطون إلى الإفراج عن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال.

«الشرق الأوسط» (الجزائر)
كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)

«كتاب وخنجر»: أكاديميون في سلك الجاسوسية

أليس
أليس
TT

«كتاب وخنجر»: أكاديميون في سلك الجاسوسية

أليس
أليس

يطيح «كتاب وخنجر: هكذا أصبح الأكاديميون وأمناء المكتبات الجواسيس غير المتوقعين في الحرب العالمية الثانية» للباحثة الأميركية إليز غراهام بالنموذج التقليدي الذي غلب على أذهان الجمهور حول شخصيّة الجاسوس عميل الاستخبارات، والتي تكرّست عبر مئات الروايات والأفلام السينمائيّة والمسلسلات التلفزيونيّة على مثال «جيمس بوند» - بطل روايات الكاتب البريطاني إيان فلمنغ - فيقدّم من خلال سيرة أربع من عملاء مكتب الخدمات الاستراتيجية (OSS) - كان نواة تأسيس وكالة الاستخبارات الأميركيّة لاحقاً - الذين لم يأتوا من خلفيات أمنية أو عسكريّة، ولا حتى من أقسام الفيزياء والتكنولوجيا بالجامعات الأميركية والبريطانية المرموقة - كما كان الحال في مشروع مانهاتن لإنتاج القنبلة النووية، بل من أقسام الأكاديمية النظريّة في الأنثروبولوجيا والتاريخ واللغات، فكأنما تضع «أقل الناس لمعاناً في العالم، في المهنة الأكثر بريقاً في العالم»، على حد تعبير المؤلفة.

تعود بدايات هذه العلاقة غير المتوقعة بين العلوم النظريّة ووكالات الجاسوسية إلى أيّام الحرب العالميّة الثانية، التي دخلتها الولايات المتحدة دون جهاز استخبارات مدني كما كان الحال في بعض أمم أوروبا - تأسس جهاز الاستخبارات البريطاني في عام 1909 – إذ اعتمدت دائماً لجمع المعلومات الاستراتيجية والحساسة من العالم على جهاز الاستخبارات العسكرية التابع للجيش الأميركي.

على أن الحاجة إلى نهج جديد يوسع دائرة جمع المعلومات لما وراء الإطار العسكري بدت ماسة بعد اندلاع الحرب على البر الأوروبي في 1939 مع غزو ألمانيا لبولندا، فعمد الرئيس فرانكلين روزفلت إلى تكليف المحامي البارز ويليام دونوفان بتأسيس ما سمي وقتها بمكتب الخدمات الاستراتيجية الذي استمر في نشاطه عامين بعد انتهاء الحرب عام 1945 ليخلفه في مهماته وكالة الاستخبارات المركزية من 1947 والتي تعد اليوم أقوى أجهزة الاستخبارات في العالم على الإطلاق.

غلاف الكتاب

وتقول غراهام إنّ تصور دونوفان عن جهاز مدني للاستخبارات تمحور حول بناء منظومة لجمع كميات هائلة من البيانات وتحليلها للوصول إلى استنتاجات ذات فائدة، مما يحتاج إلى مهارات احترافيّة في التعامل مع المعلومات والأرشيف إلى جانب أساسيات العمل الميداني، ولذلك استقصد البحث عن مهنيين متخصصين من عالم الأكاديميا والسعي لتجنيدهم كعملاء.

كان أساتذة الجامعات وأمناء المكتبات وخبراء الأرشيف منجماً غنياً للمواهب التي يمكن أن تلعب دور الجاسوس المفترض ببراعة: أذكياء ويمكنهم التعلّم بسرعة، يحسنون التعامل مع المعلومات، ومعتادون على العمل المضني، ويتسمون عادة بالتحفظ في سلوكياتهم، مما يسهل ذوبانهم في الأجواء من حولهم دون لفت الانتباه، ومنهم بنى دونوفان أول شبكة تجسس أميركيّة محترفة في الفضاء المدنيّ.

تتبع غراهام في «كتاب وخنجر» دونوفان بينما يتصيد هذه المواهب في أروقة الكليّات النظريّة للجامعات الأميركيّة، وتضئ على قصص أربع منهم ممن تم تجنيدهم بأسلوب أدبي رفيع يمزج بين حقائق التاريخ ورومانسيّة الدراما، لتكون الولادة الأولى للجهد الاستخباراتي الأميركي في أجواء من الرّفوف المديدة من الكتب ورائحة الورق، وصناديق الوثائق والبحث عن معلومة في كومة من البيانات بعيداً عن الأنظار بدلاً من الصورة التلفزيونية لمطاردات العميل رقم 007 بالسيارات الرياضيّة الفارهة، والقفز من الطائرات، وترك المغلّفات للعملاء في نقاط الالتقاط. وبالنسبة للمؤلفة فإن كتابها بمثابة تذكّر لهؤلاء الكوادر الذين ساعدوا الولايات المتحدة على كسب الحرب، وتالياً مد مظلّة الهيمنة الأميركيّة على العالم لعقود.

الشخصيّات الأربعة التي اختارتها غراهام لسرد هذه المرحلة كانوا لدى تجنيدهم قد سلكوا في حياتهم خطوطاً مهنيّة أكاديمية في عدد من جامعات النخبة عندما تحدث إليهم موظفون فيدراليون لطلب مساعدتهم في المجهود الحربيّ. جوزيف كيرتس كان يدرّس اللغة الإنجليزية في جامعة ييل، وأديل كيبري أستاذة تاريخ العصور الوسطى في جامعة شيكاغو والخبيرة بعبور الأرشيفات وأقسام المحفوظات، وكارلتون كون أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة هارفارد، وأيضاً شيرمان كينت الباحث الملحق بقسم التاريخ في جامعة ييل.

تلقى المجندون الأكاديميون الجدد تدريبات مكثّفة على أساليب الخداع، ومراوغة المطاردين وطرائق التشفير وأساسيات القتال الفردي، ويبدو أنهم لم يجدوا صعوبة في التقاط هذه المهارات الجديدة، لكن الجزء الأصعب كما لاحظ مدربوهم كان تعليمهم نسيان خلفيّة اللياقة والتهذيب التي قد تمنعهم من ضرب الخصم تحت الحزام أو استغلال نقاط ضعفه.

أرسل بعدها كيرتس وكيبري تحت غطاء مهمّة أكاديمية لشراء الكتب من دور النشر المحليّة. كيرتس إلى إسطنبول - التي كانت تمور بالجواسيس من كل الدّول - وكيبري إلى استوكهولم - للبحث في مكتبات دولة محايدة عن مواد ألمانية قد تكون ممنوعة من التوزيع في مناطق أخرى من أوروبا: مثل الصحف والمجلات، والصّور، والخرائط.

أكوام المواد الأوليّة التي جمعتها كيبري كانت بحاجة إلى تنظيم وتحليل، وتلك كانت مهمة أوكلت لكينيث، الذي قاد فريقاً من المحللين تولى مثلاً تحديد مواقع المطارات ونقاط توزيع الكهرباء ومحطات السكك الحديدية ومكاتب التلغراف على امتداد الأراضي الفرنسيّة للعمل على منع قوات الاحتلال النازي من الانتفاع بها، وفي الوقت ذاته تحديد مبانٍ ومساحات قد يتسنى للحلفاء الاستفادة منها عند الحاجة لإنشاء مستشفيات ميدانيّة ونقاط ارتكاز.

وتقول غراهام إن فريق كينت نجح مستفيداً من الخرائط السياحيّة وأدلة الأعمال التي أرسلتها كيبري في تحديد مواقع معامل تنتج مكونات أساسيّة لصناعة أسلحة المحور والتي استهدفها الحلفاء بالتخريب بشكل ممنهج. أما كون فيبدو أنّه لم يكن مفيداً كثيراً خلال فترة الحرب، وكانت أفضل فكرة له كما تقول غراهام هي إخفاء العبوات الناسفة في أكوام الفضلات التي تتركها البغال على جوانب الطرق.

عاد هؤلاء الأكاديميون إلى جامعاتهم بعدما وضعت الحرب أوزارها: كيرتس استعاد وظيفته أستاذاً في جامعة ييل، واستأنفت كيبري عملها في عبور المجموعات الأرشيفية المغلقة التي تحتفظ بها الحكومات ومراكز البحث وجهات ذات حيثية مثل الفاتيكان. أما كينت فلم يعد يجد نفسه في عالم الأكاديميا، فالتحق بعد عدّة سنوات بوكالة الاستخبارات المركزية وأسس مجلتها البحثية الداخلية، «دراسات في الاستخبارات»، فيما تورط كون في نشر نظريات أنثروبولوجيّة ذات نفس عنصري ما لبثت أن فقدت قيمتها العلميّة خلال الخمسينيات فخسر سمعته وانتهى إلى الإهمال.

وتقول غراهام إن هذه البدايات المشجعة للتقاطع بين عالمي الكتاب والخنجر جعلت من مجموعة جامعات النخبة الأميركيّة - التي تسمى برابطة اللبلاب - بمثابة مزارع مفتوحة لاستقطاب المواهب المميزة إلى العمل الاستخباراتي، وهو الأمر الذي لا أحد ينكر أنه مستمر إلى الآن.