ليس مفاجئاً على الإطلاق عقد مقارنات بين ما حصل في البرازيل من اقتحام لمقرات الحكم الفدرالي في العاصمة برازيليا يوم الثامن من يناير (كانون الثاني) 2023 واقتحام الكونغرس الأميركي في واشنطن يوم السادس من يناير 2021، فالطيف الطاغي في الحدثَين واحد: رئيس مثير للجدل يرفض التسليم بخسارته الانتخابات وترك خلفه يحكم وفق الأصول الديمقراطية ومبدأ تداول السلطة...
ولعل الفرق بين الواقعتين هو أن المقتحمين في الأولى كانوا مجموعة من «المحترفين» المنتمين بشكل أساسي إلى مجموعة «براود بويز» (وتعني الأولاد الفخورين) اليمينية المتطرفة المقتصرة عضويتها على الذكور والمؤمنة بالتفوق العرقي، فيما كان المقتحمون البرازيليون مجموعة من الهواة الذين لم تجد القوى الأمنية – رغم التلكؤ والتقاعس - صعوبة كبيرة في تطويقهم واحتجازهم...
في أي حال، يبقى التعامل الأمني مع حوادث من هذا النوع الجانب الأسهل من المسألة، فيما تكمن المعضلة في معالجة الأسباب والرواسب وقطع الطريق على انقسام مجتمعي قد يهزّ أركان أي دولة مهما عظم شأنها.
الرئيس السابق جايير بولسونارو (أ.ب)
* جايير بولسونارو
في 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أصبح الضابط السابق في الجيش جايير بولسونارو أول رئيس في تاريخ البرازيل يخسر محاولة لإعادة انتخابه، فقد سقط أمام الرئيس السابق لويس إيناسيو لولا دا سيلفا (2003 – 2011) بفارق 1.8 نقطة مئوية. والواقع أن كثراً استغربوا ضآلة الهامش بالنظر إلى الأخطاء الكثيرة التي شابت ولاية الرئيس اليميني، لا سيما منها تعامله المتساهل و«الإنكاري» مع جائحة «كورونا» الذي كلّف البلاد خسائر بشرية ضخمة في نظر الخبراء.
كان بولسونارو عضواً في الكونغرس الفدرالي عن الحزب الديمقراطي المسيحي بين 1991 و2018. وقد عُرف بخطابه الناريّ وتمجيده لفترة الحكم العسكري (1964 – 1985). وعندما انتُخب رئيساً في أكتوبر 2018 متقدماً بفارق كبير على منافسه اليساري فرناندو حداد، قدّم في السلطة أداء زعيم شعبوي يميل إلى الاستبداد، فمارس ضغوطاً على القضاء، وشكك مراراً وتكراراً بنزاهة نظام التصويت في البلاد.
وقد عمد بولسونارو إلى تغيير وزرائه بشكل متكرر غير آبه بضرورة الاستقرار للاستمرار في الحكم، فعلى سبيل المثال أتى بالمصرفي أبراهام وينتروب وزيراً للتربية والتعليم بديلاً لريكاردو فيليز رودريغز الذي لم يكن أهلاً لهذه الحقيبة المهمة، فلم يُطل البديل البقاء في منصبه بعدما شن هجوماً عنيفاً على فرنسا والصين ودعا إلى سجن قضاة المحكمة العليا! والأسوأ، أن بديل البديل كارلوس ديكوتيللي أقيل قبل أن يباشر مهماته بعدما تبيّن أنه أدرج معلومات كاذبة في سيرته الذاتية... ثم ثبت أن وزير التربية الرابع ميلتون ريبيرو، وهو قسّ إنجيلي، متورط في فساد، فأقيل...
هذا مجرّد غيض من فيض في طريقة حكم رئيس حشر آلاف العسكريين في الإدارات الفدرالية، ومعظمهم غير مؤهّل للمراكز التي شغلها.
واللافت أن كل هذا التخبط، معطوفاً على تباطؤ اقتصادي، لم يؤدِّ إلى خسارة كبيرة لبولسونارو أمام لولا، فقد نال الثاني في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية نسبة 50.9 في المائة من الأصوات مقابل 49.1 في المائة للأول. وفارق مليونين و140 ألف صوت فقط من أصل 156 مليون ناخب مسجل، هو علامة واضحة على انقسام عميق في بلاد تواجه الكثير من الأزمات.
إثنان من مؤيدي بولسونارو في باص بعد إطلاق سراحهما في برازيليا (أ.ب)
* عاصفة الاقتحام
لم يكن اقتحام المؤسسات الديمقراطية في برازيليا عملاً عفوياً تلقائياً. فقد تجمعت نذر العاصفة على مدى أشهر بتداول أخبار عن نظرية المؤامرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وقد تكثفت الدعوات والنداءات من جماعات اليمين المتطرف بعد الانتخابات الرئاسية لرفض النتيجة «المزوّرة» والانقلاب على لولا دا سيلفا.
كان معظم الذين هاجموا مقر الكونغرس والمحكمة العليا والقصر الرئاسي في العاصمة الجبلية التي صممها المعماري الكبير أوسكار نيميير ودُشّنت عام 1960، من الهواة الذين استغلوا الفرصة لتخريب المكاتب والتقاط صور «سيلفي». لكن صفة هواة لا تلغي أن هذا العمل يشكل أكبر تهديد لأكبر ديمقراطية في أميركا اللاتينية منذ انقلاب عام 1964 الذي أدى إلى عقدين من الديكتاتورية العسكرية.
المقلق أن مؤيدي بولسونارو يعتقدون أن الرئاسة سُرقت منه، بعدما دأب الرجل وثلاثة من أبنائه - إدواردو وفلافيو وكارلوس – وعدد من معاونيه على التشكيك في أسس الديمقراطية وسلامة النظام الانتخابي، خصوصاً آلية التصويت الإلكتروني. وإذا كان هذا الأمر يذكّر بما دأب عليه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في هذا المجال، فلا بد من ذكر أن من بين مستشاري بولسونارو الأميركيَّين ستيف بانون وجايسون ميللر، المعاونَين السابقين لترمب...
وقد نشر إدواردو بولسونارو في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي شريط فيديو يروّج فرضيات أطلقها بانون عن استخدام لولا دا سيلفا آلية التصويت الإلكتروني بشكل غير قانوني لـ«سرقة» الانتخابات.
وإدواردو، هو عضو في «الحركة» (The Movement) التي أسسها ستيف بانون وجعل مقرها في بروكسل لبث الفكر الشعبوي اليميني في أرجاء العالم، وممثلها في أميركا اللاتينية.
الانقلاب فشل بالطبع ومعظم الموقوفين الألف عادوا أو سيعودون إلى بيوتهم للتركيز على محاسبة المسؤولين الحقيقيين عما حصل، ومنهم وزير العدل السابق في عهد بولسونارو ووزير الأمن في المقاطعة الفدرالية (برازيليا ومحيطها) أندرسون توريس الذي أمر قاضٍ في المحكمة العليا بتوقيفه، إضاقة إلى إزاحة حاكم المقاطعة إيبانييس روشا. كذلك أصدر القاضي الكسندر دي مورايس مذكرة توقيف في حق فابيو أوغوستو قائد الشرطة في برازيليا، الذي أُقيل من منصبه بعد أعمال العنف.
وجدير بالذكر هنا أن توريس كان موجوداً في الولايات المتحدة، شأنه في ذلك شأن جايير بولسونارو الذي دخل مسشتفى لإصابته بوعكة. وقد تعهّد توريس العودة إلى البلاد والمثول أمام القضاء.
الرئيس لويس إيناسيو لولا دا سيلفا (أ.ب)
* التحديات
لا يعني طيّ الصفحة الأمنية من اقتحام المؤسسات الفدرالية الكبرى انتهاء المشكلة. فبلاد الـ214 مليون نسمة التي اكتشفها عام 1500 أسطول برتغالي كان متجهاً إلى الهند بقيادة بيدرو ألفاريز كابرال، تواجه تحديات كبيرة ليس أقلها حماية الديمقراطية.
التحدّي الأول هو تمكن الرئيس لولا دا سيلفا وفريقه من إقناع الجمهور، لا سيما المؤيد لبولسونارو، بأن المؤسسات الديمقراطية وسائر أجهزة الدولة سليمة وتعمل من أجل البلاد ووحدتها. ففقدان الثقة بالموسسات الفدرالية في بلاد مترامية الأطراف (مساحتها 8 ملايين و500 ألف كيلومتر مربّع) تضم 26 ولاية ومقاطعة فدرالية، يضعها في مواجهة رياح الاضطراب ويهدّد وحدتها.
في ظل واقع الانقسام، باتت مهمة الرئيس الجديد – القديم الذي خرج من السجن بريئاً من تهم الفساد، أكثر صعوبة في ولايته الممتدة أربع سنوات.
ولعل التحدي الأول الذي كان على لولا مواجهته قبل المشكلة الأمنية هو التعامل مع القضية البيئية التي يفرضها واقع أن البرازيل هي موطن لأكثر من 60 في المائة من الغابات الاستوائية في العالم، و 20 في المائة من المياه العذبة، وما لا يقل عن 10 في المائة من التنوع البيولوجي لكوكب الأرض. من هنا لا بد للبرازيل من الاضطلاع بدور ريادي في حماية البيئة عبر التحول إلى اقتصاد أخضر، وهو أمر يحتاج إلى خطة شاملة تحمي بشكل خاص أدغال الأمازون.
ومعلوم هنا أن هذه المنطقة التي تشكل رئة العالم تتعرض منذ سنوات طويلة لتعديات تقضي على مساحات منها بدافع من جشع الراغبين في إقامة مزارع تزيل الأشجار ومواطن للسكان الأصليين. وبالتالي على السلطات الفدرالية العمل بجدية وسرعة على حماية الغابات، وتعزيز صلاحيات السلطات البيئية، وتمكين مجموعات السكان الأصليين، وإلزام الشركات العاملة في الأمازون باحترام البيئة.
أما التحدي الثاني فهو التصدي للفقر، ففي العام 2021، كان حوالى 28.4 في المائة من البرازيليين (أو 60.5 مليون فرد) فقراء. وهؤلاء لا ينعمون قطعاً بالأمن الغذائي، ومنهم لا يحظى بمسكن لائق.
وقد أنهت البرازيل عام 2020 بمعدّل تضخم يبلغ 6 في المائة، ومعدّل فوائد يبلغ 13.75 في المائة. والرقمان يشكلان تحدياً اقتصادياً هائلاً يتمثل في لجم غلاء الأسعار عبر خفض الاستهلاك، من دون الإضرار بعجلة الإنتاج وضرب الناتج الإجمالي. وهذه معادلة صعبة بالطبع تواجهها حالياً غالبية دول العالم.
لكنْ بالنظر إلى حوادث الأحد 8 يناير، يبقى الأهم بالنسبة إلى لولا تحقيق المصالحة وتعزيز التعايش بين المكوّنات السياسية وبالتالي الشعبية. ولا شك في أن الاستقطاب السياسي ولّد عنفاً وينذر بالمزيد. لذا يجب العمل على التوعية والتركيز على أهمية إبقاء الخلاف السياسي والاختلاف الفكري في إطار الوحدة، وعلى صون الديمقراطية، لأن دخول البرازيل في حالة انعدام وزن يعني امتداد الارتدادات إلى أميركا اللاتينية كلها.
البرازيل بعد «هجوم برازيليا» والمهمة الصعبة للرئيس الجديد - القديم
البرازيل بعد «هجوم برازيليا» والمهمة الصعبة للرئيس الجديد - القديم
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة