هولاند في مسجد باريس لتدشين نصب يخلد ذكرى الجنود المسلمين

الرئيس الفرنسي: بلادنا لا يمكنها أن تنسى ثمن الدم المبذول من أجل حريتها

هولاند (الثالث يمينا) ودليل بوبكر (إلى يساره) يزيحان الستار عن النصب التذكاري  للجنود المسلمين خلال حفل نظم في المسجد الكبير بباريس أمس (رويترز)
هولاند (الثالث يمينا) ودليل بوبكر (إلى يساره) يزيحان الستار عن النصب التذكاري للجنود المسلمين خلال حفل نظم في المسجد الكبير بباريس أمس (رويترز)
TT

هولاند في مسجد باريس لتدشين نصب يخلد ذكرى الجنود المسلمين

هولاند (الثالث يمينا) ودليل بوبكر (إلى يساره) يزيحان الستار عن النصب التذكاري  للجنود المسلمين خلال حفل نظم في المسجد الكبير بباريس أمس (رويترز)
هولاند (الثالث يمينا) ودليل بوبكر (إلى يساره) يزيحان الستار عن النصب التذكاري للجنود المسلمين خلال حفل نظم في المسجد الكبير بباريس أمس (رويترز)

لأول مرة منذ انتخابه رئيسا للجمهورية الفرنسية، أدى فرنسوا هولاند قبيل ظهر أمس زيارة إلى مسجد باريس الكبير بمناسبة الكشف عن نصب تذكاري تكريما للجنود المسلمين الذين سقطوا في الميدان خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية دفاعا عن فرنسا. وشكلت المناسبة فرصة لهولاند حتى يطمئن مسلمي فرنسا الذين يقدر عددهم بما بين خمسة إلى ستة ملايين ويؤكد لهم أنهم جزء لا يتجزأ من النسيج الوطني الفرنسي.
وكان مسجد باريس الكبير تهيأ للمناسبة التي حضرتها «الشرق الأوسط» وسط إجراءات أمنية مشددة وانتشار لقوات الشرطة في محيط المسجد. وحضر الاحتفال رئيس مجلس النواب كلود برتولون ووزير الداخلية وشؤون العبادة مانويل فالس ووزير شؤون المدينة فرنسوا لامي ووزير الدولة لشؤون قدامى المحاربين قادر عارف ورئيسة لجنة الشؤون الخارجية ألزابيت غيغو، وأعضاء المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية وعدد من السفراء العرب منهم السفير التونسي عادل فقيه والسفير الجزائري عمار بن جمعة ورئيس معهد العالم العربي جاك لانغ وشخصيات دينية واجتماعية وفكرية وإعلامية من الجالية المسلمة في فرنسا.
وحرص الرئيس هولاند على توجيه نوعين من الرسائل: الأول، يتمحور حول الاعتراف بفضل الجنود المسلمين الذي انخرطوا في الجيش الفرنسي وقاتلوا في صفوفه ودفعوا ضريبة الدم غالية إذ سقط منهم، وفق أرقام وزارة الدفاع، ما لا يقل عن 70 ألف رجل. وهؤلاء قدموا من الجزائر التي كانت تحت الاحتلال الفرنسي ومن المغرب وتونس والسنغال وجزر القمر وغيرها. وقال هولاند إن فرنسا «لا يمكن أن تنسى ثمن الدم الذي أهرق من أجلها» وإنها «مدينة لهؤلاء» الذين ساهموا في الدفاع عنها في الحرب العالمية الأولى بوجه الغزو الألماني وشاركوا في تحريرها من الاحتلال النازي في الحرب العالمية الثانية. ففي الأولى، شارك 170 ألف جزائري وآلاف آخرون من دول المغرب العربي وفي الحرب الثانية، شكل المغاربيون 40 في المائة من القوات التي حررت جزيرة كورسيكا وساهمت في حملة تحرير جنوب البلاد قبل غزو النورماندي. وتوجه هولاند إلى المسلمين قائلا «لمن يتساءل اليوم حول مصيره وموقعه (في المجتمع الفرنسي) وهويته، أريد أن أعبر له عن عرفاننا».
أما الرسالة الثانية فوجهها هولاند لمسلمي فرنسا اليوم الذين يعاني الكثير منهم من التمييز والعنصرية ومن الصورة السلبية والاستغلال السياسي فيما مصالحهم وأماكن عبادتهم تعرضت في العام الماضي لـ226 اعتداء. وقال هولاند، متوجها لمواطنيه إن الإسلام «يتلاءم تماما مع قيم الجمهورية الفرنسية» وإنه «يحمل رسالة الانفتاح والتسامح والتكافل» بعكس الصورة النمطية المكونة عنه من أنه ديانة متعصبة ولا تتعايش مع روح العصر. وشدد هولاند على ضرورة محاربة التمييز وانعدام تكافؤ الفرص والعنصرية والخطاب والأعمال المعادية للإسلام، معتبرا أن أي تعد على مسجد أو كنيسة أو كنيس هو «اعتداء على الأمة الفرنسية بأكملها».
ودافع الرئيس الفرنسي عن العلمانية التي تتيح لجميع المذاهب والطوائف العيش بسلام ووئام، وختم كلمته مؤكدا أن فرنسا «لا تنسى أبدا وتتذكر دوما من مات لأجلها». وكان عميد مسجد باريس ورئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية دليل بوبكر عدد في كلمته الترحيبية بعض مآثر الجنود المسلمين الذين ساهموا في الحروب الفرنسية منذ عام 1833 والذين قتل منهم ما لا يقل عن 100 ألف رجل «خدمة لوطننا المشترك». كما ذكر بوبكر أن مسجد باريس الكبير شيد ما بين عامي 1923 و1926 تكريما لتضحيات هؤلاء، معتبرا أن إقامة النصب «شرف لنا ولكل المسلمين الذين يريدون أن يكونوا مواطنين متساوين ومتساوي الحقوق في الوطن الفرنسي».
ويأتي هذا الحدث في مرحلة استقوت فيها أفكار اليمين المتطرف الذي جعل من التنديد بالمهاجرين وبالإسلام أساسا لسياسته ودعايته الانتخابية. وكان نائب رئيس الجبهة الوطنية الوحيد الذي انتقد زيارة هولاند إلى مسجد باريس والكشف عن النصب التذكاري. وقال لويس أليو إن «التنديد بما يسمى رفض الفرنسيين للإسلام من غير النظر بالتوجهات المتطرفة داخله كالسلفية والجهادية والمطالب الفئوية والتأثيرات الخارجية التي يتعرض لها هو خطأ كبير وعملية تمييزية بحق الفرنسيين الذين يحترمون قوانين الجمهورية». وخلال الحملة الرئاسية السابقة، صوتت أكثرية من المنتمين للجالية الإسلامية لهولاند وضد الرئيس السابق نيكولا ساركوزي.



​أوروبا تحبس أنفاسها على أعتاب ولاية ترمب الثانية

الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال زيارة لبروكسل 25 مايو 2017 (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال زيارة لبروكسل 25 مايو 2017 (رويترز)
TT

​أوروبا تحبس أنفاسها على أعتاب ولاية ترمب الثانية

الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال زيارة لبروكسل 25 مايو 2017 (رويترز)
الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال زيارة لبروكسل 25 مايو 2017 (رويترز)

العالم الذي يبدأ فيه دونالد ترمب ولايته الثانية رئيساً للولايات المتحدة، لا يشبه كثيراً العالم الذي فاز فيه برئاسته الأولى عام 2016. في أوروبا تخوض روسيا حرباً ضروساً ضد أوكرانيا منذ ثلاث سنوات، والاتحاد الأوروبي ما زال يتردد في وضع الركائز الأساسية لاستراتيجية دفاعية موحدة تحجز له مقعداً في الصف الأمامي من المشهد الجيوسياسي الجديد، فيما تقضّ تصريحات ترمب المتعاقبة وتهديداته مضاجع المسؤولين في باريس وبرلين وبروكسل، وتطرب لها آذان القيادات الحاكمة في روما وبودابست ومن لفّ لفيفها من القوى والأحزاب اليمينية المتطرفة، التي تتطلع إلى «عصر ذهبي» تتفتح براعمه خلال الحقبة الترمبية الثانية.

لم تعد المؤسسات الأوروبية الكبرى تخفي قلقها من تداعيات الرياح الأميركية الجديدة، التي بدأت تهب على العالم حتى قبل جلوس ترمب في المكتب البيضوي، وها هو رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان يعلن قُبيل سفره إلى واشنطن لحضور حفل التنصيب، أن ولاية ترمب الثانية ستطلق أجنحة اليمين الأوروبي الجديد، ويبشّر أوربان بحقبة ذهبية في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ويقول: «أعلن انطلاق المرحلة الثانية من الهجوم الكبير الذي يهدف إلى احتلال أوروبا».

أميركي يعتمر قبعة عليها صورة ترمب بواشنطن الاثنين (رويترز)

وخلافاً لما كان عليه الوضع إبّان ولايته الأولى، حين كانت الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا مجرد مشاريع هامشية في المشهد السياسي، أصبح حلفاء ترمب الأوروبيون اليوم على جانب من النفوذ، في الحكم وخارجه، وعلى تناغم تام مع أفكاره ومواقفه الراديكالية حول الهجرة والبيئة والقضايا الاجتماعية، ويشاطرون رؤيته الجيوسياسية لعالم تقوم فيه التحالفات على المصالح التجارية وليس على الأفكار والمعتقدات السياسية. ولم يعد سراً أن المخاوف الأوروبية الكبرى ليست مقصورة على التدابير التجارية المزمعة للرئيس الأميركي الجديد، بل إن أخطرها قد يأتي من «وصفته» لإنهاء الحرب الدائرة في أوكرانيا، ومن مصير العباءة الدفاعية التي يؤمنها الحلف الأطلسي للدول الأوروبية.

العهد الأميركي الجديد يعرف أن «أحصنة طروادة» التي تفاخر بنصرته في أوروبا لم تعد تلك الأحزاب المنبوذة، التي فرضت عليها القوى التقليدية حجراً صحياً منذ عقود، ومنعت وصولها إلى مواقع القرار والسلطة، بل أصبحت في مراكز الحكم وتتوثّب اليوم، مدعومة بسخاء من الأوليغارشية الرقمية، لتوسيع دائرة شعبيتها ونفوذها المباشر بعد أن صارت تشكّل الكتلة الثالثة في البرلمان الأوروبي.

اجتماع سابق لترمب مع قادة «الناتو» في بروكسل (أرشيفية - رويترز)

وهي لم تنم فحسب على الصعيد الانتخابي، في ألمانيا وفرنسا والنمسا وإيطاليا وإسبانيا ورومانيا، بل إن أفكارها وطروحاتها أصبحت تلقى تجاوباً واسعاً في أوساط الرأي العام، وتكاد تتطابق مع تلك التي يطلقها ترمب مثلاً حول الهجرة، أو حول الحرب في أوكرانيا. فكرة الجدار لمنع دخول المهاجرين مثلاً كانت مرفوضة على امتداد المشهد السياسي والاجتماعي في أوروبا، أما اليوم فإن عدداً من الدول الأوروبية يدرس سياسات لمنع الهجرة غير الشرعية التي لا تقلّ راديكالية عن فكرة الجدار.

الانتخابات الأوروبية، التي أجريت مطالع الصيف الماضي أظهرت مدى صعود الموجة اليمينية المتطرفة، وزعزعت أركان الحكم في فرنسا وألمانيا، وأثمرت البرلمان الأوروبي الأكثر جنوحاً نحو اليمين منذ تأسيسه. لكن ذلك لم يكن سوى انعكاس مباشر لواقع ملموس منذ سنوات في الدول الأعضاء، وأصبح اليمين المتطرف اليوم طرفاً في ائتلافات حاكمة، أو طرفاً أساسياً داعماً لها، في إيطاليا والسويد وفنلندا والجمهورية التشيكية وهولندا والمجر وكرواتيا، وهو يتفاوض حالياً للوصول إلى الحكم في النمسا، فضلاً عن أن القوى اليمينية المتطرفة تتطلع إلى زيادة شعبيتها ونفوذها في الانتخابات الألمانية أواخر الشهر المقبل، والرومانية في الربيع، والتشيكية في خريف العام الحالي.

دونالد ترمب يتحدث إلى جانب فلاديمير بوتين خلال لقاء جمعهما في اليابان 28 يونيو 2019 (أرشيفية - رويترز)

تكفي نظرة سريعة على قائمة المدعوين الأوروبيين إلى حفل التنصيب في واشنطن، لنتبيّن حجم «جبهة الإسناد» الأوروبية لترمب داخل الاتحاد الأوروبي: من الإيطالية جورجيا ميلوني إلى المجري فيكتور أوربان، ومن الإسباني سانتياغو أباسكال، إلى تينو شروبالا من «البديل من أجل ألمانيا»، ومن الفرنسي إريك زمور إلى البرتغالي أندريه فينتورا. ميلوني هي الوحيدة بين قادة الاتحاد التي قررت حضور حفل التنصيب، فاتحة بذلك ثغرة جديدة مع شركائها الأوروبيين، يرجح أن تتعمق أكثر في الأشهر المقبلة. لكن الأخطر من ذلك هو أن عودة ترمب تمنح هذه الأحزاب جواز عبور إلى المشهد السياسي الطبيعي في أوروبا، وتتيح للإدارة الجديدة التأثير المباشر في السياسات الأوروبية، والقدرة على زرع الشقاق لفتح الطريق أمام سياساتها التجارية والتكنولوجية، خاصة بعد دخول اصطفاف الشركات التكنولوجية الضخمة إلى جانب الرئيس الأميركي الجديد، ومساعيها المعروفة للالتفاف على القواعد الأوروبية.

ترمب من جهته أوضح غير مرة أنه يريد تصحيح الخلل في الميزان التجاري مع أوروبا، عن طريق رفع الرسوم الجمركية، وزيادة الاستثمارات الأوروبية في الولايات المتحدة، فضلاً عن مطالبته برفع نسبة مساهمات الأعضاء الأوروبيين في ميزانية الحلف الأطلسي، وزيادة مشاركتهم في جهود إعمار أوكرانيا. لكن الهاجس الأوروبي الأكبر يبقى في الحفاظ على وحدة الصف والموقف أمام الضغوط والتهديدات الأميركية.