تأملات في وقائع موت غامض

«مديح التعازي» لعبد القادر الشاوي

تأملات في وقائع موت غامض
TT

تأملات في وقائع موت غامض

تأملات في وقائع موت غامض

يمكن وصف كتاب «مديح التعازي» لعبد القادر الشاوي (منشورات الفنك، الدار البيضاء، 2022)، بأنه انتقال ذهني من ترقب ما بعد الحياة، إلى استكناه صلة هذا «الما بعد» بالأحاسيس القاتمة التي تخترقه، وتؤجل كل مسعى لفهم أحواله والتصالح مع معناه. وقد لا يكون تزيداً في القول اعتبار هذا الإصدار السير - الذاتي فريداً في منواله ضمن الكتابات العربية المعاصرة، فهو سردية للموت عبر إعادة نسج الصلات بين صفات الوفاة والتلاشي والخروج والفناء والارتقاء؛ تستدعي الغياب بما هو فكرة تسعى المفردات لحصارها في حديث العارفين والبلغاء. من هنا بدت فقرات عديدة من الكتاب وكأنها محاورة لآيات القرآن الكريم، في الآن ذاته الذي تعيد رتق الفجوات بين مقامات النظر في كتب «التفاسير» و«التراجم» و«الطبقات» وفي سرود السير والروايات والمحكيات المعاصرة، العربية والغربية؛ حيث تجلى الجسد في كثير من المقاطع بما هو «بيت» مجبول من «طين» و«ماء»، والروح بما هي «داخل» و«خارج» من ذاك المستقر، وهما معاً بوصفهما جدلية لا تفتر تولد تأويلاتها في وعي الأحياء التواقين لدرء الفناء.
ويمثل «مديح التعازي» في هذا السياق، تنويعاً على سلسلة إصدارات عبد القادر الشاوي المتصلة بذاكرة الاعتقال والمرض ثم السفر عبر أرجاء الكون، بوصفها وقائع وموضوعات مرتهنة بالمسار الشخصي، في أعماله الممتدة من: «كان وأخواتها» (1987) إلى «التيهاء» (2021)، مروراً بـ«دليل العنفوان» (1989) و«باب تازة» (1994)، و«الساحة الشرفية» (1999)، و«دليل المدى» (2003) و«من قال أنا» (2006) ثم «بستان السيدة» (2018) و«مرابع السلوان» (2020). إنها لحظة نثرية مضافة لا تخلو من نزوع فنطازي لحلقات استرجاع تأملي، تتجلى عبرها تفاصيل العمر القديم وكأنما من عمق لحدي؛ وجوهٌ متقلبة لشخص يَمْثُلُ بوصفه «آخر»، بوقائع وأهواء وصلات منتهية، وصداقات تعيد تركيب كلام منسي، ومواقف تنأى عن الحاضر، وعن الشخص الملتفت إلى وقائع الذاكرة البعيدة، والمقلّب لبقايا الاسم الذي كانه. لهذا تقترن الاستعادة التخييلية بنزوع جنائزي، يطبع وعي الجسد والروح، في مجمل فقرات السرد وفصوله، سيما تلك التي تعيد تركيب تفاصيل محن مرزئة، إنه الإحساس الذي ينزغنا، من الوهلة الأولى، وحتى المقاطع الأخيرة من تأملات السارد في وقائع الموت الغامض والسهل والممتحن للفكر والوجدان.
يتضمن «مديح التعازي» ثلاثة فصول وحاشية، مع قائمة مراجع، حمل الفصل الأول عنوان «المناظرة أو المطارحة»، والثاني «المخاتلة أو المراوغة» والثالث «المماثلة أو المطابقة»، في بنية مصاحبة وعطف تولد من المفردات مرادفاتها المتطرفة. في إحدى فقرات الحاشية، يطفر الخيط السري الجامع بين فصول الرحلة الجامعة بين معارف الفناء الجسدي والتحلل العضوي وفقه الدفن وفلسفة الهروب من الموت، ووعي النصوص الدينية والفكرية والصوفية والسياسية بالغياب وتصريفها للموافق منه. يكشف السرد في تلك الفقرة صدور هذا الضمير المأتمي من لحظة الحصار، والحجر الصحي، التي فرضت العودة إلى الذات واستحضار الماضي، والوقوع على عتبات الإصابة، والخضوع لترهيب السلطة من الجائحة الغامضة، يقول: «أعْنَفَ ما قد نُصاب به هو الغموض، المصطلح المُحَقَّر في جميع اللغات، والذي، بِالاتفاق بين الناس، لم يسلم إلا من الوضوح، فَظَلَّ على حاله تائهاً غائباً... ولكَ أنْ تَعْرِفَ أن الغموض في العربية هو إطْبَاقُ الجَفْن والنوم، كما أن غَمض في الأرض غَمْضاً يعني الذهاب فيها والغياب. وهذا ما أرى فيه قرابة في التطابق الذي قد يَستشعِرُه الفرد بين فقدان ذاكرته بِفِعلٍ، وبين مفهوم الغموض بِالشيء. عَمَاءٌ في الحالتيْنِ لم يسبق لهما إن كانا بِالحِدَّة والقُوَّة التي هُمَا عليها أمام فيروس (لا يُرَى بالعين المُجَرَّدة بل بالتحليل في المختبرات)» (ص292).
تستمد مفردات السارد وتعابيره دلالاتها من الإيهام بوجوده في محل برزخ بين تبيين الموت وتبديد التباسه، وتضمين الإيحاء بالوجود بين براثنه، فمنذ البداية ثمة ذاكرة تحتال للتخفف من وقع ضاغط، يسعى لتبليغ الأثر العاطفي والحالة الذهنية لحال الذهاب الحتمي، وكأنما كل تلك التفاصيل عن الروح والجسد، بدءاً بتمثيلاتها في الآيات والأحاديث والرؤى والأحلام، وانتهاء بصلة الموت بالتفسير العلمي، مروراً بالوعي اللحدي، وأحوال التعامل مع المقابر والشواهد، وهندسة راحة الأحياء الذاهبين لملاقاة المستقرين في ضجعتهم الأبدية، مجرد سعي لبيان وضع الالتباس الذي تعيشه الذات في استيعاب «الما بعد»، وما يتصل بها من رهاب ومحاولة فهم، وتشبث بتأجيل الوداع.
وتدريجياً توحي سردية الشاوي لقارئها بأن الموت لا ينفصل عن كونه «حداً» لوجود ما، إلا ليعانق إطلاقه ورمزيته. لا ينتهي من إيهامه بالنهاية إلا ليولد تمثيلاته، وصوره، وجمالياته التخييلية. من هنا، قد يكون الموت خاتمة بمعنى ما، بيد أنه حياة في محيط وقوعه. ومنطلق لأشكال شديدة التعقيد من الخطابات والأنساق السجالية، التي لا تعوزها البلاغة وقوة التأثير. بالطبع، فإن نهاية الأشخاص، وسقوطهم في لحظة من لحظات الزمن، وفي جغرافيا إنسانية بعينها، لا تفتقر، بحد ذاتها، للوقع والقدرة على إثارة الخيال. فالموت درامي في جوهره؛ إنما الذي ينفذ تلك الدرامية، ويمنحها جمالية مميزة، هو قدرة الآخرين، الأحياء، على تشغيل رمزية الموت، وشحنه بمعاني حياتهم، «هم»، وجعله مرتكزاً في «بلاغتهم»، وقدرتهم على الإقناع.
غياب الفرد - إذن - نهاية له وحده، ولكنه فرصة استثنائية للتخييل وإنتاج الصور. فهو رفع للحرج الفكري والأسلوبي، وجسر للهوة بين الضرورة والحرية. ذلك ما يفسر تضمين «مديح التعازي» عشرات القراءات والاقتباسات والتحليلات لنصوص شعراء وروائيين وفلاسفة وسياسيين عن الفناء المتخايل؛ منذ سعى أتباع الزعيم الشيوعي «لينين» لتأبيد حضوره بتحنيط جسده، إلى محكية الفقيه المغربي «محمد سليطن العلوي» ووصفته عن «دواء الموت»، مروراً بمواقف «آلان باديو» و«فيرناندو سافاتار» و«حنا ارندت» و«جاك ديريدا» و«فرانسوا شانغ» و«فيرناندو بيسوا» و«بول ريكور»... وغيرهم، ثمة في كل مرة تأمل في وقائع موت غامض، ومحكية عن فناء بنسغ نثري، تدور أحداثها عند عتبة «الجاهزية» لصعود الروح، بوصفها فاصلاً وجودياً، وانقطاعاً في الصلات بالناس والأهل والصداقات، وتحولاً في المشاعر، ولحظة في سيرورة لا يمكن انتزاعها عما قبلها، أي عن ذاكرتها الملتصقة بمتوالية العقل والإدراك والتخيل، التي تمنح إمكانية وصل الموت بصفات تمثله الذهني، من «الغياب الغنوصي» إلى «الفناء الصوفي» إلى «الموت النيتشوي»، أو بجعل الحياة في سقوطها مجرد مساكنة للموت.
وفي لحظة من التخييل الذاتي المازج بين التحليل والتأريخ والنقد السياسي، يطالعنا صوت السارد المتخذ إهاب جثة لحظة غسلها وتشييعها؛ حيث يتوقف ليضع احتمالات فنطازية ساخرة حيناً وسوداوية حيناً آخر، ومريرة دوماً، عن صلة هذا الميت الذي سيكونه (أو الذي ارتدى قناعه) بالآخرين، في مراتبهم المختلفة، مناضلين حزبيين، وسلطة سياسية، ورفاق مسار، وأصدقاء لا تتخذ الحياة صورها إلا عبر ما ينسجونه من صلاة عذبة أو معذبة مع المنذور للغياب. وسرعان ما يركب الأسلوب السردي نزوع إلى التمسرح في التخاطب بين الجثة وغرمائها الأحياء أو بينها وبين ضميرها المستتر، بقصد تخييل مواقف من العزاء والسلوان والتذكر والوداع وسرعة التخلص من عبء الميت... بتعبير السارد: «كلما كنت أقترب من المكان الذي خصصوه لي من دون استشارة، إلا وكانت تلك الأصوات تجري على اللسان فوق ما جرت أكثر فأكثر، مرحة لا لأننا في مقام الموت، بل من إحساس بالعدم، ورغبة أكيدة في التخلص السريع من ذلك الشعور الثقيل بالعزاء أو مني كذلك، أو هكذا كان يُخيّل إليّ، ويا كم أشك، في تفكير الذين أتوا ورائي مشيعين لجثتي» (ص 250).
هكذا يمكن قراءة «مديح التعازي» بما هو سردية لاستبطان الموت، وكشف القيم والأحاسيس المتقاطبة التي تتفجر بين البدايات والنهايات، بين الذوات (المغادرة) والآخرين (الباقين)، فتنقلب معها المعاني والرؤى المقترنة بالزمن والفضاء والذاكرة والتفصيل اليومي. ويصير الموت الزاحف شيئاً فشيئاً هو الحقيقة الحياتية، الوحيدة، التي تمتلك معنى قدسياً، يُكسب المحيط دلالاته الإنسانية، ويبدد الشعور الضاغط بالعقم واللاجدوى. كما يمكن قراءته بما هو تميمة لدرء الخوف من حقيقة لا فكاك منها ولوعي الانتقال إلى عتباتها، قبل المستقر الأبدي، كتبت بلغة روائية ترقى أحياناً لمقام النثر، في عمقه الفلسفي وسخريته المبطنة، وجنوحه لتقويض القناعات المستقرة.
*كاتب وأكاديمي مغربي


مقالات ذات صلة

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

كتب دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

يضم الكتاب مجموعة من البحوث والدراسات الأكاديمية وموضوعات وقراءات تتعلق بالجانب الاجتماعي - الاقتصادي

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
كتب بعض واجهات المكتبات

موجة ازدهار في الروايات الرومانسية بأميركا

الصيف الماضي، عندما روادت ماي تنغستروم فكرة فتح مكتبة لبيع الروايات الرومانسية بمنطقة فنتورا بكاليفورنيا

ألكسندرا ألتر
كتب الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

يتناول الناقد والباحث اليمني د. فارس البيل نشأة وجذور السرد الإبداعي في منطقة الخليج وعلاقة النص بالتطورات الاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة

رشا أحمد (القاهرة)

لماذا تتغيّر عناوين روايات في الترجمة؟

غلاف موت صغير
غلاف موت صغير
TT

لماذا تتغيّر عناوين روايات في الترجمة؟

غلاف موت صغير
غلاف موت صغير

كان لترجمة الدكتورة، مارلين بوث، رواية جوخة الحارثي «سيدات القمر» دور في تقوية اهتمام صغير لديّ؛ الاهتمام بتغيّر، أو ضياع العناوين الأصلية لبعض الروايات العربية المترجَمة إلى الإنجليزية على نحو خاص.

في بداية الأمر، كان ذلك الاهتمام الصغير ينحصر في محاولة فهم الأسباب التي تجعل المترجِمات والمترجِمين يغيّرون عناوين الروايات، أو التخمين بالأسباب، إذا تعذّر معرفتها، ثم جاءت ترجمة بوث «Celestial Bodies/ أجرام سماوية» لتكون نقطة تحوّل في اهتمامي، أو لحظة تطوّره إلى مستوى أعمق وأكثر إمتاعاً... قراءة ما يجود به محرك البحث مما كُتب ونُشر من مقالات ودراسات تناقش تغيّر العناوين في الترجمة.

البداية مع «سيدات القمر»

الساعة الثامنة والنصف من مساء السابع عشر من سبتمبر (أيلول) 2019، موعد محاضرة الدكتور سعد البازعي، الموسومة بـ«سيدات القمر... الرواية والترجمة»، التي شَرُفْتُ بإدارتها، وكنتُ في خلالها أتمنى لو أنني جالس على مقعد بين الحضور، متحرّراً من القيود التي قيّدت بها نفسي وكبّلت لساني، لأطرح على د. البازعي الأسئلة التي تمور في ذهني، دون الشعور بالخوف من الاستئثار بجزء كبير من الوقت، يفترض أن يكون مخصّصاً لأسئلة ومداخلات الحضور.

غلاف سيدات القمر

ذهبتُ إلى الأمسية في فرع «جمعية الثقافة والفنون السعودية» بالدمام بثلاثة أسئلة، استطعت، ولله الحمد، كَبْتها داخلي، حتى السؤال الذي كنت أعُدّه أهمها، واكتفيت بإدارة الأمسية بأقل قدر ممكن من الكلام.

وعُدت إلى البيت بسلام، وقد ساعدني على قمع ذلك السؤال أن د. البازعي لم يتطرق في محاضرته إلى تغيّر، أو ضَياع العنوان في الترجمة، أو إلى أسباب تغيّره المحتملة، ودلالات تغيّره، وعلاقة ثقافة اللغة الهدف بذلك.

كنتُ أريدُ سؤال د. البازعي رأيه في تغيير (د. بوث) للعنوان، وتجنّبها ترجمتَه حرفياً إلى عنوان مثل (Ladies of the Moon)، أو أي عنوان آخر بصيغة مشابهة. سؤال بسيط لم أوفّق إلى العثور على إجابات عنه حينذاك فيما قرأته من حوارات مع الروائية أو المترجِمة بعد فوز الترجمة الإنجليزية بجائزة «بوكر» الدولية 2019.

الآن، وأنا أستعيد لحظات البحث والنبش، أعزو إخفاقي في العثور على إجابات من الروائية والمترجِمة إلى أن بحثي ربما لم يكن دقيقاً وواسعاً كفايةً، رغم تأكدي من أنني بذلت قصارى جهدي ووقتي.

حرصت على الحصول على إجابات عن سؤالي، خصوصاً من الروائية أو المترجِمة، أو منهما معاً، لعل وعسى يكون فيها ما يلتقي ويتقاطع مع إجابتي عن السؤال نفسه، ويؤكد معقوليتها، وأنها لم تُجانب ولو قدراً ضئيلاً من حقيقة سبب أو أسباب تغيّر عنوان رواية الحارثي، أو ضياعه في الترجمة.

وانتهى بي المطاف، مع مرور الوقت، إلى نسيان ما فهمتها وفسّرتها على أنها أسباب تغيير عنوان الرواية؛ نسيان استمر إلى ما قبل كتابة هذه المقالة بأيام، حين تداعت إلى الذاكرة «سيدات القمر»، ومؤلفتها ومترجِمتها في خلال تصفّحي مجلة «رياض ريفيو أوف بوكس».

«موت صغير»... رواية العناوين المتعددة

تعرّض عنوان رواية محمد حسن علوان «موت صغير» لإضافات وتغييرات طفيفة جداً في ترجماته جعلته يبدو متعدداً، مع حفاظه على حرفيته، وعلاقته بمحتوى النصّ، فمثلاً، يلتقي متصفح «رياض ريفيو أوف بوكس»، بمراجعة لـ«موت صغير» بعنوان «Little Death»، أنجزتها الشاعرة والقاصّة والصحافية المصرية مروى مجدي، ويترجم موقع الجائزة العالمية للرواية العربية عنوان رواية علوان إلى «A Small Death»، ويظهر العنوان نفسه في الترجمة الإنجليزية لمقالة الكاتب والناقد المصري محمود حسني، المنشورة في «Arab Lit»، مجلة الأدب العربي المترجم، ويختفي الحرف «A» من عنوان الرواية «Small Death»، في القراءة النقدية التي أنجزها د. أشرف سعيد قطب متولي ومحمد السباعي زايد (جامعة الجوف)، ونُشرت في مجلة لندن للبحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية بالعنوان «نزع الأسطورة عن ابن عربي في رواية الروائي السعودي محمد حسن علوان (موت صغير)... قراءة ما بعد حداثية».

تتميز تلك الترجمات لعنوان رواية علوان بالاختلافات الرفيعة بينها، لكن المميز الأهم هو أنها ترجمات للعنوان تمّت بمعزل عن النصّ، ترجمات إنجليزية للعنوان أُنجزت لغرض مراجعات وقراءات نقدية لنص عربي، كُتبت بالإنجليزية أو نُقلت إليها، أي لم تكن في الأصل عناوين لترجمات إنجليزية متعددة لنص واحد، ليست ترجمات لمنتَج ثقافي تُرجم لغاية نقله إلى ثقافة أخرى؛ لذا يبدو أن أصحابها لم يكترثوا بالمسائل التي تشغل في العادة اهتمام من ينقل نصاً من اللغة المصدر إلى اللغة الهدف، فكانوا في حرية من الالتزام بالقواعد والعوامل التي تؤثر على عملية اختيار العناوين المناسبة للنصوص المترجمة، وهذا ما يجعلها مختلفة عن العنوان الذي اختاره الأكاديمي والمؤلف ومترجم الأدب العربي المعاصر، ويليام مينارد هتشنز، لترجمته لـ«موت صغير»: «Ibn Arabi’s Small Death»، الذي من الممكن مناقشته في ضوء الأدبيات، والتنظير المتعلق بترجمة العناوين.

إغراء القارئ

يكشف عنوان هتشنز وعيه أن «موت صغير» منتَج ثقافي، أو على نحو أكثر وضوحاً، سلعة ثقافية، وأن ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية يعني نقلها إلى ثقافة أخرى، إلى متلقّ يختلف عن متلقّيها بلغتها الأصل، وأن ذلك المتلقي المستهدَف ينتمي إلى ثقافة لا يستطيع أن يكون في حالة مناعة مطلقة ضد تأثيرها على استقباله للنص المنقول من ثقافة غريبة، فضلاً عن أن رواج المنتَج الثقافي يتطلّب توفر عنوان جاذب للقارئ المحتمل، لذلك أضاف اسم الشخصية المحورية «ابن عربي»، مراهناً على كونه معروفاً في الغرب؛ لجذب انتباه القارئ الغربي.

وتلعب مسألة جذب وإغراء القارئ الهدف بالنص المترجَم دوراً حاسماً في تغيّر عنوان رواية «فخاخ الرائحة»، ليوسف المحيميد، أو بالأحرى، إبداله بعنوان آخر، فعلى الرغم من أن الجامعة الأميركية في القاهرة - مالكة حقوق النشر في الشرق الأوسط - وافقت على ترجمة توني كالدربانك الحرفية للعنوان «Traps of the Scent»، حسب ما ذكره المحيميد، إلا أنّ الناشر «بنغوين»، مالك حقوق النشر العالمية، اقترحوا العنوان «Wolves of the Crescent Moon / ذئاب الهلال»، وتركوا قرار اختيار العنوان للمترجِم وللروائي المحيميد، واقترح الأخير على المترجِم عرض العناوين على عشرة قراء أجانب، وجاءت الردود العشرة مُفَضِّلَةً بالإجماع العنوان الذي اقترحه الناشر «بنغوين»، وقد استطاع المترجم كالدربانك والمحيميد فرضه على الجامعة الأميركية، ما يدل على أن اختيار العنوان المناسب للترجمة قد يشارك فيه آخرون إلى جانب المترجِم.

العناوين في الترجمة

يقسم ماورزيو فيزي، في مقالته «العناوين في الترجمة»، العناوين إلى: أساسية، وأخرى اختيارية، ويفترض أن يقوم أي عنوان بكل الوظائف الأساسية، وفي مقدمتها وظيفة التسمية، (appellative)، كما يسمّيها ليو هوك؛ أحد مؤسّسي علم العناوين، حسب جيرار جينيت. ويضيف جينيت أن هوك يُعَرِّف العنوان بأنه سلسلة من «الإشارات اللغوية التي يمكن أن تظهر على رأس النص؛ للدلالة عليه، ولبيان محتواه، ولتوجيهه إلى الجمهور المستهدف»، (بنية ووظائف العنوان في الأدب)، موضحاً أن الوظيفة الأولى – التسمية/ الدلالة على النص - إلزامية، بينما الإشارة إلى المحتوى وإغراء الجمهور وظيفتان اختياريتان.

ويُورِد فيزي في مقالته عشرة أسباب أو أغراض وراء تغيير المترجمين عناوين النصوص المترجَمة: تقديم وجهة نظر مختلفة، تسليط الضوء على جانب أو شخصية مختلفة، إبدال العناوين الأصلية بأخرى مترجمة أكثر وضوحاً، إضافة معلومات عن الجنس الأدبي إلى العنوان المصدر، قد تُقدّم العناوين المترجمة زوايا رؤية أو مفاتيح مختلفة لتأويل النصوص المترجمة، الإشارة إلى درس أخلاقي يمكن تعلّمه، إضافة أسماء شخصيات مشهورة إلى العناوين كوسيلة لجذب القراء، قد تحتوي العناوين المترجمة على إشارات تناصّية وبينيّة، تأكيد العناوين المترجمة على الجوانب المُغرية، واختلاف العناوين المترجمة في محتواها الدلالي من لغة هدف إلى أخرى.

ويذكر فيزي أن البعض يرفض استعمال كلمة «ترجمة» عند الإشارة إلى العملية المؤدّية من عنوان مصدر إلى عنوان هدف، ويعتبرون ما يحدث تكييفاً أو نقلاً أو استبدالاً، والاستبدال هو ما يحدث لعنوان رواية المحيميد المذكورة، وأيضاً لعنوان رواية جوخة الحارثي؛ حيث لا يوجد أثر من العنوان الأصل في عنوان الترجمة الإنجليزية.

*ناقد وكاتب سعودي