تأملات في وقائع موت غامض

«مديح التعازي» لعبد القادر الشاوي

تأملات في وقائع موت غامض
TT

تأملات في وقائع موت غامض

تأملات في وقائع موت غامض

يمكن وصف كتاب «مديح التعازي» لعبد القادر الشاوي (منشورات الفنك، الدار البيضاء، 2022)، بأنه انتقال ذهني من ترقب ما بعد الحياة، إلى استكناه صلة هذا «الما بعد» بالأحاسيس القاتمة التي تخترقه، وتؤجل كل مسعى لفهم أحواله والتصالح مع معناه. وقد لا يكون تزيداً في القول اعتبار هذا الإصدار السير - الذاتي فريداً في منواله ضمن الكتابات العربية المعاصرة، فهو سردية للموت عبر إعادة نسج الصلات بين صفات الوفاة والتلاشي والخروج والفناء والارتقاء؛ تستدعي الغياب بما هو فكرة تسعى المفردات لحصارها في حديث العارفين والبلغاء. من هنا بدت فقرات عديدة من الكتاب وكأنها محاورة لآيات القرآن الكريم، في الآن ذاته الذي تعيد رتق الفجوات بين مقامات النظر في كتب «التفاسير» و«التراجم» و«الطبقات» وفي سرود السير والروايات والمحكيات المعاصرة، العربية والغربية؛ حيث تجلى الجسد في كثير من المقاطع بما هو «بيت» مجبول من «طين» و«ماء»، والروح بما هي «داخل» و«خارج» من ذاك المستقر، وهما معاً بوصفهما جدلية لا تفتر تولد تأويلاتها في وعي الأحياء التواقين لدرء الفناء.
ويمثل «مديح التعازي» في هذا السياق، تنويعاً على سلسلة إصدارات عبد القادر الشاوي المتصلة بذاكرة الاعتقال والمرض ثم السفر عبر أرجاء الكون، بوصفها وقائع وموضوعات مرتهنة بالمسار الشخصي، في أعماله الممتدة من: «كان وأخواتها» (1987) إلى «التيهاء» (2021)، مروراً بـ«دليل العنفوان» (1989) و«باب تازة» (1994)، و«الساحة الشرفية» (1999)، و«دليل المدى» (2003) و«من قال أنا» (2006) ثم «بستان السيدة» (2018) و«مرابع السلوان» (2020). إنها لحظة نثرية مضافة لا تخلو من نزوع فنطازي لحلقات استرجاع تأملي، تتجلى عبرها تفاصيل العمر القديم وكأنما من عمق لحدي؛ وجوهٌ متقلبة لشخص يَمْثُلُ بوصفه «آخر»، بوقائع وأهواء وصلات منتهية، وصداقات تعيد تركيب كلام منسي، ومواقف تنأى عن الحاضر، وعن الشخص الملتفت إلى وقائع الذاكرة البعيدة، والمقلّب لبقايا الاسم الذي كانه. لهذا تقترن الاستعادة التخييلية بنزوع جنائزي، يطبع وعي الجسد والروح، في مجمل فقرات السرد وفصوله، سيما تلك التي تعيد تركيب تفاصيل محن مرزئة، إنه الإحساس الذي ينزغنا، من الوهلة الأولى، وحتى المقاطع الأخيرة من تأملات السارد في وقائع الموت الغامض والسهل والممتحن للفكر والوجدان.
يتضمن «مديح التعازي» ثلاثة فصول وحاشية، مع قائمة مراجع، حمل الفصل الأول عنوان «المناظرة أو المطارحة»، والثاني «المخاتلة أو المراوغة» والثالث «المماثلة أو المطابقة»، في بنية مصاحبة وعطف تولد من المفردات مرادفاتها المتطرفة. في إحدى فقرات الحاشية، يطفر الخيط السري الجامع بين فصول الرحلة الجامعة بين معارف الفناء الجسدي والتحلل العضوي وفقه الدفن وفلسفة الهروب من الموت، ووعي النصوص الدينية والفكرية والصوفية والسياسية بالغياب وتصريفها للموافق منه. يكشف السرد في تلك الفقرة صدور هذا الضمير المأتمي من لحظة الحصار، والحجر الصحي، التي فرضت العودة إلى الذات واستحضار الماضي، والوقوع على عتبات الإصابة، والخضوع لترهيب السلطة من الجائحة الغامضة، يقول: «أعْنَفَ ما قد نُصاب به هو الغموض، المصطلح المُحَقَّر في جميع اللغات، والذي، بِالاتفاق بين الناس، لم يسلم إلا من الوضوح، فَظَلَّ على حاله تائهاً غائباً... ولكَ أنْ تَعْرِفَ أن الغموض في العربية هو إطْبَاقُ الجَفْن والنوم، كما أن غَمض في الأرض غَمْضاً يعني الذهاب فيها والغياب. وهذا ما أرى فيه قرابة في التطابق الذي قد يَستشعِرُه الفرد بين فقدان ذاكرته بِفِعلٍ، وبين مفهوم الغموض بِالشيء. عَمَاءٌ في الحالتيْنِ لم يسبق لهما إن كانا بِالحِدَّة والقُوَّة التي هُمَا عليها أمام فيروس (لا يُرَى بالعين المُجَرَّدة بل بالتحليل في المختبرات)» (ص292).
تستمد مفردات السارد وتعابيره دلالاتها من الإيهام بوجوده في محل برزخ بين تبيين الموت وتبديد التباسه، وتضمين الإيحاء بالوجود بين براثنه، فمنذ البداية ثمة ذاكرة تحتال للتخفف من وقع ضاغط، يسعى لتبليغ الأثر العاطفي والحالة الذهنية لحال الذهاب الحتمي، وكأنما كل تلك التفاصيل عن الروح والجسد، بدءاً بتمثيلاتها في الآيات والأحاديث والرؤى والأحلام، وانتهاء بصلة الموت بالتفسير العلمي، مروراً بالوعي اللحدي، وأحوال التعامل مع المقابر والشواهد، وهندسة راحة الأحياء الذاهبين لملاقاة المستقرين في ضجعتهم الأبدية، مجرد سعي لبيان وضع الالتباس الذي تعيشه الذات في استيعاب «الما بعد»، وما يتصل بها من رهاب ومحاولة فهم، وتشبث بتأجيل الوداع.
وتدريجياً توحي سردية الشاوي لقارئها بأن الموت لا ينفصل عن كونه «حداً» لوجود ما، إلا ليعانق إطلاقه ورمزيته. لا ينتهي من إيهامه بالنهاية إلا ليولد تمثيلاته، وصوره، وجمالياته التخييلية. من هنا، قد يكون الموت خاتمة بمعنى ما، بيد أنه حياة في محيط وقوعه. ومنطلق لأشكال شديدة التعقيد من الخطابات والأنساق السجالية، التي لا تعوزها البلاغة وقوة التأثير. بالطبع، فإن نهاية الأشخاص، وسقوطهم في لحظة من لحظات الزمن، وفي جغرافيا إنسانية بعينها، لا تفتقر، بحد ذاتها، للوقع والقدرة على إثارة الخيال. فالموت درامي في جوهره؛ إنما الذي ينفذ تلك الدرامية، ويمنحها جمالية مميزة، هو قدرة الآخرين، الأحياء، على تشغيل رمزية الموت، وشحنه بمعاني حياتهم، «هم»، وجعله مرتكزاً في «بلاغتهم»، وقدرتهم على الإقناع.
غياب الفرد - إذن - نهاية له وحده، ولكنه فرصة استثنائية للتخييل وإنتاج الصور. فهو رفع للحرج الفكري والأسلوبي، وجسر للهوة بين الضرورة والحرية. ذلك ما يفسر تضمين «مديح التعازي» عشرات القراءات والاقتباسات والتحليلات لنصوص شعراء وروائيين وفلاسفة وسياسيين عن الفناء المتخايل؛ منذ سعى أتباع الزعيم الشيوعي «لينين» لتأبيد حضوره بتحنيط جسده، إلى محكية الفقيه المغربي «محمد سليطن العلوي» ووصفته عن «دواء الموت»، مروراً بمواقف «آلان باديو» و«فيرناندو سافاتار» و«حنا ارندت» و«جاك ديريدا» و«فرانسوا شانغ» و«فيرناندو بيسوا» و«بول ريكور»... وغيرهم، ثمة في كل مرة تأمل في وقائع موت غامض، ومحكية عن فناء بنسغ نثري، تدور أحداثها عند عتبة «الجاهزية» لصعود الروح، بوصفها فاصلاً وجودياً، وانقطاعاً في الصلات بالناس والأهل والصداقات، وتحولاً في المشاعر، ولحظة في سيرورة لا يمكن انتزاعها عما قبلها، أي عن ذاكرتها الملتصقة بمتوالية العقل والإدراك والتخيل، التي تمنح إمكانية وصل الموت بصفات تمثله الذهني، من «الغياب الغنوصي» إلى «الفناء الصوفي» إلى «الموت النيتشوي»، أو بجعل الحياة في سقوطها مجرد مساكنة للموت.
وفي لحظة من التخييل الذاتي المازج بين التحليل والتأريخ والنقد السياسي، يطالعنا صوت السارد المتخذ إهاب جثة لحظة غسلها وتشييعها؛ حيث يتوقف ليضع احتمالات فنطازية ساخرة حيناً وسوداوية حيناً آخر، ومريرة دوماً، عن صلة هذا الميت الذي سيكونه (أو الذي ارتدى قناعه) بالآخرين، في مراتبهم المختلفة، مناضلين حزبيين، وسلطة سياسية، ورفاق مسار، وأصدقاء لا تتخذ الحياة صورها إلا عبر ما ينسجونه من صلاة عذبة أو معذبة مع المنذور للغياب. وسرعان ما يركب الأسلوب السردي نزوع إلى التمسرح في التخاطب بين الجثة وغرمائها الأحياء أو بينها وبين ضميرها المستتر، بقصد تخييل مواقف من العزاء والسلوان والتذكر والوداع وسرعة التخلص من عبء الميت... بتعبير السارد: «كلما كنت أقترب من المكان الذي خصصوه لي من دون استشارة، إلا وكانت تلك الأصوات تجري على اللسان فوق ما جرت أكثر فأكثر، مرحة لا لأننا في مقام الموت، بل من إحساس بالعدم، ورغبة أكيدة في التخلص السريع من ذلك الشعور الثقيل بالعزاء أو مني كذلك، أو هكذا كان يُخيّل إليّ، ويا كم أشك، في تفكير الذين أتوا ورائي مشيعين لجثتي» (ص 250).
هكذا يمكن قراءة «مديح التعازي» بما هو سردية لاستبطان الموت، وكشف القيم والأحاسيس المتقاطبة التي تتفجر بين البدايات والنهايات، بين الذوات (المغادرة) والآخرين (الباقين)، فتنقلب معها المعاني والرؤى المقترنة بالزمن والفضاء والذاكرة والتفصيل اليومي. ويصير الموت الزاحف شيئاً فشيئاً هو الحقيقة الحياتية، الوحيدة، التي تمتلك معنى قدسياً، يُكسب المحيط دلالاته الإنسانية، ويبدد الشعور الضاغط بالعقم واللاجدوى. كما يمكن قراءته بما هو تميمة لدرء الخوف من حقيقة لا فكاك منها ولوعي الانتقال إلى عتباتها، قبل المستقر الأبدي، كتبت بلغة روائية ترقى أحياناً لمقام النثر، في عمقه الفلسفي وسخريته المبطنة، وجنوحه لتقويض القناعات المستقرة.
*كاتب وأكاديمي مغربي


مقالات ذات صلة

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

كتب دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

دراسات اجتماعية - اقتصادية مع التركيز على العراق

يضم الكتاب مجموعة من البحوث والدراسات الأكاديمية وموضوعات وقراءات تتعلق بالجانب الاجتماعي - الاقتصادي

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق الروائيّ اللبناني جبّور الدويهي (فيسبوك)

كيف أمضى جبّور الدويهي يومه الأخير؟

عشيّة الذكرى الثالثة لرحيله، تتحدّث عائلة الروائيّ اللبنانيّ جبّور الدويهي عن سنواته الأخيرة، وعن تفاصيل يوميّاته، وعن إحياء أدبِه من خلال أنشطة متنوّعة.

كريستين حبيب (بيروت)
ثقافة وفنون ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

ليلى العثمان تقتحم باسمها الصريح عالم روايتها

رواية «حكاية صفية» للروائية الكويتية ليلى العثمان الصادرة عام 2023، رواية جريئة بشكل استثنائي

فاضل ثامر
كتب بعض واجهات المكتبات

موجة ازدهار في الروايات الرومانسية بأميركا

الصيف الماضي، عندما روادت ماي تنغستروم فكرة فتح مكتبة لبيع الروايات الرومانسية بمنطقة فنتورا بكاليفورنيا

ألكسندرا ألتر
كتب الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

الرواية الخليجية... بدأت خجولة في الثلاثينات ونضجت مع الألفية

يتناول الناقد والباحث اليمني د. فارس البيل نشأة وجذور السرد الإبداعي في منطقة الخليج وعلاقة النص بالتطورات الاجتماعية والاقتصادية المتلاحقة

رشا أحمد (القاهرة)

موجة ازدهار في الروايات الرومانسية بأميركا

بعض واجهات المكتبات
بعض واجهات المكتبات
TT

موجة ازدهار في الروايات الرومانسية بأميركا

بعض واجهات المكتبات
بعض واجهات المكتبات

الصيف الماضي، عندما روادت ماي تنغستروم فكرة فتح مكتبة لبيع الروايات الرومانسية بمنطقة فنتورا بكاليفورنيا، كان أول ما فعلته البحث عبر الإنترنت للتعرف على ما إذا كانت هناك مكتبات مشابهة في الجوار. وبالفعل، عثرت على مكتبة «ذي ريبيد بوديس»؛ مكتبة في كلفر سيتي تبلي بلاءً حسناً للغاية، لدرجة أنها تتوسع بافتتاح فرع ثانٍ لها في حي بروكلين بمدينة نيويورك.

وعن ذلك، قالت: «شعرت بالتهديد».

ومع أن نجاح «ذي ريبيد بوديس» بدا بمثابة مصدر تهديد، فإنه يوحي كذلك في الوقت ذاته باحتمالية وجود مساحة أمام مكتبة أخرى للروايات الرومانسية. وعليه، افتتحت في فبراير (شباط) مكتبة «سميتن» بمنطقة مزدحمة من «مين ستريت»، على بعد نحو ميل من منافسيها.

في الأشهر التي تلت ذلك، تحولت مكتبة «سميتن» إلى مركز نابض بالحياة لقراء الأعمال الأدبية الرومانسية، مع توقيعات المؤلفين وقراءات التارو ونوادي الكتب وأمسيات الترفيه والحرف اليدوية.

بعض الأحيان، يتصل عملاء بالمكتبة، محملين بطلبات محددة للغاية. عن ذلك، قالت تنغستروم: «جاء شخص ما وقال: أنا أحب الأعمال الأدبية الخيالية، وأريد الرواية أن تكون غريبة، وبها تمثيل لثقافة مختلفة. كما أريدها بذيئة قدر الإمكان».

وأضافت: «لديّ عملاء منتظمون يأتون عدة مرات في الأسبوع. وأسألهم أحياناً: ألم تشتر لتوك كتابين اليوم السابق؟».

اللافت أن الأعمال الأدبية الرومانسية كانت ذات يوم مجالاً يتجاهله أصحاب المكتبات المستقلة إلى حد كبير. ومع ذلك، تحولت اليوم إلى إحدى أكثر الفئات رواجاً في عالم الكتاب، وأصبحت، إلى حد بعيد، النوع الأدبي الأكثر مبيعاً، ونجاحها لا يعيد رسم ملامح المشهد العام لصناعة النشر فحسب، بل وكذلك صناعة بيع التجزئة.

وفي غضون عامين فقط، تبدل المشهد العام بالبلاد، من وجود مكتبتين فقط مخصصتين للروايات الرومانسية، «ذي ريبيد بوديس» و«لوفز سويت آرو»، في شيكاغو، إلى شبكة وطنية تضم أكثر عن 20 مكتبة، من بينها «تروبس آند ترايفلز» في مينيابوليس، و«غرمب» و«صن شاين» في بلفاست بولاية مين، و«بيوتي» و«بوك إن أنكوريج» في ألاسكا، و«لوف باوند ليبراري» في سولت ليك سيتي، و«بلوش بوكستور» بمنطقة ويتشيتا في كنساس. ولا يزال الكثير في الطريق، ومن بينها «كيس آند تيل» في كولينغسوود بنيوجيرسي، و«ذي نيو رومانتيكس» في أورلاندو بفلوريدا، و«غراند جستشر بوكس» في بورتلاند بولاية أوريغون؛ متجر عبر الإنترنت متخصص في بيع الروايات الرومانسية، يتحول اليوم إلى متجر على أرض الواقع.

اللافت أن غالبية هذه المكتبات تمتلكها وتديرها نساء، ناهيك عن أن النساء يشكلن غالبية قراء الروايات الرومانسية، ويعود الفضل إليهن في الارتفاع الهائل في مبيعات هذا الصنف الأدبي، من 18 مليون نسخة مطبوعة عام 2020 إلى أكثر عن 39 مليون نسخة عام 2023، تبعاً لمؤسسة «سيركانا بوكسكان».

في هذا الصدد، قالت ريبيكا تايتل، المحامية السابقة، التي تمتلك اليوم مكتبة «ميت كيوت» المتخصص في الروايات الرومانسية في سان دييغو: «هناك تحول ثقافي يجري على الأرض يشير إلى أن الإعلام، بصورة أساسية، أصبحت تجري كتابته وتوجيهه نحو النساء. اليوم، أدركت أعداد متزايدة من الأفراد أن الروايات الرومانسية ليست رائجة فحسب، وتحمل كذلك قيمة تجارية، بل وتحمل قيمة فنية وترفيهية كذلك».

من ناحية أخرى، يهيمن روائيون رومانسيون، مثل ساره جيه. ماس وإيميلي هنري وكولين هوفر وريبيكا ياروس على قوائم أفضل الكتب مبيعاً. وتكشف الأرقام أن 6 من بين أفضل 10 روائيين من حيث المبيعات داخل الولايات المتحدة، عبر العام الحالي حتى الآن، من كتاب الأعمال الرومانسية.

أما الناشرون، فيعمدون إلى توسيع نطاق قوائمهم الرومانسية، وجذب المؤلفين الرومانسيين الذين ينشرون أعمالهم ذاتياً. ويبدو هذا تحولاً هائلاً عن أيام سابقة كان يجري خلالها النظر بازدراء إلى الروايات الرومانسية باعتبارها سطحيةً وغير جادة، أو بذيئةً. وحتى سنوات قليلة مضت، حرصت الكثير من المكتبات المستقلة على عرض مجموعة صغيرة منتقاة من الروايات الرومانسية، التي غالباً ما يجري وضعها في رف خلفي داخل المكتبة.

من ناحيتها، قالت ليا كوك، التي تشارك في ملكية «ذي ريبيد بوديس»؛ أول مكتبة متخصصة في عرض الروايات الرومانسية تفتتح أبوابها على مستوى الولايات المتحدة عام 2016، إنها لا تزال تتذكر عندما كانت تبحث في سنوات المراهقة عبر المكتبات عن روايات رومانسية، دون جدوى.

وكان الشعور بالتعرض للتجاهل جزءاً من الدافع وراء سعي كوك وشقيقتها، بيا هودجيز كوك، لفتح مكتبة متخصصة في الروايات الرومانسية.

وعبّرت كوك عن اعتقادها بأن «الكثيرين ممن يعملون بمجال النشر وداخل المكتبات المستقلة شعروا وكأن الروايات الرومانسية غير جديرة بإهدار وقت في سبيلها. وكنت أقول في نفسي: بإمكانكم جني أموال، لكن لا بأس، أنا سأجني المال».

يذكر أن مبيعات الروايات الرومانسية بدأت تشهد ارتفاعاً كبيراً خلال سنوات الجائحة، مع إعادة اكتشاف القراءة، وتحول الكثيرين نحو الأعمال الخيالية الرومانسية كملاذ للهروب من الواقع (من بين القواعد الحاكمة لهذا الصنف الأدبي أن الغالبية الكاسحة تنتهي بنهاية سعيدة).

وساهم ظهور تطبيق «بوك توك» في تعزيز هذا الارتفاع في المبيعات، مع اجتذاب مؤثري «تيك توك» القراء صغار السن عبر فيديوهات يتحدثون فيها عن كتّابهم المفضلين.

اليوم، تظهر الروايات الرومانسية بشكل بارز على قوائم «تارغيت» و«بارنيز آند نوبل». وفي وقت مضى، كان عشاق الروايات الرومانسية يشترون الكتب الإلكترونية بشكل أساسي، خصوصاً وأنها أرخص وأسهل في الوصول إليها، وربما من الأسهل إخفاؤها. أما اليوم، فإنهم يستعرضون الروايات الرومانسية التي يملكونها على أرفف مكتباتهم بفخر.

ومنح هذا الصعود السريع للمتاجر المتخصصة في الروايات الرومانسية مكاناً جديداً لعشاق هذا الصنف الأدبي؛ مكاناً مرحباً به للإقبال على شراء كتبهم المفضلة بحماس.

من جهتها، قالت جين نتر، مديرة شؤون الاتصالات والتسويق لدى دار «كنزنغتون» للنشر، المعنية بالروايات الرومانسية: «يمكنك دخول مكتبة مخصصة للروايات الرومانسية، وستجد البائع يسألك: هل تحب الروايات ذات الأحداث الساخنة؟ أم ترغب في رواية تاريخية؟ إنه سيدرك سريعاً ما تريده، ولن يحاول أن يصدر أحكاماً عليك».

اللافت أن الكثير من هذه المكتبات تتسم بمظاهر جملية جذابة ومشرقة وذات طابع أنثوي، مثل الاعتماد الشديد على اللون الوردي، المزدان بزخارف على شكل قلوب وزهور، ناهيك عن التلاعب بالاستعارات الرومانسية المألوفة؛ أعداء الغرام، والحب الممنوع، والهوية السرية.

وتضم هذه المكتبات بين أرففها جميع الأنواع التي يمكن تخيلها للروايات الأدبية: التاريخية والموجهة للقراء صغار السن والأعمال التي تخلط بين الرومانسية والفانتازيا، والأخرى التي تدور حول موضوع رياضي. كما تضم جنبات الكثير من هذه المكتبات أعمالاً أدبيةً تولى مؤلفوها نشرها بالاعتماد على ذواتهم، والتي عادة ما لا تجد طريقها إلى المكتبات الكبرى.

في هذا الصدد، شرحت ميليسا سافيدرا، صاحبة مكتبة «ستيمي ليت» المتخصصة في الروايات الرومانسية، في «ديرفيلد بيتش» في فلوريدا، أنها اكتشفت الروايات الرومانسية منذ ما يزيد قليلاً عن عقد، عندما كانت تعمل ضابطة في رتبة صغيرة بالبحرية الأميركية.

وقالت إن بوابتها إلى عالم الروايات الرومانسية جاء عبر سلسلة «إي. إل. جيمس» المثيرة «فيفتي شيدز أوف غراي» (Fifty Shades of Grey)، التي تمكنت من قراءتها عبر جهازها اللوحي عندما كانت على متن بارجة حربية أميركية.

وبعد أن تركت عملها في البحرية عام 2017، عملت وكيلة سفريات لفرق رياضية. وعندما تباطأت وتيرة العمل في أثناء فترة الجائحة، طرأت على ذهنها فكرة «ستيم بوكس»، صندوق اشتراك ربع سنوي يتضمن مجموعة من الروايات الرومانسية. وحقق المشروع انطلاقة قوية.

وجاء «ستيم بوكس» بمثابة وسيلة للتخلص من وصمة العار العالقة بالروايات الرومانسية المثيرة. وقالت سافيدرا، التي ولدت في ليما بالبيرو، ثم انتقلت إلى ساوث فلوريدا عندما كانت في العاشرة: «لا يزال يتعين علينا أنا نقاتل بشراسة كي نفرض على الناس احترام هذا الصنف الأدبي». وقد ألزمت سافيدرا نفسها بالعمل على الترويج لأعمال الكتاب الرومانسيين من خلفيات متنوعة.

وقررت سافيدرا فتح مكتبة عندما أدركت أن مجتمعها في «ديرفيلد بيتش» يخلو من أي مكتبة متخصصة في الروايات الرومانسية، خصوصاً فيما يتعلق بالأعمال الرومانسية المتنوعة.

وفي عطلة نهاية الأسبوع الذي شهد افتتاح «ستيمي ليت»، أقبل على زيارة المكتبة نحو 500 شخص، وباعت 900 كتاب. ومنذ ذلك الحين، استضافت المكتبة أكثر من حفل توقيع لكتاب، بينهم كيندي رايان وعلي هيزلوود وآبي جيمينيز، التي نظمت احتفالية بالمكتبة في مايو (أيار)، ظهرت بها أعداد من الماعز الصغير، في إشارة إلى مشهد من روايتها «بارت أوف يور وورلد» (Part of Your World) تظهر به أعداد من الماعز.

وفي ظهيرة أحد أيام الأحد الربيع الماضي، كانت «ستيمي ليت» تعج بالقراء الذين يتصفحون الكتب ويحصلون على توقيع الكاتبة الرومانسية إيه. إتش. كننغهام، التي كانت تروج لروايتها «آوت أوف أوفيس» (Out of Office).

وقالت كننغهام إن المكتبة كانت تعج بمحادثات بالإنجليزية والإسبانية، مضيفة: «هذه المساحات التي نحتاجها».

اللافت أن غالبية هذه المكتبات التي تبيع الروايات الرومانسية تمتلكها وتديرها نساء بالإضافة إلى أنهن يشكلن غالبية قراء هذه الروايات

والتقط القراء صوراً تذكارية أمام اللافتات الوردية المضاءة بمصابيح «النيون» الخاصة بالمكتبة، بينما تصفح آخرون الأعمال الإسبانية داخل المكتبة. وحملت بعض أرفف المكتبة روايات تحت عناوين «الرومانسية المظلمة» و«الرمادي الأخلاقي» و«عصر البكاء». وقالت سافيدرا: «هذ الأرفف لا تبقى ممتلئة أبداً»، في إشارة إلى الأعمال الرومانسية.

من جهتها، حملت روزن فولمور، واحدة من العملاء المواظبين على زيارة «ستيمي ليت»، مجموعة من الروايات القديمة بيدها باتجاه كننغهام كي توقع عليها.

كانت فولمور قد سمعت عن المكتبة عندما نشرت رايان، واحدة من الكتاب المفضلين لديها، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أنها ستقيم فعالية هناك. ومنذ ذلك الحين أصبحت عميلة منتظمة لدى المكتبة، التي قالت عنها إنها «تضم جميع الأشياء المثيرة والجذابة التي يمكنك تخيلها».

وقالت عميلة أخرى، هي أنجيلا ثاير، التي تعمل في إدارة شؤون المحاربين القدامى في فلوريدا، إنها تأتي عادةً كل أسبوعين، عندما تحصل على راتبها. وفي ذلك الأحد، أحضرت ابنتها، آشلي واتكينز، التي كانت متحمسة لرؤية الكثير من الروايات الرومانسية لمؤلفين ملونين. وقالت واتكينز: «إن رؤية الكتب التي تضم أشخاصاً يشبهونني في المواقف الرومانسية أمر رائع حقاً».

خدمة «نيويورك تايمز»