فيلم جديد يروي سيرة المغنية ويتني هيوستن

معالجة حذرة للموضوعات الشائكة... وأداء استثنائي للممثلة ناومي آكي

ملصق فيلم «I Wanna Dance With Somebody»... (فيسبوك)
ملصق فيلم «I Wanna Dance With Somebody»... (فيسبوك)
TT

فيلم جديد يروي سيرة المغنية ويتني هيوستن

ملصق فيلم «I Wanna Dance With Somebody»... (فيسبوك)
ملصق فيلم «I Wanna Dance With Somebody»... (فيسبوك)

أكثر ما قد يُلام عليه فيلم «I Wanna Dance With Somebody»؛ الذي يروي قصة المغنية الأميركية الراحلة ويتني هيوستن، أنه يحاذر الغوص في الأعماق. أما أكثر ما يُحسب له، فهو إبداع الممثلة البريطانية ناومي آكي في تجسيد دور هيوستن.
ليس الفيلم، الذي يُعرض حالياً في معظم دور السينما، الأول من نوعه؛ فبعد وفاة هيوستن التراجيدية عام 2012، رُويت سيرتها عبر وثائقيات وأفلام كثيرة. لذلك، فقد كان من المتوقع أن يأتي هذا العمل بما هو جديد، لكنه لم يفعل. لامس القضايا الإنسانية الحساسة بمواربةٍ وتردّد، من دون أن يضعها تحت المجهر.
ليست ويتني هيوستن صاحبة الصوت العظيم والنجاحات الغنائية العالمية فحسب؛ فهي امرأة تخبّطت وسط التحديات منذ الصغر. حاولت والدتها سيسي أن تزرع فيها ما لم تحصده هي بصفتها مغنية. أرادتها النجمة التي ما استطاعت أن تكونها. تظهر سيسي في الفيلم مدرّبة ويتني الأولى، تعاملها بصرامة وتنتقدها بقسوة، وهي التي تدفع بها إلى أحضان الشهرة. لها سطوة كبيرة على حياة ابنتها، منذ كانت مغنية تقف خلفها في الكورس وحتى صارت أيقونة الأغنية الأميركية. لا يفصّل الفيلم تلك العلاقة المعقّدة مع الوالدة، كما أنه لا يدخل إلى كواليس الوالد جون الذي أدار أعمال ابنته وتعامل معها على أنها دجاجة تبيض ذهباً. استغلّها حتى آخر دولار، لكنه لم يغفل مرةً عن مناداتها «أميرتي»...
أما أكثر موضوع يتعامل معه الفيلم بتحفّظ فهو ميول هيوستن الجنسية في بداياتها، وعلاقتها غير الاعتيادية بمديرة أعمالها روبن كراوفورد. مع أنهما يفتتحان الفيلم بسردٍ لبداية تلك العلاقة الاستثنائية، إلا إن الكاتب أنطوني ماك كارتن والمخرجة كايسي ليمونز لا يخوضان في التفاصيل العاطفية، بل يعتمدان زاويتَي المهنة والصداقة لتصوير ما يجمع بين روبِن وويتني.

يكفي الاطّلاع على قائمة الجهات المُنتجة للفيلم، لاستيعاب أسباب كل تلك المواربة والتحفّظ. للمنتج الموسيقي كلايف ديفيس (يؤدي دوره في الفيلم ستانلي توتشي)، ولعائلة هيوستن وللقيّمين على إرثها وأملاكها اليد الطولى في عملية الإنتاج، وهم أشرفوا بالتالي على السيناريو والمحتوى. تقول مخرجة العمل في حديث صحافي إنها كانت تريد تصوير العلاقة المهمة والعميقة بين ويتني وروبن، لكنها لم تفعل. تضيف: «كنت حذرة جداً لأني كنت أعمل مع الورَثة. وجب عليّ أخذ مشاعرهم في الحسبان».
يفسّر تصريح ليمونز العرضَ الأفقي للأحداث والمعالجة التقليدية لسيرة هيوستن. كادت السرديّة تغرق في الرتابة، لو لم تنقذها الفقرات الغنائية التي قدّمتها ناومي آكي باحتراف. على إيقاع أشهر أغاني هيوستن، يسير الفيلم الطويل (ساعتان ونصف الساعة). صحيح أن الأغاني بقيت بصوت هيوستن الأصلي، وصحيح كذلك أن الشبَه ضئيل بين الممثلة والمغنية، لكن هذا التباعد في الشكل يصبح تفصيلاً ما إن تحرّك آكي شفتَيها مؤديةً أعمالاً خالدة مثل «I Will Always Love You» و«I Have Nothing». لقد تقمّصت آكي شخصية هيوستن وعصبَها. وكأنّ روح المغنية سكنت الممثلة وهي تؤدي ذلك الدور، فجسّدتها ببراعة في أجمل لحظات المجد وأتعس أوقات الضعف.


الممثلة ناومي آكي بدور المغنية العالمية ويتني هيوستن (فايسبوك)
يسترسل الفيلم في إعادة إحياء عروض غنائية معيّنة، فتستحوذ تلك المشاهد على معظم الوقت. لكن رغم مدّتها الطويلة، فإنه يمكن القول إنها أقوى ما في العمل، وقد زادتها سحراً قدرات آكي التمثيلية. من افتتاح بطولة الـ«Super Bowl» بأداء هيوستن المذهل النشيد الوطني الأميركي عام 1991، مروراً بحفلها التاريخي في جنوب أفريقيا عام 1994، وليس انتهاءً بحلقتها التلفزيونية مع أوبرا وينفري عام 2009... كلها لحظاتٌ تأخذ الفيلم إلى وقفات متكررة مع الحلم، ومع موسيقى هيوستن الخالدة.
لكن ما إن تصمت الألحان حتى يعود الفيلم إلى المطوّلات والهروب من وضع القضايا الدقيقة على طاولة التشريح. فمن أبرز الموضوعات التي قاربَها «I Wanna Dance With Somebody» بطريقة هامشية وبحذر واضح، معاناة هيوستن مع الإدمان. كيف بدأت تتعاطى المخدّرات؟ مَن كان يؤمّنها لها؟ متى تحوّل الأمر إلى إدمان؟ وهل كانت لزوجها بوبي براون ولأفراد من عائلتها اليد الطولى في إيصالها إلى أسفل الدرك؟ كلها أسئلة لا يجيب الفيلم عنها.
يبقى على المُشاهد استنتاج الأسباب التي أوصلَت هيوستن إلى تدمير صحتها وصوتها بالتعاطي المفرط للمخدرات. لقد خُذلت النجمة العالمية ممّن ظنّتهم حُماةً لها ولمصالحها. لهثوا خلف ثروتها وأنكروها عندما أخطأت، فساهمت الخيبات في انحدارها نحو الهاوية. في أحد المَشاهد تقول: «الكل يستخدمني كما لو كنت صرّافاً آلياً». وفي مشهدٍ آخر تشكو من أنها تعبت من أن تكون كل شيء لكل الناس في حياتها.
منذ الصِغَر لم تُرد هيوستن سوى الغناء، لكن محيطها أراد الكثير من نجوميتها. تعرّضت للاستغلال من أقرب المقرّبين، على رأسهم والدها الذي ظل يطالبها بالملايين حتى على فراش الموت، وزوجها الذي منحته الحب فبادله بالخيانات والتبذير من مالها. مع العلم أن ظهور بوبي براون في الفيلم يبقى خجولاً، مقارنةً بسواه من شخصيات محورية في حياة هيوستن.


ويتني مع صديقتها ومديرة أعمالها روبن كراوفورد
يصوّر الفيلم محاولتها الانتصار لنفسها من خلال مواجهة والدها، والانفصال عن زوجها، والعلاج من الإدمان. لكن كل ذلك، ومعه تعلّقها الشديد بابنتها الوحيدة بوبي كريستينا، لم يُنقذها من دوّامة المخدّرات. يسترجع العمل لحظات العودة إلى الهاوية من خلال أرشيف حفل هيوستن في الدنمارك، حيث خذلها صوتها فغادر الجمهور بالمئات.
أما في «بيفرلي هيلز» حيث كانت المحطة الأخيرة، فقد نظرت ويتني بعينَين تائهتَين حولها لتجد مواهب تصعد، فيما كان صوتها العظيم يخبو. مرةً جديدة لجأت إلى المخدّرات، غير أن تلك المرة كانت القاضية.
اعتُمدت المواربة كذلك في نهاية الفيلم، الذي لم يصوّر ويتني وهي تأخذ الجرعة الأخيرة، وتَعمّد عدم إظهارها غارقةً في حوض الاستحمام داخل غرفة الفندق. اختار فريق «I Wanna Dance With Somebody» نهايةً مجيدة لصوتٍ يليق به المجد. عاد بالزمن إلى أبهى إطلالات هيوستن على مسرح جوائز الموسيقى الأميركية عام 1994، حيث تلألأت بعيداً من الهزائم والنهايات القاتمة.


مقالات ذات صلة

علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

يوميات الشرق علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)

علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

حملت الجلسة كثيراً من الجدّية في التفاصيل التي قدَّمها علي الكلثمي عن عمله مع الممثلين...

إيمان الخطاف (جدة)
يوميات الشرق مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)

أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

أمير المصري، الذي أصبح اسماً مألوفاً في سجل ضيوف المهرجان خلال السنوات الماضية، عاد هذا العام بنبرة مختلفة وحضوراً أكثر نضجاً.

إيمان الخطاف (جدة)
يوميات الشرق من اليسار فيصل بالطيور وأمير المصري ونسيم حميد بعد عرض «عملاق» في البحر الأحمر (أ.ف.ب)

ثلاثة أفلام تبحر في التاريخ غير البعيد

كلا الفيلمين يقدّمان مرآة لواقعٍ يطغى فيه اليأس على أحلام أبطاله، وسط سياق سياسي لا يتيح حياة طبيعية.

محمد رُضا (جدّة)
يوميات الشرق «زلزال اندماج» قد يُغيّر معايير المنافسة في السينما (رويترز)

نقابات هوليوود تنتفض ضد صفقة «نتفليكس - وارنر» البالغة 72 ملياراً

دقَّت نقابات هوليوود وأصحاب دُور العرض ناقوس الخطر بشأن صفقة الاستحواذ المُقترحة من «نتفليكس» على شركة «وارنر براذرز ديسكفري» بقيمة 72 مليار دولار

«الشرق الأوسط» (هوليوود)
يوميات الشرق النجم الأميركي جورج كلوني (أ.ب)

جورج كلوني يُقدم تحديثاً مفاجئاً حول مسيرته المهنية

كشف النجم الأميركي جورج كلوني أن دوره في الإخراج تراجع أمام دور الأبوة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
TT

شوارع بريطانيا تحمل أسماء الطيور... وسماؤها تفتقدها

الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)
الأسماء تتكاثر لكنّ الطيور تختفي من الحقول والسماء (شاترستوك)

تزداد في بريطانيا تسمية الشوارع بأسماء طيور مثل القُبرات والزقزاق والزرازير، في وقت تشهد فيه أعداد هذه الأنواع تراجعاً مقلقاً.

فقد كشف تقرير لجمعية حماية الطيور الملكية، نقلته «الغارديان»، عن أنّ أسماء شوارع من قبيل «ممر القُبرة» و«جادة السمامة» باتت أكثر شيوعاً خلال العقدين الماضيين. وبالاستناد إلى بيانات «أو إس أوبن نيمز» بين عامَي 2004 و2024، تبيَّن أن الشوارع التي تحمل أسماء طائر القُبرة ارتفعت بنسبة 350 في المائة، وتلك التي تحمل اسم الزرزور بنسبة 156 في المائة، فيما ارتفعت أسماء الشوارع المرتبطة بطيور الزقزاق بنسبة 104 في المائة، رغم الانخفاض الكبير في أعداد هذه الطيور في البرّية.

ويشير التقرير إلى أنّ بريطانيا فقدت بين عامَي 1970 و2022 نحو 53 في المائة من القُبرات المتكاثرة، و62 في المائة من الزقزاق، و89 في المائة من العندليب.

وقالت المديرة التنفيذية للجمعية، بيكي سبيت، إنّ التحليل «يكشف عن أن البلديات والمطوّرين العقاريين لا يجدون غضاضة في تسمية الشوارع بأسماء الطبيعة التي نحبّها، بينما تبقى الجهود الرامية إلى منع اختفاء هذه الطيور من سمائنا بعيدة تماماً عن المستوى المطلوب».

ووصف تقرير «حالة الطبيعة 2023» المملكة المتحدة بأنها «واحدة من أكثر الدول استنزافاً للطبيعة على وجه الأرض»، مشيراً إلى الانهيار الحاد في أعداد الطيور البرية منذ سبعينات القرن الماضي.

كما أظهر تحليل الجمعية أنّ استخدام كلمة «مرج» في أسماء الشوارع زاد بنسبة 34 في المائة، في حين اختفت 97 في المائة من المروج البرّية منذ الثلاثينات. ودعت الجمعية الحكومة إلى تعزيز جهود حماية الطبيعة، مع دخول مشروع قانون التخطيط والبنية التحتية في إنجلترا مراحله النهائية.

كانت الحكومة قد تراجعت في أكتوبر (تشرين الأول) عن دعم تعديل يُلزم بتركيب «طوب السمامات» في كلّ منزل جديد، رغم أنّ أسماء الشوارع المرتبطة بالسمامات ارتفعت بنسبة 58 في المائة.

وأكدت الجمعية أنه من «الممكن والضروري» تبنّي نظام تخطيط عمراني يُسهم في استعادة البيئة الطبيعية، مستشهدةً ببحث صادر عن مؤسّسة «مور إن كومون» يفيد بأنّ 20 في المائة فقط من البريطانيين يرون أنه ينبغي خفض المعايير البيئية لتشييد مزيد من المنازل.

من جانبه، قال مؤلّف كتاب «ليا الوقواق» عن تاريخ الطيور في أسماء الأماكن البريطانية، مايكل وارن، إنّ البريطانيين «يعشقون أسماء الطبيعة، ويعرف المطوّرون ذلك جيداً». لكنه أوضح أنّ رواج أسماء الطيور في المشروعات السكنية الجديدة «يخفي انفصالاً عميقاً يعانيه كثيرون عن الطبيعة، ويعطي انطباعاً مضلّلاً بأنّ كلّ شيء على ما يرام».

وأشار وارن إلى أنّ أسماء الأماكن كانت سابقاً تعكس الواقع البيئي، أما الأسماء الحديثة فهي «في أفضل الأحوال جميلة المظهر، لكنها في الحقيقة وسيلة خادعة ورخيصة وسهلة لخلق إيحاء بمعالجة تدهور الطبيعة من دون القيام بأيّ تحرّك فعلي».

وختمت سبيت: «يستحق الناس أن يستمتعوا بصوت العندليب في ذروة غنائه، أو بصيحات السمامات وهي تحلّق فوق رؤوسهم، بدلاً من العيش في شوارع صامتة تحمل أسماء ساخرة».


علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
TT

علي الكلثمي... المخرج السعودي الذي صاغ من السخرية رؤية سينمائية

علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)
علي الكلثمي شارك تفاصيل منهجه الإخراجي ورحلته داخل الصناعة السعودية (البحر الأحمر)

للمخرج السعودي علي الكلثمي أسلوب ساخر لا ينفصل عن شخصيته، ولا عن أعماله، ولا حتى عن طريقته في مقاربة أكثر الأسئلة الفنّية جدّية. بدا ذلك واضحاً في حديثه على المسرح خلال الجلسة الحوارية التي تناولت تجربته في مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي»، في مزيج بين الخفّة والعمق، وبين اللعب والملاحظة الحادّة، ما يجعله قادراً على قول أكثر الأفكار تعقيداً بأبسط المفردات وأكثرها تلقائية.

الجلسة، التي بيعت تذاكرها بالكامل، وشهدت حضوراً كثيفاً من المهتمّين، لم تكن مجرّد لقاء عابر؛ إذ بدا واضحاً أنّ تجربة الكلثمي باتت اليوم محطَّ متابعة عربية وخليجية، مع حضور لافت لجمهور من الكويت وعُمان ودول أخرى. فهو يُعد أحد أبرز الأصوات التي خرجت من فضاء «يوتيوب» في السعودية، وبدأ رحلته السينمائية عبر الفيلم القصير «وسطي» عام 2016، كما يُعد أحد المساهمين في نقل السينما المحلّية إلى مرحلة جديدة من خلال فيلمه الطويل «مندوب الليل» الذي حصد جوائز عدّة.

من السخرية إلى المنهج

وحملت الجلسة كثيراً من الجدّية في التفاصيل التي قدَّمها الكلثمي عن عمله مع الممثلين. وكان لافتاً أنه بدأ إحدى إجاباته بنصيحة غير معتادة: «أنصح كلّ الخرّيجين أن يُجرّبوا التمثيل ولو في ورشة قصيرة. التجربة تُغيّر فهمك للممثل تماماً!». هذه الجملة وحدها كانت كافية لفتح باب واسع حول علاقته بالممثلين، وكيف أسهمت تجربته القصيرة في التمثيل، التي وصفها بـ«الكراش كورس»، في تغيير طريقته في التعامل مع الممثل أمام الكاميرا.

يرى الكلثمي أنّ الممثل لحظة وصوله إلى موقع التصوير يكون «مكشوفاً بالكامل». هذه النظرة العميقة لطبيعة الوقوف أمام الكاميرا جعلته يؤمن بأنّ المخرج لا يمكنه قيادة الأداء من دون أن يكون قادراً على الشعور بذلك الخوف الإنساني الخام. لذلك، فإنّ أول ما يمنحه للممثل ليس التوجيه، بل الثقة. يضيف: «أول ما يحتاج إليه هو أن يشعر أنك لن تحاكمه. أنك شبكة الأمان التي تحميه حين يُغامر».

علي الكلثمي على السجادة الحمراء في المهرجان (البحر الأحمر)

يُصرّ الكلثمي على أنّ العمل الجوهري لا يتم في موقع التصوير، بل قبله. وهي فكرة تُشكّل أحد أعمدة منهجه الإخراجي. وقدَّم مثالاً على ذلك من خلال علاقته المهنية الطويلة مع الممثل محمد الدوخي (بطل «مندوب الليل»)، التي تمتد لسنوات.

في التحضير للشخصيات، كانا يستحضران أشخاصاً من الماضي، ويقولان: «تتذكر فلان؟ هذا ظله... طيف منه». هنا يظهر الجانب الإنساني عند الكلثمي، الذي يرى في التفاصيل الصغيرة والعلاقات العابرة مادة حقيقية لبناء الشخصية. فليست الحكايات الكبيرة ما تصنع صدق الأداء، بل هشاشة التفاصيل التي لا ينتبه لها أحد.

ويتعمَّق هذا المنهج عبر أداة إضافية يستخدمها تحت إطار البحث عن تفاصيل الشخصية. فهو يرى أنّ الممثل مُطالب بمعرفة دفاتر الشخصية، وكتاباتها، وطريقة تفكيرها، وحتى ما يمكن أن تستمع إليه في عزلتها. ليس ذلك بهدف خلق صورة مُكتملة، بل بهدف فتح مسارات داخلية تُساعد الممثل على الوصول إلى جوهر الشخصية.

النصّ بصوت المُخرج

ومن أكثر جوانب الجلسة إثارة للانتباه، اعتراف الكلثمي بأنه يحب أن يقرأ النصّ للممثل بعد أن ينتهي الأخير من قراءته. ورغم أنه يصرّ على أن ذلك ليس لتلقينه الأداء، فإنه يراه «نافذة إضافية» تمنح الممثل فرصة للدخول إلى العالم الداخلي للشخصية. يقول: «أقرأ النص بصوتي، وأمثّل الشخصية أمامه، ليس لأريه كيف يؤدّي، بل لأفتح له نافذة يُطل من خلالها على عالم الشخصية».

هذا النهج، الذي يجمع بين الحسّ التمثيلي والقدرة على الإصغاء، يعكس رؤية الكلثمي لموقعه في الصناعة، كما ظهر بوضوح في الجلسة التي امتدَّت لنحو ساعة، وحاوره فيها الصحافي أحمد العياد. فهو لا يضع نفسه في موضع السلطة، بل في موضع الشريك الذي يُمهّد للممثل الطريق بدل أن يفرض عليه مساراً واحداً.

من «يوتيوب» إلى السينما

الحضور الواسع للكلثمي في الجلسة يعكس مساراً غير تقليدي في السينما السعودية. فالمخرج الذي خرج من عباءة المحتوى الرقمي لا يحمل عقدة الانتقال إلى السينما، ولا يضع بينهما طبقية، بل يرى أنّ لكل وسيط لغته وجمهوره، والفنان الحقيقي لا ينتمي إلى منصة بقدر ما ينتمي إلى صدق التجربة. وقد بدا هذا المبدأ حاضراً في ردوده، وفي التواضع الذي يتعامل به مع مشواره، سواء في البدايات مع «وسطي»، أو في نجاحات «مندوب الليل» التي نقلته إلى دائرة الضوء السينمائية.

لم تكن الجلسة مجرّد استعراض لسيرة مخرج شاب، وإنما درس في فَهْم الممثل، وفي التحضير، وفي الدور الذي يمكن أن يلعبه التعاون في رفع جودة صناعة كاملة. وربما كانت أيضاً نافذة إلى روح الكلثمي نفسه: فنان يسخر من كلّ شيء، لكنه لا يسخر من الفنّ.


أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
TT

أمير المصري في «البحر الأحمر»... بطولة مزدوجة تقوده إلى لحظة تحوُّل لم يتوقَّعها

مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)
مشهد من فيلم افتتاح المهرجان «العملاق» من بطولة أمير المصري (المهرجان)

تصدُّر بطولة فيلم افتتاح مهرجان «البحر الأحمر السينمائي الدولي» ليس أمراً بسيطاً، بيد أنْ يترافق ذلك مع اختيار فيلم آخر للبطل نفسه ضمن دورة واحدة، فهذه حالة لا تحدُث كثيراً في مسيرة أي ممثل. هذا ما يعيشه حالياً البريطاني - المصري أمير المصري، بطل فيلم «العملاق» الذي افتتح الدورة الخامسة للمهرجان، وحظي باهتمام واسع، وهو أيضاً بطل فيلم «القصص» للمخرج أبو بكر شوقي، أحد أبرز المنافسين في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة.

أمير المصري، الذي أصبح اسماً مألوفاً في سجل ضيوف المهرجان خلال السنوات الماضية، عاد هذا العام بنبرة مختلفة وحضوراً أكثر نضجاً، ليروي لـ«الشرق الأوسط» تفاصيل التجرية، قائلاً: «عندما تحدَّث معي الرئيس التنفيذي للمهرجان الأستاذ فيصل بالطيور عن فيلم (العملاق)، لم أكن أعرف أنه سيختاره ليكون فيلم الافتتاح. فقد كان من الممكن أن يختار فيلماً تجارياً لبطل هوليوودي مثلاً، لكنه أبدى اهتماماً بإظهار أناس مثلي على المسرح أمام نجوم عالميين مثل مايكل كين وإيشواريا راي».

ويصف المصري تلك اللحظة بأنها علامة فارقة في مسيرته، ويضيف بنبرة إعجاب واضحة: «أنا منبهر بالمهرجان، وعاماً تلو آخر نرى أنّ كلّ دورة أفضل من التي سبقتها». ويتابع موضحاً خصوصية هذا العام: «مستمتع جداً بالمرحلة الحالية التي أعيشها فنّياً، خصوصاً مع ندرة أن يحظى ممثل ببطولة فيلمين مشاركين في مهرجان بحجم (البحر الأحمر)».

أمير المصري... عام مفصلي يُبدّل موقعه بين البطولة والهوية الفنّية (المهرجان)

«العملاق»... المدرّب أم الموهبة؟

وإنما حضور المصري في «العملاق» يتجاوز مجرّد البطولة، فالفيلم نفسه يحمل تركيبة حساسة تستدعي أداءً واعياً لطبيعة الشخصية التي يجسدها: نسيم حميد، المُلاكم الذي أحدث ثورة في صورة الرياضي المُسلم في بريطانيا التسعينات، بقدر ما أثار جدلاً لا ينتهي حول علاقته بمدرّبه الأسطوري الذي يجسّد دوره النجم بيرس بروسنان. وبسؤال أمير المصري عن تقاطعات ذلك مع حياته، يرد بحماسة: «جداً... كلانا يتجاهل الآراء السلبية ويُكمل طريقه بإصرار».

ينطلق الفيلم من مشهد صغير في شيفيلد البريطانية، حيث تطلب والدة طفل في السابعة من المدرّب أن يُعلّم ابنها الدفاع عن نفسه ضدّ التنمُّر، لحظة تبدو عادية لكنها تتحوَّل إلى حجر الأساس لأسطورة. يلتقط المدرّب الموهبة من النظرة الأولى، فيأخذ نسيم مع 3 من إخوته إلى الحلبة، ليكتشف فوراً أن الطفل النحيف يحمل شيئاً لا يُدرَّس. ومن هنا يمتدّ الخطّ الزمني للفيلم عبر محطات تنقل نسيم من شوارع الحيّ إلى لقب بطل العالم، قبل أن تبدأ الانهيارات التي ستفضح هشاشة العلاقة بين المُلاكم ومدرّبه.

يطرح الفيلم بذكاء شديد السؤال: مَن هو «العملاق» الحقيقي، المدرّب أم الموهبة؟ هذا السؤال يصل ذروته في مشهد صادم يتواجه فيه الطرفان، فيقول نسيم: «هذه موهبة من الله، وعليَّ أن أستثمرها من دون أن أدين بالفضل لأحد». فيردّ المدرّب: «موهبتك بلا قيمة لو لم أكتشفها وأطوّرها طوال 16 عاماً».

ولأنّ الفيلم يعيد طرح الأسطورة على الشاشة، كان حضور نسيم حميد الحقيقي في عرض الفيلم حدثاً إضافياً، إذ ظهر المُلاكم المعتزل في المهرجان بعد سنوات من الغياب، مُبتسماً ومُتأثراً، وقال لأمير المصري: «هذا الفيلم يقول لك: (باسم الله... ابدأ مسيرة جديدة!)». وكأنّ الأسطورة سلّمت شعلتها الرمزية للممثل الذي أعاد بناءها.

المصري يتوسّط المُلاكم المعتزل نسيم حميد والرئيس التنفيذي للمهرجان فيصل بالطيور (المهرجان)

مرحلة جديدة... مشروعات بالجُملة

وبالنظر إلى كون الهوية الفنّية لأمير المصري وُلدت من تداخُل الثقافتين العربية والغربية، تماماً كما جاء في فيلم «العملاق»، يبدو السؤال عن تأثير هذا المزج حاضراً بالضرورة، ليُجيب بتأمّل واضح في جوهر اختياراته قائلاً: «الأهم أن أركّز على المشروع، أيّاً كان، في العالم العربي أو خارجه». ويشرح: «دائماً تشغلني الأسئلة: هل هذا العمل من شأنه تحريك شيء داخلي؟ هل يمكنه إيصال رسالة؟»، مشيراً إلى أنّ فيلم «العملاق» يأتي ضمن هذا الإطار بشكل واضح.

الزخم دفعه لاتخاذ خطوة طال تأجيلها، وهي تأسيس شركة إنتاج في بريطانيا، فيكشف: «اتجهت مؤخراً لتأسيس شركة إنتاج افتتحتها قبل نحو 3 أشهر، وأعتزم في المرحلة المقبلة أن أنفّذ أعمالاً ليست لي فقط، بل كذلك لأناس يُشبهنوني». يتحدَّث المصري عن مشروعه الجديد كأنه يضع حجر الأساس لهوية إنتاجية مقبلة تُكمِل ما بدأه أمام الكاميرا.

أمير المصري يتحدّث عن الزخم والتحوّل وبداية مشروعه الإنتاجي (الشرق الأوسط)

وعن أحدث مشروعاته، يقول: «ثمة فيلم أنهيته للتو في ألمانيا، ولو عُرض في مهرجان مثل (البحر الأحمر)، فهذا يعني أننا سلطنا الضوء على قضية مهمة جداً في موضوع لامسني جداً عندما قرأته. فيلم سيكون مهماً جداً». ورغم تحفُّظ المصري على ذكر القضية التي يتناولها، فإنّ حديثه يوحي بموضوع ثقيل لمرحلة أكثر التزاماً في خياراته السينمائية.

وفي ختام حديثه، يفتح نافذة على مشروع جديد ينتظره جمهور الدراما، مؤكداً أنه يستعدّ لبطولة مسلسل «سفّاح» مع المخرج هادي الباجوري، الذي من المنتظر عرضه عبر منصة «شاهد»، وهو عمل يستلهم من قصة حقيقية لقاتل متسلسل حصلت في قلب القاهرة، ليذهب هذه المرة نحو الغموض والعوالم السوداء.