هل يجوز لنا أن نتّهم الغرب بالانحلال الأخلاقيّ؟

الأفراح عمّت الميادين العربية وكذلك الأوروبية احتفالاً بتأهل المغرب المونديالي (رويترز)
الأفراح عمّت الميادين العربية وكذلك الأوروبية احتفالاً بتأهل المغرب المونديالي (رويترز)
TT

هل يجوز لنا أن نتّهم الغرب بالانحلال الأخلاقيّ؟

الأفراح عمّت الميادين العربية وكذلك الأوروبية احتفالاً بتأهل المغرب المونديالي (رويترز)
الأفراح عمّت الميادين العربية وكذلك الأوروبية احتفالاً بتأهل المغرب المونديالي (رويترز)

تَنهج المجتمعات الإنسانيّة النهج الذي يلائم طبيعتها ومناخها وبيئتها، ويستند إلى تصوّراتها وحقائقها واقتناعاتها، ويستلهم مثُلَها ومبادئها وقيَمها. ما كان الغرب غرباً لو نُحت على صورتنا ومثالنا، والشرق شرقاً لو نُسج على منوال الغرب. ليست المشكلة في الاختلاف بين الشرق والغرب، بل في إساءة فهم الحضارتَين. من علامات الإساءة أنّ بعضاً منّا يرشق الغرب بتهمة الانحطاط الأخلاقيّ. ما برحتُ حتّى اليوم استفظع مثل التهَم الباطلة هذه، لا سيّما حين تَصدر عن مجتمعاتٍ ابتُليت أيضاً بعاهات وأسقام واضطرابات ينبغي صرف الطاقة القصوى وبذل الجهد الأعظم في سبيل الشفاء منها.
عاين كثيرٌ منّا بسرورٍ فائقٍ التئامَ العيلة العربيّة والأفريقيّة والآسيويّة على مدرّجات ملاعب كأس العالم في قطر. فتأثّرنا بمشاهد الألفة التي جمعت أعضاء الأسرة الواحدة حول ابنها الرياضي الموهوب. غير أنّ بعض المعلّقين ذهبوا مذهباً متطرّفاً؛ إذ عَمدوا إلى مقارنة الدفء الحناني المنبعث من أفئدة العيال المبتهجة على أرض الملعب بما افترضوه من جفاءٍ وصقيعٍ وعزلة في المجتمعات الغربيّة. فإذا بهم يسارعون إلى تقريع الغرب وتأنيبه وتسفيه حضارته، وقد أغفلوا وصفَ المشاهد التي جمعت أيضاً أعضاء الأسَر الغربيّة حول أبطالهم المتفوّقين في مَوقعة الحدث نفسه.
لن أفترض سوء النيّة في هذا الاتّهام، بل الفهم الخاطئ الذي يمنع صاحبَه من إدراك أسباب الاختلاف. أعتقد أنّ أخطر ما تنطوي عليه تهمة الانحلال الأخلاقي القولُ بضياع الفرد الغربيّ، وتفكّك الأسرة الغربيّة، وانحراف الحرّيّة الفرديّة الذاتيّة، وانهيار الأخلاق، لا سيما تلك المتعلّقة بمقام الجسد والمرأة والجنس. وعلاوة على ذلك، غالباً ما نَعيب على الغرب ازدواجيّة معاييره الإنسيّة الدِّيموقراطيّة، خصوصاً في نطاق السياسات الخارجيّة. لا بدّ لنا، والحال هذه، من تدبّر وجوه الضلال في مثل الانتقادات اللاذعة المهينة هذه.
من أفضل سبُل الاستجلاء النظرُ في طبيعة الاجتماع الغربي المعاصر الذي قام على إرثٍ إغريقيٍّ - لاتيني يعترف بمقام الفرد، على تنوّعٍ في المقادير، ويُفرد للمجال العمومي منزلة الصدارة في نظام المدينة الإنسانيّة. معنى ذلك أنّ المجتمعات الغربيّة استوحت، في نهضتها الإنسيّة الناشطة منذ القرن السادس عشر، مثالَ المدينة الإغريقيّة القديمة التي كانت تولي المناقشة العلنيّة المفتوحة العناية الفائقة. ومع ذلك، يعرف الجميع أنّ الغرب اختبر الظلاميّات والجهالات والاحترابات المميتة، لا سيّما إبّان أزمنة تصارع الممالك الغربيّة. غير أنّ القرون الوسيطة ليست حقبة اقتتال فحسب، بل نضجت فيها أيضاً وأينعت وأثمرت أبهى إبداعات الفكر وجمالات الفنّ وارتقاءات الروح.
ما يَعنيني، في المرتبة الأولى، أمران: مقام الفرد الغربي الذي نضج فاستحصل على أفضل الممكن تاريخيّاً من حقوقه الأساسيّة، ومنزلة المدينة الغربيّة التي تطوّرت تشريعيّاً ومؤسّساتيّاً فأضحت الدولة الحاضنة الجامعة الحامية. لا يمكننا أن نفهم الغرب، أي أوروبّا وأميركا الشماليّة وأستراليا ونيوزيلندا، ما دمنا نؤوّل تأويلاً خاطئاً فرديّة الإنسان الغربي الذي يتمسّك بذاتيّته قبل أي أمر آخر. فالذات الفرديّة أصلُ الأصول في الوجود، وفي الحياة، وفي الاجتماع. لذلك تنبثق منها كلُّ القرارات، وإليها تعود كلُّ المرجعيّات، وفيها تنضج كلُّ المسارات. غير أنّ هذه الفرديّة لا تعني بالضرورة الانفراديّة والانعزاليّة والتقوقعيّة. ليس في شرائع الأرض كلّها من تشريعٍ يتدبّر المسؤوليّات القانونيّة الفرديّة والجماعيّة تدبّراً عاقلاً حصيفاً متّزناً كما يتدبّرها التشريع الغربي الذي استفاد من خصوصيّات الأمم الآخر واستلهم نُظُمَها واستدخلها في شرعة حقوق الإنسان الكونيّة. وليس مَن ينظّم العمل الجماعي كما ينظّمه أهلُ الغرب في مؤسّساتهم ومنظّماتهم وجمعيّاتهم ومنتدياتهم ومحافلهم. ليس الغربيّون بأهل التوحّش الانعزاليّ، بل صانعو العمل الجماعي الناجح، بخلاف كثيرٍ من أهل المجتمعات الآسيويّة والأفريقيّة المنتشين بسلطانهم الفردي المطلق. لا بدّ لنا من الاعتراف بأنّ مقام الفرد الغربي أتاح للمجتمعات الغربيّة أن تنهض نهضة ثقافيّة علميّة تقنيّة اقتصاديّة جعلتها في الطليعة. ومع ذلك، يُقرّ أهلُ الغرب أنفسُهم بأنّ التطرّف في الفرديّة يُفضي إلى عزلة الإنسان وتفكّك الأواصر الطبيعيّة العيليّة والروابط الوجدانيّة العاطفيّة. في جميع الأحوال، يعتقد إنسانُ الغرب أنّ الحرّيّة الفرديّة الذاتيّة قيمة أخلاقيّة عظمى لا يجوز التخلّي عنها على الإطلاق.
أمّا مقام الدولة في المدينة الإنسانيّة الغربيّة، فتطوّر تطوّراً مذهلاً جعل الناس يستجيرون بها في كلّ قضايا معيّتهم الاجتماعيّة. ذلك بأنّ التشريع الغربي الشامل في الأحوال الشخصيّة وأخلاقيّات الحياة والطبّ واقتصاديات المعرفة وتقنيات المعلوماتيّة، وما إلى ذلك من حقول إنتاجيّة حيويّة، جعل الفرد يشعر بالاطمئنان الوجودي يرسّخه الاستقرارُ السياسي المبني على تطوّر الأنظمة الدِّيموقراطيّة، ويعزّزه الرخاءُ الاقتصادي الذي واكب نهضة المجتمعات الغربيّة. من جرّاء هذا كلّه، اتّضح أنّ الدولة الغربيّة المعاصرة تستطيع أن تُعفي الإنسانَ الفردَ من التواكل العيليّ، أو حتّى العشائريّ، الذي ما برح سائداً في المجتمعات الآسيويّة والأفريقيّة الأخرى. مظاهرُ شتّى من الحياة الاجتماعيّة الناشطة عندنا مقترنة باختلالات الانتظام العربي العامّ وبضرورات التعويض التضامني المنقذ من الهلاك.
أعلم علمَ اليقين أنّ التضامن العيلي اضطرب في الغرب بسبب من تفاقم الحرّيّات الفرديّة. ولكنّ هذا الاضطراب لا يعني أنّ الغرب لا يشعر بضرورة المحضن الأسري الدافئ. أعرف معرفة دقيقة أنّ الحرّيّة الأخلاقيّة شبهُ مطلقة في المجتمعات الغربيّة. بيد أنّ التخفّف من الرقابة الأخلاقيّة لا يدلّ على انحطاط الأخلاقيّات الغربيّة. أعتقد في هذا السياق أنّ معايير السقوط الأخلاقي والرفعة الأخلاقيّة ملتبسة تتغيّر بتغيّر المرجعيّات الثقافيّة. إذا كان الخفَر والحشمة والتعفّف من سمات الإنسان الشرقيّ، فإنّ الشفافيّة والصراحة وجرأة التعبير واستثمار فضائل التعرية النقديّة الذاتيّة الوجدانيّة الفكريّة، حتّى الجسديّة أيضاً، من ميزات الإنسان الغربي وخصائصه التي تضمن له النجاح والتألّق الابتكاريّ.
إذا عرضت المرأة جسدَها العاري في الإعلان الغربيّ، فهذا لا يعني أنّ نساء الغرب مومسات وأنّ رجال الغرب فاجرون، بل يعني أنّ قيمة الحرّيّة الفرديّة تعلو قيمة الحشمة الجسديّة. هل يصعب فهم هذا الاختلاف في تقويم حقائق الحياة حتّى تُمسك الألسنة عن الاتّهام المتهوّر؟ ما ذنب الذين يفضّلون الشفافيّة في المسلك، والإفصاح السليم عن مطاوي النفس، والتعرية الكيانيّة الصادقة أمام الملأ؟ أفلا يليق بنا أن نعتمد بعضاً من المعايير الأخلاقيّة السليمة، عوضاً عن التلطّي والتستّر بالمبادئ والتظاهر العلني بالاعتصام الكلامي المحض بأحكام الأخلاق، في حين أنّ الباطن يناقض الظاهر، وأنّ الخلوة الفرديّة والجماعيّة في المجتمعات المقهورة اجتماعيّاً غالباً ما تنطوي على أشكالٍ شتّى من الانحراف الجنسيّ؟ للغرب انحرافاته، ولنا انحرافاتنا. والعبرة في تجاوزها تجاوزاً يخدم قضيّة الإنسان الجوهريّة.
يُحزنني أن نسارع إلى تعرية الغرب ونغفل عن تعرية ذواتنا. أفهم الأسباب التي تجعل مجتمعاتنا العربيّة تنتقد الغرب في كلّ شاردة وواردة؛ إذ إنّها عانت الأمرَّين من استبداده. بيد أنّ التاريخ دورة سلطانيّة عبثيّة يتداول النفوذَ فيها مَن يفوز بالاقتدار الأعظم. يمكننا أن ننتقد الغرب ونقبّح أفعاله الاستعماريّة. ولكنّه لا يحقّ لنا أن نتغافل عن سلسلة التضامنات الإنسانيّة العابرة الثقافات، وقد أنشأها الغرب تارة من أجل تعزيز استعماره، وتارة من أجل تعزيز مقام الإنسانيّة وحسب. أذكر في الأزمنة المعاصرة بضعاً من المؤسّسات الإنسانيّة العالميّة التي أظهرت لنا جميعاً قيمة الاقتناع الأخلاقي الذي يزيّن وعي الإنسان الغربي الحرّ: الصليب الأحمر الدوليّ، وأطبّاء بلا حدود، وإعلاميّون بلا حدود، والمؤسّسات القانونيّة الدوليّة على تنوّع مُسمّياتها، ومنها على سبيل المثال منظّمة العفو الدوليّة، ومنظّمة الصحّة والعمل والتغذية والتربية، وما شاكل ذلك. قد تتلاعب القوى النافذة بهذه المنظّمات، ولكنّ أصل نشوئها مرتبطٌ بالمقصد الأخلاقي الشريف. ويبدو اليوم أنّ التلاعب بضمير المنظّمات العالميّة لم يعد يقتصر على الأنظمة الغربيّة، بل طفقت الدوَل الآسيويّة والعربيّة المقتدرة ماليّاً تشارك المتلاعبين في مناوراتهم المفضوحة.
أعود إلى النعوت التي نرشق بها الإنسانَ الفردَ في المجتمعات الغربيّة، ومن أبشعها فردانيّتُه وانعزاليّتُه وجفائيّتُه الطباعيّة. ولكن هل نسينا أنّ عوامل الطبيعة لها تأثيرٌ بالغٌ في نحت الطباع الإنسانيّة؟ من الحقائق الأنتروبولوجيّة أنّ الوجدان يضطرم بأشعّة الجنوب الدافئ، ويتجمّد بصقيع الشمال القارس. كيف لنا أن نحادث جارنا في ضباب لندن الذي يمنعنا من رؤية إصبعنا، في حين نَنعم في بغداد بدفء الشمس يدفعنا إلى الخروج من المنازل والتعاشر في الأحياء والشوارع؟ حتّى في قلب القارّة الأُوروبّيّة، يعجب أهلُ الشمال المتحفّظون، الخشنو المسِّ، المستأنسون بالوحشة، من مسلك أهل الجنوب البشوشين، الجميلي المعشر، اللطيفي المخالطة، اللذيذي المفاكهة. أفليس في ظلمة السماء ما يفاقم تَعبُّس الوجه وتجهُّم الطلعة وانقباض الروح؟ وفي صفاء الأفق ما يعزّز بشاشة الطلعة وإشراق المحيّا وانبساط الصدر وطلاقة اللسان؟ غير أنّ الأخلاق ليست بالعذوبة الكلاميّة الجوفاء، بل بالحسّ التضامني الإنساني العميق.
أوّلُ ردّ فعلٍ تفطن إليه الشعوبُ المقهورة، في ظلمة واقعها المرير، أن تشدّ الرحال إلى الغرب حتّى تنعم بحرّيّة وجوديّة كاملة، وتتّقي شرور السلطان السياسي الباطش. المظلوم عندنا يستجير بالغرب ليحميه، وأيضاً الأصولي منّا يلجأ إلى الغرب، والمخلوع عن عرشه السياسيّ، والمنتفع الطفيليّ. ولكن ثمّة فئة أخرى من ذوي الطموح العلمي والرغبة في المغامرة الحضاريّة تروم أن تختبر الحياة في الغرب اختباراً مختلفاً. فإذا بها تضرب في الأرض بحثاً عن بيئات ثقافيّة مختلفة تهبها إحساساً كيانيّاً آخر، وتذوّقاً وجوديّاً فريداً يستثير في النفس الإنسانيّة طاقاتٍ دفينة من العزم والاستمتاع والإبداع. وحده مثل التلاقي الحضاري الرفيع هذا يجعلنا نكتشف القيَم الأخلاقيّة التي يزخر بها وعي الآخرين. ومن ثمّ، ينبغي لنا أن نحرص على استثمار أفضل ما في الغرب من قيَم أخلاقيّة سامية حتّى نعزّز فينا ما يبدو لنا على ضعف وانحلال وتقهقر. إذا سألَنا الإنسانُ الغربي عن طبيعة إسهامنا الأخلاقيّ، كشفنا له عن كنوزَ الحضارة التي نحيا فيها، ولكن من غير أن نقبّح عليه معتقداتِه وتصوّراتِه وأفعالَه، وقد ضللنا ضلالاً مبيناً في إدراك جوهرها. خلاصة القول، أن الغرب لا يحتاج إلى مَن ينتقده لكي يخرج من سباته. قبل أن نُقبل عليه بالتقريع، أكبّ يستنطق حضارتَه أسرارَها الدفينة وخلفيّاتِها المحجوبة حتّى يقوى على إصلاح ذاتيّته. فالحضارة التي تنتقد ذاتها لا خوف على أخلاقها.
*مفكر لبناني



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.