هل الحاضر امتداد حتمي لصدامات الماضي؟

لاعبو المنتخب الفرنسي يحيون الجماهير من شرفة أحد الفنادق بعد عودتهم من المونديال (رويترز)
لاعبو المنتخب الفرنسي يحيون الجماهير من شرفة أحد الفنادق بعد عودتهم من المونديال (رويترز)
TT

هل الحاضر امتداد حتمي لصدامات الماضي؟

لاعبو المنتخب الفرنسي يحيون الجماهير من شرفة أحد الفنادق بعد عودتهم من المونديال (رويترز)
لاعبو المنتخب الفرنسي يحيون الجماهير من شرفة أحد الفنادق بعد عودتهم من المونديال (رويترز)

منذ عقود من الزمن، يلاحظ كثير من المسافرين المصريين إلى بريطانيا ظاهرة ضابط الجوازات من الأصل الهندي الذي يستقبلهم في مطار هيثرو. كثير منهم لم تعجبهم هذه الحال، كانوا يفضلون وجود «بريطاني حق» في انتظارهم. هناك بالطبع وجهة نظر مقابلة تقر بإيجابية ظاهرة موظفي الجوازات من أصول مهاجرة، فالمقصود منها ربما الترحيب، من خلال الإيحاء بأن المسافر يصل إلى مكان يتقبل الآخر وإمكانية اندماجه بالكامل، إلى درجة منحه قرار دخول الناس إلى البلد الذي تبناه. لكن وجهة النظر هذه لم تقنع كثيرين من المصريين المستائين.
ثم جاء على قمة الحكومة البريطانية نفسها رئيس من أصل هندي (ريشي سوناك)، وقبل ذلك رئيس أميركي من أصل أفريقي (باراك أوباما)، الظواهر التي لا يسهل استيعابها في مجتمعات يتصور معظم الناس فيها هويتهم على أسس قومية مرتبطة بالعشيرة أو الملة الدينية. ثم أتى منظر الفريق الفرنسي في كاس العالم، المكون تقريباً كلياً من أجيال من المهاجرين الأفارقة، ليصدم المصريين؛ على الرغم من أن بلادهم تقع في أفريقيا. وعلى الرغم من أن كثيراً من لاعبي الفريق الفرنسي «يشبهوننا»، فإن بعض التعليقات هنا عن الأصول «الغريبة» للمنتخب الفرنسي لم تختلف جذرياً عن التي يطلقها اليمين المتطرف في أوروبا، والذي ينظر إلى معنى الانتماء القومي من منظور ثقافي مشابه.
لكن هناك طريقة أخرى للنظر إلى الجماعة القومية، طريقة تسمح بقدر كبير من التعددية في ظل عقد اجتماعي بانٍ للهوية. وهذه نشأت بداياتها الفكرية منذ قرون، حتى وإن لم تتضح تداعياتها بالكامل في الغرب إلا خلال عقد الستينات؛ أي بالتحديد الفترة التي احتدت واكتملت خلالها عزلة معظم العرب عن العالم المعاصر، وبداية السريان الصريح في الاتجاه المعاكس للتطورات الطارئة على الغرب الليبرالي، مع اكتمال سيطرة التسلط السياسي والخطاب القومي القبائلي ثم الأصولي الديني. فاتسعت سريعاً خلال عقود معدودة الفجوة التي كانت قد بدأت في التبلور منذ قرون.
الأفكار التي فاتتنا بالكامل طوال تلك القرون (إلا ربما خلال حقبة محدودة، سرد جوانب منها ألبير حوراني في كتابه الشهير عن «الفكر العربي في العصر الليبرالي»)، بدأت في التكون في بريطانيا القرن السابع عشر، تزامناً مع اندلاع الثورة العلمية. ويمكن إرجاع تبلورها تحديداً إلى مؤلفات الفيلسوف جون لوك عن نظم الحكم، وعن التسامح، والذي كان كذلك فيلسوفاً مهماً لطرق المعرفة العلمية، وصديقاً مقرباً لنيوتن الذي شكلت اكتشافاته البداية «الرسمية» للثورة العلمية: فإذا كان من الضروري إرجاع بداية تلك الثورة لأحداث بعينها، فيجب أن يكون على رأسها نشر نيوتن كتابه عن «الأسس الرياضية للفلسفية الطبيعية» الذي سرد فيه قوانينه للحركة والجاذبية. أما الحدث الآخر الأهم فيجب أن يكون نشأة الجمعية الملكية التي لعب نيوتن فيها دوراً مركزياً، وكان رئيسها قرابة ربع قرن.
من الناحية الفكرية كان لتبيين نيوتن أن العقل البشري يمكنه استيعاب معطيات العالم الطبيعي -في قوانين عامة تربط بين سقوط الأجسام على الأرض وحركة أجرام الكون- تداعيات ثورية ذات عمق ونطاق واسع: فالعقل القادر على مثل هذه الأشياء يجب ألا يكبته ميراث ثقافي تقليدي، ليس من الواضح أنه يصمد أمام النقد، أو أمام المقارنة بما يحدث فعلاً في العالم.
هذا المنطلق يجسد نقيضاً للنظرة التقليدية للعالم التي تحاول إخضاعه لثوابت لها «قدساتها» المتوارثة لدى الجماعة، وتشكل جزءاً مهماً من هويتها. أما من الناحية الاجتماعية المباشرة، فجسدت الجمعية الملكية نواة ومثالاً ونموذجاً للمجتمع المنفتح الذي يقبل الجدل، ويتشكك ويتحقق في كل شيء عن طريق النقاش المستند -فقط- إلى النقد المنطقي والمقارنة بمعطيات الواقع، بصرف النظر عن أي «ثوابت» مسبقة.
من ناحية أخرى، أدت تداعيات التطورات التقنية للثورة العلمية، في مجالات مثل التواصل والمواصلات، إلى تفاقم حجم التعامل بين الأغراب (على عكس الأقارب وأهل القرية الواحدة). هذا التفاقم (كما شرح أمثال إرنست غيلنر بالتفصيل)، أدى بدوره إلى تبلور الهوية القومية الحداثية، المبنية على التركيز على عقد اجتماعي ينظم التعاملات عن طريق لغة اجتماعية توافقية؛ مستندة إلى ما هو مشترك، وملخصة في مبادئ عامة يتفق عليها الناس، كأساس لهوية الدولة ونظامها السياسي، بصرف النظر عن اختلاف خلفياتهم ومللهم.
هذه المبادئ والحقوق الإنسانية العامة أخذت صوراً أكثر دقة وصرامة خلال القرن الثامن عشر الفرنسي، الذي يعرف أيضاً بعصر التنوير النابع عن الثورة العلمية. ثورة نيوتن أثرت في فرنسا بعمق؛ عملية سرد تداعيات نظرياته الرياضية قادها فرنسيون عظماء، مثل لابلاس، ولاغرانج، ودالومبير، وبعضهم كانت له إسهامات فلسفية وسياسية مهمة، ناهيك عن دور أمثال فولتير الذي تأثر بعمق بنيوتن وإنجازاته، وما نتج عنهما من تطورات اجتماعية وسياسية في بريطانيا.
ظل العالم العربي معزولاً عن تلك التطورات، حتى جاءت إلينا في صورة الحملة النابليونية التي جسدت تداعيات الثورة الفرنسية الفكرية، والتي اصطدمت في مصر بعنف مع واقع فكري واجتماعي مغاير تماماً.
صاحب نابوليون في تلك الحملة كوكبة من العلماء. ويمكن ذكر أمثال مونغ وأراغو، وبالذات جوزيف فوريه الذي قاد البعثة العلمية المصاحبة للحملة، ونظم عملية إتمام موسوعة «وصف مصر» وكتب مقدمتها (وهي عبارة عن كتاب كامل)، بالإضافة لكونه أستاذ شابوليون الذي نجح في فك شفرة اللغة المصرية القديمة.
فوريه الذي عمل أيضاً حاكماً لإحدى مقاطعات مصر، كان من أعظم علماء الرياضيات التطبيقية (والفيزياء)، وكان يرى مثل زملائه أنه في بعثة «تنويرية»، تنقل إلى مصر منطق وطرق العلم والفكر العقلاني، في سبيل «إنقاذها» من أوضاعها «المحزنة». لكن عندما اصطدم ذلك مع واقع أن كثيراً من المصريين (خصوصاً المرتبطين بمؤسسات دينية تقليدية)، لم يتقبلوا أهداف هذه «البعثة الحضارية» لم يتردد فوريه في تأييد قمع المقاومة بالقوة.
في مصر، ظلت تداعيات ذلك الصدام التاريخي ممتدة، خلال محاولات التحديث التي تلت الحملة الفرنسية، وخلال وقوع البلاد تحت السيطرة البريطانية، ومع فشل الحركة الليبرالية في ضمان استقرار البلاد واستقلال كامل عن بريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى. وكان رد الفعل السلبي، المبني على أساس قومي أو ديني، فيه شبه كبير من مثيله الألماني فيما قبل: بعد الإعجاب الشديد الذي أبداه مثقفو ألمانيا بمبادئ الثورة الفرنسية، انقلب كثير منهم بعد محاولات الإخضاع الفرنسية لبلادهم؛ حين وقف الفيلسوف فيخت في برلين المحتلة يعطي «خطباً للأمة الألمانية»، وملخصها أنها أمة تتمتع بأساس «روحاني» وأخلاقي اسمي خاص بها، ممتد تاريخياً، ومتواصل عبر الأجيال، ومتفوق عن مبادئ «الكونية» العقلانية التي ترفعها فرنسا، بمنطقها البارد الذي لا يراد منه إلا السيطرة على الآخر، ومحو هويته باسم العقل والعلم.
من المعلوم بالطبع إلى أين أدت مثل ردود الأفعال هذه فيما يتعلق بطبيعة القومية الألمانية، وحتى بعد الإصلاحات الدراماتيكية التي طرأت بعد الحرب هناك رواسب للفكر القومي الألماني تجده حتى الآن في قوانين الجنسية (التي تفضل «عودة» من لديه أصل ألماني لكن أجداده هاجروا منذ أجيال، عمن وُلد في البلد واندمج فيها). على الرغم من أن ألمانيا بها عدد مهول من الهاجرين، فلن تجد كثيراً منهم في فريق الكرة القومي، حتى وإن لم يمنع ذلك الجدل في العالم العربي بشأن الفريق الألماني ونبذه، نتيجة تبنيه مواقف جدلية، على الرغم من «تكوينه التقليدي» نسبياً.
في العالم العربي، انعكست نتيجة التمسك بمفاهيم ضيقة للهوية، تتصور الحاضر امتداداً حتمياً لصدامات الماضي ولصراعات ذات طبع أزلي، في أحكام العزلة المدمرة - فكرياً واجتماعياً ومعلوماتياً- التي أدت إلى أزمات مأسوية، أساسها صدام الإرادة بمعطيات الواقع: المجسدة في الفجوة الفاصلة بين التطلع لاستعادة مكان مناسب في العالم المعاصر، يتناسب مع تصوراتنا عن ماضٍ عظيم، وحقيقة أن لا مجال لذلك في ظل نبذ الأسس الفكرية المحركة له منذ ثلاثة قرون، ومع استمرار استنزاف الموارد باستيراد منتجات الفكر العلمي في ظل العجز المستمر عن استيعاب أسسه النظرية في سبيل توطينه.
لقد أظهرت بطولة كاس العالم الأخيرة كثيراً من الفجوات الفاصلة بين تصور المنطقة العربية للعالم، وما هو سائد في المجتمعات المنفتحة في صور مبسطة، قد تبدو سطحية؛ لكن أساسها يتجذر في مناطق أعمق، تتعلق بأزمتنا التاريخية في العالم المعاصر.
* كاتب مصري



ربع قرن على عرش الكرملين

أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
TT

ربع قرن على عرش الكرملين

أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)
أكبر تحد يواجهه بوتين خلال السنوات المقبلة هو اختيار بديله على عرش الكرملين (تاس)

مع حلول نهاية عام 2024، يكون الرئيس فلاديمير بوتين قد قضى 25 سنة كاملة على عرش الكرملين. تغيرت خلالها كثيراً ملامحُ روسيا، كما تغير العالم من حولها. والرئيس الذي تسلم تركة ثقيلة، عندما عُيّن في عام 1999 رئيساً للوزراء من قبل الرئيس بوريس يلتسين، وجد نفسه أمام استحقاقات صعبة، ودخلت البلاد معه منعطفات حاسمة، وواجهت صعوبات كبيرة، لكنها استعادت قدرتها ورسخت مكانتها مجدداً بين الكبار في العالم.

أعلن يلتسين عن استقالته في 31 ديسمبر (كانون الأول) عام 1999 خلال خطاب ألقاه بمناسبة رأس السنة، وأصبح بوتين رئيساً بالنيابة. وفي شهر مارس (آذار) عام 2000 فاز أول مرة في انتخابات الرئاسة.

تولى بوتين قيادة البلاد منذ ذلك الحين، باستثناء المدة من عام 2008 إلى عام 2012، عندما كان ديميتري ميدفيديف رئيساً وكان بوتين رئيساً للوزراء. ويلاحظ كثير من الخبراء أنه حتى في ذلك الحين كان هو الذي اتخذ القرارات الرئيسية بشأن قضايا السياسة الداخلية والخارجية، وكان المقصود من انتخاب ميدفيديف احترام متطلبات الدستور الروسي، الذي لا يسمح لشخص واحد بأن يكون رئيساً أكثر من ولايتين متتاليتين.

بوريس يلتسين (يمين) يصافح بوتين (يسار) خلال حفل الكرملين في موسكو في ديسمبر 1999 (أ.ف.ب)

بوتين في ربع قرن

ربع قرن مدة طويلة إلى حد ما، وعدد محدود من القادة في التاريخ الروسي بقوا في السلطة لمدة أطول. لذا؛ فمن المنطقي أن نلخص النتائج لحكم فلاديمير بوتين.

لقد ورث دولة تعاني من كثير من المشكلات الداخلية، فالعواقب التي خلفها التخلف عن سداد الديون في عام 1998، والتحركات الانفصالية، والبطالة، والفقر... كانت مجرد قائمة صغيرة من التحديات التي كان على فلاديمير بوتين أن يواجهها على الفور.

في عام 1999، قبل أشهر قليلة من استقالة يلتسين، اندلعت حرب الشيشان الثانية في شمال القوقاز. تمكن الزعيم الروسي الجديد من إنهاء العمليات القتالية في أبريل (نيسان) عام 2000. ومع ذلك، باتت الحركة الإرهابية السرية تعمل في الشيشان لسنوات عدة أخرى.

فقط في عام 2009 رُفع نظام عمليات مكافحة الإرهاب هناك، وهو ما عُدَّ نهاية للحرب. والآن الشيشان هي محافَظة مستقرة وآمنة ومزدهرة ضمن الأراضي الروسية، ويزورها كثير من السياح كل عام للتعرف على التقاليد المحلية والتاريخ والمأكولات.

أيضاً، وفي بداية عهد فلاديمير بوتين، أضيفت حوادث طارئة مختلفة إلى حالة عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، فضلاً عن العمليات العسكرية في شمال القوقاز. وكان أكثرها صدى في أغسطس (آب) 2000، عندما غرقت الغواصة النووية «كورسك»، وأودت هذه الكارثة بحياة 118 بحاراً، وكانت صدمة لروسيا بأكملها. بالنسبة إلى فلاديمير بوتين، أصبح ذلك تحدياً حقيقياً، وواجه حينها انتقادات لعدم استجابته بشكل كافٍ للحادثة.

تضاف إلى هذه الأحداث المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الخطرة التي كان على رئيس الدولة حلها. أما بالنسبة إلى السياسة الخارجية، فرغم أن موسكو لا تزال عضواً دائماً في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فإنه حينها لم يكن لها أي دور مهم في الشؤون الدولية. لقد كان العالم أحادي القطب لمدة طويلة؛ في الواقع، كانت الولايات المتحدة منخرطة في غالبية العمليات على المسرح العالمي.

سيدة تبيع قطعة لحم كبيرة وسط حشود من الناس على أمل التغلب على أزمة النقص وارتفاع الأسعار في موسكو خلال الحقبة السوفياتية (غيتي)

«خطاب ميونيخ»

نقطة التحول كانت في عام 2007 عندما ألقى فلاديمير بوتين خطابه الشهير خلال «مؤتمر ميونيخ للأمن»، وذكر فيه تهديدات صادرة من توسع حلف «الناتو»، كما أشار إلى عدم قبول الحالة أحادية القطب أو تجاهل القانون الدولي.

في الوقت نفسه، أشار الزعيم الروسي إلى أن موسكو ستتبع سياسة خارجية مستقلة، وإلى أن تطورات الأحداث على الساحة العالمية، بما في ذلك استخدام القوة، يجب أن تستند فقط إلى ميثاق الأمم المتحدة.

كان على روسيا أن تثبت هذه الأقوال بالأفعال في وقت قريب جداً. في أغسطس عام 2008 أرسلت جورجيا قواتها إلى أوسيتيا الجنوبية وقصفت قاعدة لقوات حفظ السلام الروسية هناك. وخلال الحرب التي استمرت 8 أيام، تمكنت موسكو من هزيمة تبيليسي، واعترفت بأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا دولتين مستقلتين.

مع هذا، فإنه لم يتبع ذلك هدوء طويل الأمد. في نهاية عام 2010، اندلع ما يسمى «الربيع العربي» في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. في السنوات الأولى، لعبت روسيا دوراً سياسياً ودبلوماسياً في هذه الأحداث، وعملت بنشاط على منصة مجلس الأمن، لكن كما معروف، كان على موسكو لاحقاً أن تثبت قوة أسلحتها.

قبل ذلك، بدأت حالة التوتر في أوكرانيا. في عام 2014، على خلفية الاحتجاجات والاشتباكات مع قوات الأمن، وقع انقلاب في كييف. أسقط ممثلو ما تسمى «المعارضة»، بدعم من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، الرئيس فيكتور يانوكوفيتش. وذلك على الرغم من الاتفاقات لحل النزاعات وإجراء الانتخابات الرئاسية. وعارض سكان دونباس وشبه جزيرة القرم تطور الأحداث هذا.

في النهاية، أُجري استفتاء في القرم حول الانضمام إلى أراضي روسيا في مارس عام 2014، وأيد هذا القرار أكثر من 96 في المائة من الناخبين. ومنذ ذلك الحين، أصبحت شبه جزيرة القرم جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الروسية.

كان دونباس أقل حظاً؛ إذ استمر لسنواتٍ القتالُ المسلح بين متطوعي هذا الإقليم من جهة؛ والقوات الأوكرانية من جهة أخرى، وكان القتال بدأ في ربيع عام 2014، وأودى بحياة آلاف الأشخاص؛ بينهم نساء وأطفال.

وحتى على الرغم من توقيع «اتفاقيات مينسك» في عامي 2014 و2015، التي كانت تهدف إلى وقف إطلاق النار وتسوية وضع دونباس، فإن قصف نظام كييف لم يتوقف حتى عام 2022. ورغم ذلك؛ فإن كثيرين بدأوا ينظرون إلى انضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا بوصفه تحدياً من موسكو للولايات المتحدة ومحاولة روسية قوية للعب دور بارز على الساحة الدولية.

قوات جورجية تطلق النار فوق جدار على الجبهة في شمال غرب جورجيا أثناء الحرب الأهلية في يوليو 1993 (غيتي)

سوريا ونفوذ روسيا

أثبتت روسيا هذا بشكل أقوى في عام 2015، عندما بدأت العملية العسكرية في سوريا. آنذاك تمركز مقاتلو المعارضة ومجموعات إرهابية في ضواحي دمشق. كان هناك وضع حرج يتطور بالنسبة إلى السلطات المركزية في دمشق. ومع ذلك، فقد أدى القصف الجوي الروسي المكثف إلى وقف تقدم المتطرفين، ودفعهم إلى الوراء، وبدء تحرير المناطق الرئيسية بالبلاد التي جرى الاستيلاء عليها تقريباً منذ بداية الأزمة السورية في عام 2011.

وأظهرت العملية العسكرية قدرات روسيا ونفوذها في الشرق الأوسط. فهذا النفوذ لم يعزز موقف موسكو في المنطقة فحسب؛ بل سمح أيضاً لفلاديمير بوتين بتقديم نفسه مدافعاً عن الاستقرار الدولي ضد التهديدات الإرهابية.

لكن سوريا لم تصبح نقطة أخيرة في تعزيز مواقف روسيا على الساحة الدولية. وعادت موسكو إلى أفريقيا، حيث كانت غائبة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. وفي عدد من الحالات، تمكن فلاديمير بوتين من طرد فرنسا والولايات المتحدة. حدث هذا في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى.

تقليدياً، يُنظر إلى روسيا على أنها تعارض الاستعمار، أو بشكل أكثر دقة: الاستعمار الجديد. وهذا ما يؤتي ثماره. فقد تمكنت موسكو من بناء تعاون اقتصادي وعسكري مع الدول الأفريقية على أساس الاحترام المتبادل ودون التضحية بمصالحها الخاصة.

ولكن ربما كان التحدي الرئيسي الذي واجهه فلاديمير بوتين هو قرار إجراء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا، التي بدأت في فبراير (شباط) 2022. ويستمر القتال لحماية سكان دونباس، فضلاً عن نزع السلاح وإزالة النازية من أوكرانيا، حتى يومنا هذا.

تمكنت روسيا من تحرير مناطق كبيرة وإنشاء ما يسمى «الجسر البري» إلى شبه جزيرة القرم. بالإضافة إلى ذلك، توسعت حدود البلاد بسبب الاستفتاءات التي أُجريت في جمهوريتَي دونيتسك ولوغانسك الشعبيتين، وكذلك في منطقتَي خيرسون وزابوروجيا.

أوكرانيون يعبرون مساراً تحت جسر مدمر أثناء فرارهم من ضواحي كييف في مارس 2022. (أ.ب)

علاقات بديلة

ومع ذلك، أصبح على روسيا أن تدفع ثمناً كبيراً مقابل السياسة السيادية والمستقلة. ورغم عدم وجود تصريحات رسمية حالياً بشأن عدد الخسائر في صفوف الجيش الروسي، فإن الأدلة غير المباشرة من المسؤولين الروس تشير إلى أنها تجاوزت خسائر الاتحاد السوفياتي في حربه بأفغانستان. بالإضافة إلى ذلك، تعرضت موسكو لعقوبات وحشية وضغوطات سياسة واقتصادية من الولايات المتحدة والدول الأوروبية وحلفائها.

في جوهره، كان الأمر يتعلق بمحاولة عزل روسيا سياسياً واقتصادياً ومالياً. ومع ذلك، لم تستطع الدول الغربية تحقيق ذلك. تمكنت موسكو من بناء علاقات تجارية بديلة، والحفاظ على اتصالات وثيقة مع الدول الآسيوية؛ بما فيها دول الشرق الأوسط. وبشكل عام، فإن الاقتصاد الروسي، رغم كل التوقعات، لم يَنْهَرْ، بل يظهر نمواً.

كانت السنوات الخمس والعشرين التي قضاها فلاديمير بوتين في السلطة بمنزلة حركة تقدمية للخروج من حفرة الأزمات التي وجدت روسيا نفسها فيها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، نحو الاستقرار الداخلي وإحياء موسكو بوصفها لاعباً قوياً على الساحة الدولية.

وكما يعترف كثير من أولئك الذين ينتقدون سياسات فلاديمير بوتين، فإن شعب روسيا لم يَعِشْ بمثل هذا الثراء من قبل، ولم يَحْظَ سابقاً بمثل هذه الفرص للتنمية... سيارة شخصية، ورحلات إجازات في داخل البلاد وخارجها، وفرص شراء السلع الاستهلاكية دون أي قيود، والحصول على التعليم، وخلق مهنة في أي مجال... كل هذا أصبح ممكناً بالنسبة إلى كثير من سكان روسيا، رغم أنه قبل وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة لم يكن من الممكن تصور أي شيء كهذا.

في الوقت نفسه، أصبحت مسألة من سيحل محل بوتين، عندما تنتهي الفرصة التي يوفرها الدستور للاحتفاظ بالمنصب الرئاسي، ملحة بشكل متنامٍ، ولعل «اختيار مثل هذا الشخص وإعداده» هو التحدي الأهم الذي لم يواجهه فلاديمير بوتين بعد.

* كاتب روسي