من التاريخ: الماجنا كارتا

من التاريخ: الماجنا كارتا
TT

من التاريخ: الماجنا كارتا

من التاريخ: الماجنا كارتا

كلما زاد بحثي في تطور المفاهيم السياسية الإنسانية، رسخ يقيني بأن الأفكار السياسية ما هي إلا انعكاس للظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المحيطة بنشأتها. فعصر سيطرة الكنيسة على الشؤون الدينية في أوروبا كان بسبب ظروفها السياسية في القارة والفراغ السياسي الناجم عن اختفاء أية سلطة مركزية قادرة على مواجهة الأعباء السياسية. وعندما جاءت عصور الحكم المطلق في نفس القارة فإنها كانت نتاجًا طبيعيًا للظروف المرتبطة بضعف السلطة الكنسية ومفهوم الإمبراطورية ومعهما مفهوم الأممية والاندثار التدريجي لطبقة الإقطاع، أما بزوغ المفاهيم الديمقراطية في القرن الثالث عشر فينطبق عليها نفس هذا الناموس الذي يبدو حاسمًا، ولعل خير مثال على ذلك كان ما هو معروفًا بـ«الماجنا كارتا» أو الميثاق العظيم، تلك الوثيقة المهمة الموقعة من قبل الملك «جون» ملك إنجلترا في 1215. ويحسب البعض هذه الوثيقة خطًا أول وثيقة أساسية للحقوق والحكم المحدود، فهذه الوثيقة لم تكن إلا نتاجًا للظروف المحيطة بإنجلترا في ذلك الوقت والخلافات الطبقية والسياسية فيها.
والثابت تاريخيًا أنه منذ اعتلاء الملك «وليم الغازي» عرش إنجلترا، فإنه طور طبقة الإقطاع في البلاد ليخلق لنفسه سندًا سياسيًا يستطيع من خلاله أن يضمن الاستقرار للحكم وأن يُحصّل الأموال اللازمة والجند الكثيف من أجل تنفيذ أهدافه، وهي نفس السياسة التي اتبعها الملوك من بعده، إلى أن استفحلت سلطات هذه الطبقة الغنية في البلاد، وبدأت تواجه سلطات الملك في صراع سياسي أصيل، وباعتلاء الملك هنري الثاني سدة الحكم بدأت الأوضاع السياسية والاقتصادية تضطرب خاصة بعدما اضطر الملك لرفع الضرائب المفروضة على هذه الطبقة وبدلات التجنيد وغيرها من النفقات، فدخلت البلاد في حالة صراع مفتوح بين الملك وبين هؤلاء البارونات الإقطاعيين، فلجأ الملك إلى تعديل القوانين المحلية من أجل كبح جماح سلطانهم، وعندما آل الحكم لابنه، ريتشارد قلب الأسد، ساءت الأوضاع أكثر بسبب حروبه الممتدة خارج البلاد سواء في الحملات الصليبية أو في شمال فرنسا ثم أسره بعد ذلك، وأصبحت البلاد على حافة الحرب الأهلية، وهو ما دفع أخاه، الملك جون، لاتباع نفس السياسات من أجل تقويض سلطات هذه الطبقة.
واقع الأمر أن الظروف كانت قد تغيرت في مطلع حكم هذا الملك لعدد من الأسباب، فلقد تكتلت طبقة النبلاء ضده ورفضوا بشدة السياسات القديمة، وزاد الأمر تعقيدًا الظروف السياسية الدولية وعداء ملك فرنسا «فيليب أغسطس» لإنجلترا وهزيمة الأخيرة في سلسلة من المعارك التي أدت لفقدان إنجلترا أغلبية مقاطعاتها في شمال فرنسا، ويضاف إلى ذلك أن هذا الملك كان متواضع القدرات ولا يملك من الحيل السياسية التي كانت لكثير من أجداده أو نظرائه، ولكن الطامة الكبرى جاءت عقب صراعه المفتوح مع «إنوشنتي الثالث» بابا الفاتيكان بعد الخلاف الذي دب بينهما بسبب رغبة الملك جون تعيين أحد معارفه كبيرًا لأساقفة الكنيسة الإنجليزية وقيام الملك بتأميم كثير من الأراضي وممتلكات الكنيسة الإنجليزية لينفق منها على حروبه بعدما توترت العلاقات مع البابا، وهو ما دفع الأخير لعزله كنسيًا مما هز بشدة شرعيته ووضعه في صدام مباشر مع الكنيسة وكثيرين من رعيته، وهي الظروف التي استغلها الإقطاعيون في البلاد ودخلوا في صراع مفتوح معه، وعلى الرغم من جنوح الأخير لتسوية أوضاعه مع الكنيسة وتهدئة الجبهة الفرنسية، فإنه لم يستطع حسم الصراع مع هذه الطبقة والتي باتت تريد تحجيم سلطات الملك بأي شكل، وهنا تدخل البابا بعدما ثبّت مرشحه ككبير الأساقفة من أجل تسوية الخلافات الداخلية الإنجليزية، فقام ممثلوه بالتوسط بين الملك جون والبارونات وهو ما أسفر عما عرف بـ«الماجنا كارتا» والتي اضطر الملك جون للتوقيع عليها عن غير اقتناع بسب الظروف السياسية المحيطة به.
لعل أهم فقرتين في هذه الوثيقة كانتا الفقرة التاسعة والثلاثين والأربعين، حيث نصت الأولى على منع الاحتجاز التعسفي والمعروف في الفقه القانوني بالـ«Habeas Corpus» دون محاكمة من قبل أمثاله، وهو المعروف في النظام القانوني بالمحلفين، فضلاً عن حق المتهم في المحاكمة العادلة، ولكن الفقرة الأولى في التقدير تعد أهم ما صدر عن هذه الوثيقة من حيث تبعاتها السياسية، فلقد نصت على الحرية المطلقة للكنيسة في إنجلترا بلا أي تدخل من قبل الملك إضافة إلى حظر مصادرة ممتلكاتها على الإطلاق وهو ما قوى من سلطان الكنيسة مقابل العرش، كذلك فقد نظمت هذه الوثيقة عملية التوريث في البلاد وعلى رأسها حقوق الإقطاعيين في الميراث وعدم فرض الغرامات عليهم، كما كفلت الوثيقة أيضا إعادة الممتلكات التي كانت قد صُودرت بغير وجه حق من هذه الطبقة، كذلك فقد نظمت الوثيقة حرية التجارة في البلاد وحق التجار وغيرها من هذه الأمور المهمة والتي وضعت بعض أسس فكرة النظام التجاري الحر، وقد أقرت الوثيقة انتخاب مجلس من خمسة وعشرين بارونًا لصيانة الحقوق التي أقرتها الوثيقة والسلام مع الملك، وفي المقابل تعهد البارونات بسحب كافة قوات المرتزقة من غير الإنجليز والذين تم جلبهم للمساهمة في الجهود العسكرية ضد الملك.
وعلى الرغم من مما قد يبدو من حقوق وتنظيم داخلي للدولة الإنجليزية والعلاقة بين الطبقات والقوى السياسية في البلاد في إطار هذه الوثيقة فإن الملكية سرعان ما تنصلت من بعض الحقوق الأساسية الواردة بها، فاستمرت الصراعات بين الأطراف المختلفة على مدار القرون التالية خاصة خلال حكم الملك هنري الثالث، مما أدى إلى تحالف جديد بين البارونات والطبقة الوسطى من أجل الضغط على الملك لتنفيذ أهم التوازنات الواردة في «الماجنا كارتا»، وهو ما أسفر عام 1265 عن إنشاء جمعية بهدف تحجيم سلطات العرش مكونة من ممثلي الأقاليم المختلفة تشمل طبقة النبلاء ورجال الدين وبعض الفرسان والمواطنين، وهو ما عُرف فيما بعد بالبرلمان، وعلى الرغم من وجود بعض السلطات لهذه الجمعية فإن الملك إدوارد الأول استطاع فيما بعد أن يحولها إلى أداة لخدمة العرش ضد البارونات.
وكما هو واضح، فإن هذه الوثيقة لم يكن هدفها الأساسي هو الحكم الرشيد أو غيره من الأمور الأخرى بقدر ما كان هدفها الأساسي هو خلق التوازن بين سلطات الملك وطبقة الإقطاعيين، وهو التوازن الذي لم يكتب له النجاح إلا بعد الحرب الأهلية الإنجليزية ومن بعدها «الثورة العظيمة» كما أطلق عليها في نهاية القرن السابع عشر. وقد ضمنت هذه الوثيقة استقلالية الكنيسة عن الدولة استقلالاً تامًا لأهداف الكنيسة ذاتها وعلى غير المصلحة القومية في هذا الإطار وهو ما لم تتخلص منه إنجلترا إلا في عصر هنري الثامن وابنته الملكة إليزابيث من بعده، وهي كلها أمور تعكس بوضوح أن الهدف من ورائها لم يكن المبادئ السياسية والإنسانية بقدر ما كانت المصلحة والموائمة السياسية للأطراف المتداخلة في هذا الأمر، ولكن التطور السياسي والاجتماعي في النهاية هو حصيلة الظروف السياسية في كل دولة وليس نتاجًا للمفاهيم الإنسانية السامية كما يحلو للبعض التشدق بها.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.