قراءات كتَّاب مغاربة في 2022

تنوعت بين كتابات إبداعية ونقدية ونصوص من التراث العالمي

جمال بدومة
جمال بدومة
TT

قراءات كتَّاب مغاربة في 2022

جمال بدومة
جمال بدومة

اتسمت قراءات الكتاب المغاربة لهذه السنة بتنوع في القراءة، بأكثر من لغة، وذلك ما بين أعمال روائية وشعرية ودراسات نقدية وفكرية ونصوص من التراث العالمي لمتابعة جديد المبدعين، والاطلاع على أفكار ومعارف تشعل الرغبة في الكتابة والمعرفة... هنا حصيلة هذه القراءات:
> الناقد والمترجم ابراهيم الخطيب: «اللا متناهي في ورقة بردي»
يركز الكاتب والناقد والمترجم إبراهيم الخطي على كتابين باللغة الإسبانية أثارا اهتمامه. الأول للكاتبة الإسبانية إيرين فاييخو، يمكن ترجمة عنوانه إلى العربية بـ«اللا متناهي في ورقة بردي»، أما الآخر فللشاعر والأديب المكسيكي أوكثافيو باث، يمكن ترجمة عنوانه إلى العربية بـ«صيغ قصائد من الشرق».
يقول الخطيب إن كتاب فاييخو صدر قبل جائحة (كورونا)، وأُعيد طبعه مرات كثيرة. وهو بحث يتناول جذور الكتاب في تاريخ الإنسان، حيث تستعرض الكاتبة، التي نالت أخيراً جائزة من معرض غوادالاخارا للكتاب بالمكسيك، هذا الشيء العجيب والمذهل الذي ظهر قبل خمسة آلاف سنة، حسبما تقول، وذلك عندما اكتشف المصريون أهمية استعمال أوراق البردي في التأريخ لحياتهم ولحفظ ذاكرتهم. تتوفر الكاتبة، التي جاء كتابها في نحو 600 صفحة، على حساسية تعبيرية وسردية بالغة، حيث إنها استعملت قدرتها على السرد دون الاهتمام بالتاريخ المدقق، وعادت بنا إلى عصر الإسكندر المقدوني ومكتبة الإسكندرية، ودخلت كليوباترا التي كانت بها كتب كثيرة على شكل أوراق بردي. ثم انتقلت بعد ذلك للحديث عن ظهور المكتبات وأوراش نسخ المخطوطات... كما أشارت إلى بورخيس، وتوقفت عندما تعرض له الكتاب عبر التاريخ البشري من مآسٍ، مثل إحراق كتب الفلاسفة والكتاب وأصحاب الطوائف الدينية، في الماضي، وأيضاً في العصر الحديث، كما حصل مع النازية، ولاحقاً مع مكتبة سراييفو التي دمّرها الصرب في تسعينات القرن الماضي.
يرى الخطيب أن هذا الكتاب صادر عن مؤلفة عاشقة للكتب، حاذقة في السرد، يهمها في نهاية المطاف أن يظل الكتاب ذاكرة الإنسان التي لا تشيخ.
يقول الخطيب إن ما تأسف له في الواقع، كقارئ للكتاب، أن الكاتبة لم تولِ أي اهتمام لعصر التدوين العربي في القرن الثاني الهجري، حيث من المعروف أنه نشطت خلال ذلك العصر حركة التأليف والجمع والنسخ وتجارة المخطوطات، وهو العصر الذي اهتم به الكثير من المستشرقين.
أما كتاب باث، فهو ترجمة لقصائد عن ثلاث لغات، هي الصينية واليابانية والهندية القديمة. يشير الخطيب، هنا، إلى أن باث، خلال عمله الترجمي، ضمَّن كتابه حواشي كثيرة، والسبب أنه لم يترجم مباشرةً عن تلك اللغات، بل عن الإنجليزية والفرنسية والإيطالية. غير أننا عند قراءة صيغ القصائد، نلاحظ سيطرة قوة الشاعر على القصائد المكتوبة بالصينية واليابانية والهندية القديمة، بشكل خفف من مفعول الترجمة عن ترجمة.
> الشاعر والكاتب جمال بدومة: «قارئ في بلاد العجائب»
تراوحت العينة التي أثارت اهتمام الكاتب جمال بدومة بين الرواية والشعر. يقول إن رواية رشيد الضعيف «الوجه الآخر للظل»، الصادرة عن «دار الساقي»، تبقى من أهم الكتب التي استوقفته خلال السنة التي نودّعها، مشيراً إلى أن صاحبها يواصل فيها ما بدأه في «الأميرة والخاتم»، من خلال بناء عالم مدهش، يتحرك خارج الزمان، وينقل القارئ إلى بلاد العجائب. بلغة عربية سلسة، متخلصة من كل الشوائب.
«ملكة»، رواية أخرى أثارت اهتمام بدومة، وهي لجوديت المالح، صدرت بالفرنسية عن «دار روبير لافون»، تكشف فيها كاتبتها سراً عائلياً يتعلق بجدتها التي أُرغمت على أن تصبح زوجة ثانية لرجل لا تنجب امرأته الأولى وسنها لا تتجاوز الرابعة عشرة من العمر. رواية تمزج الأوتوبيوغرافي بالتخييلي، تنقلنا إلى قلب عائلة يهودية مغربية في ثلاثينات القرن الماضي، وتنجح في نسج خلفية تاريخية واجتماعية تكشف عن غِنى الثقافة المغربية وثرائها في أسلوب لا يخلو من سخرية. أيضاً رواية «ساحر الكريملين» لجيوليانو دا أومبولي، التي صدرت هي الأخرى بالفرنسية عن «دار غاليمار»، تحكي سيرة متخيَّلة لأحد مستشاري الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لتؤكد أن التخييل يمكن أن ينجح في التفاعل مع الأحداث الراهنية الكبرى، إذا ما اختار الزاوية والأسلوب المناسبين.
وبذائقة الشاعر كان للشعر نصيب من قراءات بدومة. يقول: «في الشعر، قضيت وقتاً طويلاً مع ديوان الشاعر الفرنسي إيفون لومان (وزن غيمة) الصادر بالفرنسية عن (دار برونو دوسي). كما قرأت بكثير من الشغف ديوان الشاعر المغربي أحمد بلبداوي (حين فر يوم الاثنين) الصادر عن (منشورات بيت الشعر في المغرب)، حيث ما زال الشاعر الخطاط وفياً لأسلوبه المتفرد، الذي يزرع الدهشة والمفارقة بين الحروف المكتوبة بخط اليد، والذي يجعل منه -في نظري- أحد أهم الأصوات الشعرية العربية المعاصرة».
وأخيراً، يضيف بدومة: «تمتعت بكتاب (ضفاف أخرى)، الصادر عن (دار الرافدين). وهي رحلة جمالية مدهشة بين عدد من الأمكنة والأزمنة، ورفقة كثير من الوجوه الإبداعية، يأخذنا فيها الشاعر والكاتب عيسى مخلوف، من خلال حوار مطول أجراه معه الكاتب العراقي محمود خضير».
> الروائي محسن الوكيلي: «قصص ضائعة»
يقول الروائي محسن الوكيلي، صاحب رواية «أسير البرتغاليين» التي اختيرت ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر، دورة 2022: «أضع لكل سنة برنامجاً صارماً أتقيّد به، تماماً كما أتقيد بما أخطط لكتابته. أقرأ في مختلف صنوف الأدب والعلوم، لكنّ الرواية تبقى أكبر اهتماماتي وعشقي الكبير».
ويضيف: «قرأت في الأشهر الأخيرة مجموعة قصصية للكاتب العملاق غابرييل غارسيا ماركيز، تحت عنوان (قصص ضائعة). مرة أخرى يبهرني هذا الكاتب؛ لغة دقيقة، مرونة عالية، وأفكار عميقة، وذلك الخيط الرفيع الذي يجعل من كل قصة حلقة مكملة للأخرى في تناغم مذهل يصب في لوحة يرسمها بحس لا يضاهَى. إنه كاتب انقلابي، استثنائي، وخالد. سيلاحظ القارئ الفطن أنه يلامس جوانب عميقة، تذهب بعيداً في المعنى، لتتجاوز المادي والمحسوس إلى ما هو أبعد، فيكشف عوالم خفية في الذات الإنسانية، للمرة الألف، سأردد العبارة نفسها؛ غابريل غارسيا ماركيز كاتب لا يتكرر مرتين».
وتابع: «أعدت قراءة رواية كنت قد قرأتها في صباي، إنها «قصة حب مجوسية» لعبد الرحمن منيف. فمع هذه الرواية يتأكد لديّ الانطباع أن الرواية العربية لا تنقص في شيء عن نظيرتها العالمية، بل تتفوق أحياناً، في جوانب بعينها لتكون بهوية خاصة، ناطقة بهموم الإنسان العربي. يجمع منيف، في هذا النص البديع والمحكم، بين اللغة العربية الحساسة والمرهفة المعنى. ينسج من خلال حكاية حب محرَّمة. نص رائع، يطارد فيه بطل الرواية عشقاً ممنوعاً يحمله في صدره ثم يشرع في البحث عنه. منيف، من خلال المحظور، يعرّي الواقع العربي المسكون بالممنوعات، والذي يعيش فيه هذا الإنسان حبيساً للتقاليد والأعراف.
أما الرواية الثالثة، يضيف الوكيلي، فهي «ماكيت القاهرة» للكاتب المصري طارق إمام. فمعها تكتشف تلك التوليفة البديعة بين التجريب والحفاظ على البناء السردي. لقد نجح إمام فيما أخفق فيه الكثير من الروائيين، فأنتج لنا نصاً تجريبياً بمواصفات خاصة، حيث لا يُلحق الجنوح إلى تكسير البنية ضرراً بالمعنى، بل يوظفه ويستثمره ليكون جزءاً من الحكاية. «ماكيت القاهرة»، أو الإنسان المصري المتشظي، نموذج للإنسان العربي. تجربة سردية تستحق الوقوف المتكرر وقراءات كثيرة».



قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما
TT

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

سيمون سكاما
سيمون سكاما

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما» Simon Schama، في كتابه «قصة اليهود» The story of the Jews الصادر عن دار نشر «فينتغ بوكس» في لندن Vintige Books London، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين في دلتا النيل في مصر سنة 475 قبل الميلاد حتى نفيهم من إسبانيا سنة 1492 ميلادية. وهو يذكر أنهم في البداية كانوا عبيداً في مصر وطُردوا بشكل جماعي، وهم حتى اليوم يحتفلون بذكرى تحررهم من العبودية في مصر. وقد أمرهم إلههم بعدم العودة إلى مصر لكنهم عصوا أمره وعادوا مراراً وتكرارً إليها. واعتماداً على أسفار موسى الخمسة، وعلى آثار عمليات التنقيب في مصر، كانت بين يدي الكاتب مادة خصبة أعانته على جمع أدلة تفيده في نثر كتابه الذي يتناول مدة زمنية أسهمت في تكوين مصير مَن حُكم عليهم بالعيش حياة الشتات في الشرق والغرب.

ويذكر الكاتب أن اليهود عاشوا حياة الشتات، وأنهم أقلية مسحوقة دائماً بين قطبين، وبين حضارتين عظيمتين؛ بين الحضارة الأخمينية وحضارة الإغريق، بين بابل ووادي النيل، بين البطالمة والسلوقيين، ثم بين الإغريق والرومان.

وهكذا عاشوا منغلقين في قوقعة في أي مجتمع يستقرون فيه ، فمثلاً فترة انتشار الإمبراطورية الإغريقية وجدوا صعوبة في الحصول على المواطَنة الإغريقيّة لأنها كانت تعتمد على ثلاث ركائز: المسرح، والرياضة (الجيمانيزيوم) التي لا يمكن أن تتحقق من دون ملاعبَ العريُ التامُّ فيها إلزاميٌّ، الشيء الذي لا يتماشى مع تعاليم اليهودية، والدراسة الأكاديمية، التي لا يمكن أن يصلوا إليها.

صحيح أنهم عاشوا في سلام مع شعوب المنطقة (سوريين، وإغريقاً، وروماناً، وفُرساً، وآشوريين، وفراعنة، وفينيقيين) لكن دائماً كانوا يشعرون بأن الخطر على الأبواب، حسب الكاتب، وأي حدث عابر قد يتحول إلى شغب ثم تمرُّد ثم مجزرة بحقهم. ومن الطبيعي أن تتبع ذلك مجاعة وصلت أحياناً إلى تسجيل حالات أكل الأحذية وحتى لحوم البشر، ومذابح جماعية تشمل الأطفال والنساء وتدنيس المقدسات. ويضرب الكاتب هنا مثلاً بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها القديس ياسون على الملك السلوقي أنطيوخس إبيفانيوس الرابع، فتحول هذا الأخير إلى وحش، وأمر بقتل كل يهودي في شوارع القدس وهدم المقدسات، وقدَّم الخنازير أضحية بشكل ساخر بدلاً من الخراف، وأجبر اليهود على أكل لحم الخنزير، وأخذ آلاف الأسرى لبيعهم في سوق النخاسة. وبعد فترة استقرار قصيرة في القدس، وأفول الحضارة الإغريقيّة لتحل مكانها الحضارة الرومانية، ذهب وفد من اليهود إلى الملك الروماني لمناشدته منح اليهود في القدس حكماً ذاتياً.

طبعاً هذه كانت مماطلة لا تُلغي وقوع الكارثة لكن تؤجلها. حتى إن الملك غاليكولا أمر ببناء تمثال له على هيئة إله وتنصيبه وسط معبد اليهود الذين كانوا يَعدّون ذلك من الكبائر.

حتى جاء اليوم الذي وقف فيه على أبوابها الملك الروماني بومبي الكبير فارضاً حصاراً دام عامين انتهى باصطحابه الأسرى اليهود مقيدين بالسلاسل لعرضهم في شوارع روما، تلت ذلك هجرة جماعية كانت آخر هجرة لهم. وهم فسروا ذلك بوصفه عقاباً إلهياً «لأنه لا يمكن أن يكون الله قد تخلى عنهم في وقت السلم كما في وقت الحرب. لأن السلم لم يكن سلم عزٍّ بل كان ذلاً».

وفي أوروبا العصور الوسطى، كان مفروضاً عليهم ارتداء شعار خاص لتمييزهم أيضاً عن باقي الناس، ومُنعوا من العمل في الوظائف الرسمية الحكومية مثل مهن الطبيب والمحامي والقاضي، حتى المهن الحرفية تم حرمانهم من التسجيل في نقاباتها. هذا بالنسبة ليهود الأشكنازي، أما بالنسبة ليهود إسبانيا السفاردي، فقد أصدرت الملكة إيزابيلا سنة 1492 (نفس سنة خروج الإسلام من إسبانيا) قانوناً لطرد اليهود من إسبانيا، ومنع اليهود من ارتداء الملابس الفاخرة، والتجول فقط في النهار، والعيش في أحياءً منعزلة، كما لا يحق لهم العمل مع المسيحيين أو العكس أو يكون عندهم خادمة مسيحية مثلاً، ومنعهم من امتلاك عقارات أو منح القروض إلا بشروط معينة...

لكن ما سبب هذا الاضطهاد بحق اليهود؟

حسب الكاتب، هناك سببان: أولاً وشايتهم إلى الملك الروماني وتحريضه لمحاكمة يسوع وهتافهم وقت صلبه «اقتلوه... اقتلوه»، أما السبب الآخر فهو أن الملكة إيزابيلا وضعت أمام اليهود الاختيار بين ثلاثة احتمالات: اعتناق المسيحية أو القتل أو الطرد، في حملةٍ لتطهير البلد من اليهودية. القليل من اليهود اعتنق المسيحية؛ خوفاً، وكان يطلق عليهم اسم «كونفرتو»، أو «المسيحيون الجدد»، لكن في السر استمروا في ممارسة طقوسهم اليهودية، وكان يطلق عليهم اسم «Marranos».

كتاب «قصة اليهود» لم يقتصر فقط على ذلك، فإلى إلى جانب فصول عن الحملات والحروب، هناك فصول عن اليهود في شبه الجزيرة العربية فترة النبي محمد، عليه الصلاة والسلام، ويهود الأندلس، وصلاح الدين الأيوبي، ويهود مصر، وكذلك يهود بريطانيا، ويهود إسبانيا. وكذلك يفتح لنا الكتاب نوافذ على الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب ذاك الزمان، ويسرد تفاصيل الهندسة المعمارية بجماليّاتها خصوصاً لدى الإغريق، حيث اشتهرت عمارتهم بالأعمدة والإفريز والرواق والفسيفساء، الشيء الذي أخذه منهم اليهود.

لكنَّ هناك نقاطاً أخفق المؤلف في تسليط الضوء عليها أو طرحها في سياق المرحلة التاريخية التي يتناولها الكتاب، ومنها مرحلة حياة عيسى، عليه السلام، من لحظة ولادته حتى وقت محاكمته وصلبه، رغم أهميتها في مجريات الأحداث بتفاصيلها التي كانت انعطافاً كبيراً في تاريخ اليهود خصوصاً والعالم عموماً. ثانياً، وعلى الرغم من دقة وموضوعية المعلومات ورشاقة السرد، فإن الكاتب لم يذكر لحظات أو مراحل إيجابية عن حياة اليهود بقدر ما ذكر أهوال الحروب والحملات ضدهم وتوابعها عليهم.

وأعتمد المؤلف على المخطوطات parchments، أو رسائل على ورق البردي، وعلى قطع فخارية أثرية اكتُشفت في القرن الماضي ضمن حملات بتمويل حكومي ضخم لبعثات أثرية بريطانية وأميركية وفرنسية تسمى «Fact finding expenditures»، أي «بعثات البحث عن الحقيقة». وكذلك على وثائق تروي قصص ناس عاديين من عقود زواج أو ملفات دعاوى قضائية، بالإضافة إلى مؤلفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيو.