أم صابرت على فراق وضياع وليدها، ربط الله على قلبها، وكانت طوعا لوحي الله عز وجل.. أشبعت رضيعها بعد جوع، وروته بعد عطش.. ذكرها القرآن الكريم.. إنها «أيارخا» أم سيدنا موسى عليه السلام.
يقول د. مصطفى مراد، عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر في كتاب «زوجات الأنبياء»: «أم موسى زوجة عمران يقال لها (أيارخا) وقال آخرون إنها تسمى (يوكابد بنت لاوي)، وهى عمة عمران، ولم يكن زواج الأقارب في ذلك الوقت محرما، وإنما التحريم جاء في ما بعد على يد موسى بعد خروج بني إسرائيل من مصر. ويذكر في القرآن الكريم أن الله قد أوكل إليها أمر حماية سيدنا موسى وليدا ورضيعا».
كان فرعون مصر بكل جبروته وقوته وماله ورجاله يخشى ما كان يتداوله بنو إسرائيل ويتدارسونه في ما بينهم، وما يؤثرونه عن إبراهيم الخليل عليه السلام من أن غلاما يخرج من ذرية إبراهيم فيكون هلاك فرعون مصر على يديه، وهنا نعود قليلا إلى الوراء إلى قصة فرعون مصر، الذي أذاق بني إسرائيل العذاب بكل أنواعه وأشكاله وقتله للأطفال التي يرويها لنا القرآن الكريم في أكثر من موضع.
وقد ذكرت لنا كتب التاريخ القديمة سبب هذه القصة في ما يروي الإخباريون، من أن فرعون رأى في منامه رؤية أفزعته. فدعا الكهنة والسحرة والمعبرين والمنجمين، فسألهم تأويل رؤياه، فقالوا: «يولد في بني إسرائيل غلام يسلبك الملك ويغلبك على سلطانك، ويخرجك وقومك على أرضك، ويبدل دينك. وقد أظلك زمانه الذي يولد فيه – أي قرب الزمان الذي يولد فيه هذا الغلام»، وما كاد يسمع فرعون هذا حتى كفر غضبه ونفد صبره، وجُن جنونه، فأمر بقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل، وأمر أتباعه بذلك، وأرسل جنوده في كل مكان يبحثون عن النساء فمن رأوها قد حملت كتبوا اسمها، فإذا جاء وقت ولادتها لا يولدها إلا نساء تابعات لفرعون، فإن ولدت جارية تركوها، وإن ولدت غلامًا، دخل حراسه فقتلوه.
* وحي من الله
* ويضيف د. أحمس حسن صبحي، في كتاب «المبعوثون إلى الأرض.. قصص الأنبياء عليهم السلام»: «حملت أيارخا أم موسى فيه، فأخفت حملها، ووضعته سرا، وكانت ولادة موسى عليه السلام في عهد فرعون، ولحكمة الله تعالى وعظمته لم تظهر على أم موسى علامات الحمل كغيرها ولم تفطن لها النساء، وما إن وضعت موسى عليه السلام حتى تملكها الخوف الشديد من بطش فرعون وجنوده، وأشفقت عليها (القابلة) فوعدتها بأن تكتم الأمر، غير أنها ما كادت تنصرف من عند أم موسى بعد الولادة حتى أبصرها جنود فرعون، فاندفعوا يقتحمون الدار وكادوا يظفرون بالوليد لولا أن لمحتهم أخته مريم فقالت لأمها (أماه هذا الحرس بالباب)، وفي ذهول المفاجأة، ألهم الله (يوكابد) فلفت ولدها في خرقة وألقته في جوف التنور، دون أن تشعر ماذا تفعل، ودخل الحرس فلم يجدوا سوى الأم بادية السكينة والاطمئنان، وإلى جانبها فتاتها تعنى بشؤون الدار في هدوء. ثم سألها الحراس: (ما أدخل عليك هذه القابلة). أجابت: (دخلت زائرة). ثم انصرفوا ودارت عينا الأم تبحثان عن ولدها، فإذا صوته ينبعث من التنور، فهرعت إليه وأخرجته لم يمسه أذى بفضل الله، وراحت تبكي حتى جاءها وحي الله عز وجل يأمرها بأن تضعه داخل صندوق وتلقيه في النيل، قال تعالى (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) سورة (القصص) الآية 7».
* «أم موسى» مرضعته
* ويذكر الأستاذ فتحي فوزي عبد المعطي في كتاب «أنبياء عاشوا في مصر»: «واستجابت (يوكابد) لوحي الله، فاتخذت تابوتا وجعلت فيه قطنا، ثم أرضعت وليدها وأرقدته في التابوت وأحكمت عليه الغطاء، وألقت به في النيل، وتعلقت عيناها بالتابوت الذي يضم الصغير الحبيب، إذ تتقاذفه الأمواج، وكان موقفا مؤثرا حين غاب التابوت عن بصرها.. فتنبهت فجأة إلى أنها ألقت ولدها بيدها في اليم. اشتد خوف أم موسى حين رأت ابنها عائمًا في صندوق وسط النهر، ولكن الله ثبتها على صبرها، وقالت لابنتها: (تتبعي أثره، وانظري أمره، ولا تجعلي أحدًا يشعر بك)، قال تعالى (وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين.. وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون) سورة (القصص) الآيتان 10 – 11».
وأنزل الله سكينته على «يوكابد» أم موسى، فأمسكت عبرتها وكتمت لوعتها، وانطوت على نفسها صابرة داعية، خاشعة مستسلمة لأمر الله. ومضت أمواج بموسى حتى انتهت به إلى روضة عند قصر فرعون كانت مستقى لجواريهن، فما إن لمحن التابوت حتى التقطنه وانطلقن به إلى السيدة «آسية»، وهي امرأة فرعون، ثم فتحت الصندوق، فلما كشفت عن وجهه أوقع الله محبته في قلبها، فقد كانت عاقرًا لا تلد، وذاع الخبر في القصر، وانتشر نبأ الرضيع حتى وصل إلى فرعون، فأسرع فرعون نحوه هو وجنوده وأراد أن يقتله، فناشدته امرأته أن يتركه، في قوله تعالى «وقالت امرأت فرعون قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون» سورة «القصص» آية 9.
فرحت امرأة فرعون بموسى فرحًا شديدًا، لكنه كان دائم البكاء، لأنه جائع، وعلى الرغم من أن امرأة فرعون جلبت له مرضعات كثيرات، فإنه لم يرد أن يرضع من أي مرضعة، فخرجوا به إلى السوق لعلهم يجدون امرأة تصلح لرضاعته، فلما رأته أخته بأيديهم عرفته، ولم تبد ذلك، فقالت لهم: «أعرف من يرضعه»، وأخذته إلى أمه.. قال تعالى «وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون. فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون» سورة «القصص» الآيتان 12 - 13.
وما إن وصل موسى إلى أمه حتى أقبل عليها يرضع، ففرحت الجواري بذلك فرحًا شديدًا، وذهبت الجارية إلى امرأة فرعون تبشرها بأن الوليد أقبل أخيرا على مرضعة، فاستدعت أم موسى، وأحسنت إليها، وأعطتها مالا كثيرا، ثم طلبت منها أن تستقر معها في القصر لترضع الوليد، فرفضت وقالت: «إن لي بعلا وأولادًا، ولا أقدر على مفارقتهم، ومن الذي يرعاهم؟»، فأخذته أم موسى إلى بيتها، وتكفلت امرأة فرعون بنفقات موسى، وبذلك رجعت أم موسى بابنها مطمئنة القلب وتذكرت وعد الله لها في قوله تعالى «إنا رادوه إليك»، وعاش موسى وأمه في حماية فرعون وجنوده، وتبدل حالهما بفضل صبر أم موسى وإيمانها.