السودان: البشير يقر أمام المحكمة بمسؤوليته عن انقلاب «الإنقاذ» 1989

حاول تبرئة المدنيين والعسكريين المشاركين معه... ومحامون يقولون إن «ما ذكره سيزيد وضعه القانوني سوءاً»

البشير خلال إحدى جلسات محاكمته (سونا)
البشير خلال إحدى جلسات محاكمته (سونا)
TT

السودان: البشير يقر أمام المحكمة بمسؤوليته عن انقلاب «الإنقاذ» 1989

البشير خلال إحدى جلسات محاكمته (سونا)
البشير خلال إحدى جلسات محاكمته (سونا)

برأ الرئيس السوداني المعزول عمر البشير معاونيه من الإسلاميين المدنيين من المشاركة في انقلاب يونيو (حزيران) 1989 الذي أطاح بالحكومة الديمقراطية المنتخبة بقيادة رئيس الوزراء الراحل الصادق المهدي، وأعلن تحمله المسؤولية كاملة عن الانقلاب، أمام محكمة عقدت أمس بالخرطوم، وذلك بخلاف تصريحات واعترافات سابقة على لسانه وألسنة معاونيه قبيل إطاحة حكومتهم.
وفي مايو (أيار) 2019، وجهت النيابة العامة بلاغات جنائية ضد البشير، الذي أودع السجن بعد عزله من الرئاسة والإطاحة بحكومته، عقب ثورة شعبية واحتجاجات عارمة نددت بحكمه وبالتردي الاقتصادي الذي تعيشه البلاد وقتها، وذلك في 11 أبريل (نيسان) 2019.
وبدأت المحاكمة الجارية الآن في 21 يوليو (تموز) 2020، ويواجه فيها البشير والمتهمون الآخرون تهماً بتقويض النظام الدستوري، وهي تهم عقوبتها الإعدام.
وقال البشير أمام المحكمة المنعقدة لمحاكمته و27 من المتهمين بتدبير الانقلاب، وأبرزهم نائبه السابق علي عثمان محمد طه، ومساعده نافع علي نافع، وأمين حزب الترابي علي الحاج محمد، والوزير السابق عوض أحمد الجاز وآخرون، إنه يتحمل المسؤولية كاملة وبمفرده عن الانقلاب.
وسخر البشير مما سماه محاولات هيئة الاتهام لإثبات التهمة بقوله: «كنت أتابع محاولات هيئة الاتهام بتقديم فيديوهات وشهود اتهام، وأنا أسمع وأستمتع». وتابع: «أخاطب المحكمة الموقرة، وأقول: أنا أتحمل كل المسؤولية عما تم في 30 يونيو، وأعلم أن الاعتراف هو سيد الأدلة».
كما حاول البشير تحمل المسؤولية عن رفاقه العسكريين المتهمين معه بالقول: «أقول للمحكمة إن كل أعضاء مجلس قيادة الثورة الموجودين في هذه القاعة، ما كان عندهم أي دور في التخطيط أو التنفيذ، وإنما تم اختيارهم من بين خيرة ضباط القوات المسلحة ليمثلوا وحداتهم وبعض الجهات». وتابع: «ما كان عندهم دور، لا في التخطيط ولا في التنفيذ».
وقال عضو هيئة الاتهام ضد البشير المحامي المعز حضرة لـ«الشرق الأوسط» عقب جلسة المحكمة أمس، إن للمتهم الحق في دحض بيّنات الاتهام، لكن اعترافات البشير لا تخدم قضيته، وإنه أقر بارتكاب جريمة تقويض النظام الدستوري، ولن يفيده وصف القضية بأنها قضية سياسية، وأن محاولته تبرئة بقية المتهمين لن تفيدهم لأن هناك بينات مباشرة ضدهم، وتابع: «ما ذكره سيزيد وضعه القانوني سوءاً».
وتناقض اعترافات البشير أمام المحكمة اعترافات زعيم حركة الإسلاميين السودانيين الراحل حسن عبد الله الترابي، التي أدلى بها في برنامج «شاهد على العصر» الذي بثته قناة «الجزيرة»، والذي قال إن البشير لا علاقة له بالتخطيط أو التنفيذ، وإنهم أتوا به قبل يوم من الانقلاب من منطقة نائية في السودان، ليقوده باعتباره الرتبة الأعلى بين الضباط الإسلاميين، وإنه لم يشارك لا في التخطيط ولا في التنفيذ.
واعترف الترابي، في حديثه للفضائية التي بثت اعترافاته بعد وفاته، بأن الضباط من الإسلاميين الذين قادوا الانقلاب شاركوا في التخطيط والتنفيذ، ولم يكن البشير بينهم، وإن الجنود الذين شاركوا معظمهم من الإخوان المدنيين، وإن معظم الجنود كانوا من المدنيين الإسلاميين الذين تزيوا بأزياء عسكرية، لدعم الانقلاب الذي خططت له حركته منذ أكثر من عقدين من الزمان.
وقال البشير مبرئاً مساعديه المدنيين من قادة الحركة الإسلامية السودانية المتهمين معه: «أؤكد للمحكمة: ما في أي مدني دخل معنا. عمل عسكري بحت، وما كنا محتاجين لمدنيين ليساعدونا على التخطيط أو التنفيذ».
وتخالف اعترافات البشير تصريحات للعسكريين والمدنيين المتهمين معه أثناء وجودهم في السلطة. فقد نقلت وسائط الإعلام السودانية والأجنية تصريحات لمعظمهم تناولوا فيها بإسهاب دورهم في الانقلاب، كما تحتفظ الذاكرة الشعبية السودانية بتصريحات وأفعال إبان الانقلاب وبعده، تكشف دور كل من المتهمين بتدبير الانقلاب.
وأوضح البشير أن انقلابه لم يكن يهدف للانفراد بالسلطة، لذلك فتح حواراً مع كل القوى السياسية، وأعطى الضباط المكلفين بالاعتقالات تعليمات صارمة بعدم الإساءة للقيادات المعتقلة وإحسان معاملتهم، وأشار في ذلك لاعتقال الزعيم الديني والسياسي محمد عثمان الميرغني. وقال إنهم استأذنوه وأمهلوه قبل اعتقاله، ثم سمحوا له حين طلب السفر للعلاج في الخارج مع تعهد بالعودة، بيد أنه سافر ولم يعد. وقال: «حين اعتقاله، وجهت بعدم تفتيش بيته، والدخول على الشريفيات».
وتباهى البشير بما سماه إنجازات حكومته، بما في ذلك اهتمامها بقضية السلام واعتبارها حلاً لكل القضايا التي يعاني منها الوطن، ونجاحها في استخراج النفط، وشروعها في حوار وطني شاركت فيه معظم الأحزاب السياسية، ووقفها الحرب في جنوب السودان.
وكان 6 من معاوني البشير المقربين قد أنكروا في المحكمة المشاركة في الانقلاب، وأبرزهم مساعده الأسبق نافع علي نافع، واللواء يونس محمود، والعميد يوسف عبد الفتاح، وعلي الحاج محمد، واللواء الطيب إبراهيم خير، وأنكر المدنيون معرفتهم بالانقلاب، فيما قال العسكريون إنهم عرفوا بالانقلاب بعد حدوثه، واختيروا أعضاء في مجلس الانقلاب والمناصب التنفيذية بالأوامر العسكرية.
وفي بدايات حكمه فصل البشير وأعوانه الإسلاميون وشردوا عشرات الآلاف من العاملين في الدولة، تحت مظلة ما أطلقوا عليه وقتها «الصالح العام»، وأدخلوا عناصر «الإخوان» والمحاسيب بدلاء عنهم تحت اسم «التمكين»، لكن الدخلاء على الخدمة المدنية، الذين أطلق عليهم «ذوو الأيدي المتوضئة»، أوغلوا في الفساد والإفساد والتجبر والطغيان.
وحولت حكومة البشير الحرب ضد المتمردين في جنوب السودان من تمرد سياسي إلى حرب دينية، ورفعت شعارات الجهاد والأسلمة، ونتج عن ذلك مقتل وتشريد ملايين الأشخاص. ونتيجة لضغوط محلية ودولية، اضطر البشير لتوقيع اتفاقية سلام مذلة مع «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، أدت لانفصال جنوب السودان في 2011 وتكوين دولته المستقلة.
كما أشعل البشير والإسلاميون حرباً أخرى في إقليم دارفور غرب البلاد، وقُتل تحت الشعارات الدينية وإثارة النعرات العرقية نفسها أكثر من 300 ألف مدني كلهم من «المسلمين» المدنيين وفقا للأمم المتحدة، ما أدى لتدخل الأمم المتحدة تحت البند السابع، في ثاني أكبر قوة دولية مسلحة في تاريخ الأمم المتحدة.
وبسبب ممارسات البشير في دارفور، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية أوامر بالقبض عليه وعلى ثلاثة من معاونيه، بتهم تتعلق بجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم التطهير العرقي، ولا تزال هذه التهم قائمة وتطالب المحكمة بتسليمه.
وكان البشير قد أدلى في خطاب جماهيري سنة 2006 بتصريحات تحدث فيها عما جرى في دارفور، وحمل فيها حكومته وكل من حمل السلاح معها المسؤولية عن الدماء هناك، وقال بنبرة ندم: «سفكنا دماء المسلمين لأتفه الأسباب». وتابع: «كيف استحللنا دماء المسلمين ونحن نعلم تماماً أن زوال الكعبة لأهون عند الله من قتل نفس مؤمنة، وأن أي خطأ له عقوبة وكفارة في الدنيا إلاّ قتل النفس المؤمنة؟».
وفي خطاب آخر في العام ذاته، اعترف البشير بأن من تم قتلهم في دارفور 9 آلاف، وليس 300 ألف كما تقول الأمم المتحدة.
وتحول السودان في عهد البشير والإسلاميين إلى مركز لتجميع المطرودين والمغضوب عليهم في بلادهم، وفُتحت أبوابه أمام قادة وتنظيمات المنظمات الجهادية المتطرفة، وعلى رأسهم زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن، والإرهابي العالمي كارلوس، وبسبب ذلك وجهت لحكومته اتهامات بالضلوع في عمليات إرهابية خارج البلاد.
ونتج عن تصرفات البشير أن وضعت الدولة السودانية منذ 1993 في القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، ولم يشطب اسمها من هذه اللائحة إلاّ بعد أن اضطرت الحكومة المدنية الانتقالية، برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، لدفع تعويضات باهظة لذوي ضحايا أميركيين.
وشنت حكومة الإسلاميين حملات إعلامية عدائية ومستفزة ضد دول المنطقة، وعلى وجه الخصوص دول الخليج العربي ومصر، بلغت ذروتها بمحاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، أثناء مشاركته في القمة الأفريقية عام 1995، وتحالفت مع إيران قبل أن تقطع علاقاتها بها لاحقاً.
واستخدم نظام البشير عائدات النفط في دعم عملياته الحربية في جنوب السودان ودارفور، وتمويل ميلشياته المتعددة، وأشهرها «الدبابين» و«كتائب الظل» وغيرها. وتقول تقارير اقتصادية إن نظامه بدد أكثر من 90 مليار دولار هي كل عائدات تصدير النفط قبيل انفصال جنوب السودان. ولا يعرف أحد أين ذهبت هذه الإيرادات في الوقت الذي لا تزال البلاد تعاني من تركة الديون الثقيلة والقروض.


مقالات ذات صلة

الرياض تكثف اتصالاتها لوقف التصعيد في السودان

شمال افريقيا الرياض تكثف اتصالاتها لوقف التصعيد في السودان

الرياض تكثف اتصالاتها لوقف التصعيد في السودان

كثَّفت المملكة العربية السعودية، جهودَها الدبلوماسية لوقف التصعيد في السودان، إلى جانب مساعداتها لإجلاء آلاف الرعايا من أكثر من مائة دولة عبر ميناء بورتسودان. وأجرى وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، أمس، اتصالات هاتفية، مع الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، ووزير الخارجية الجيبوتي محمود علي يوسف، بحث خلالها الجهود المبذولة لوقف التصعيد العسكري بين الأطراف السودانية، وإنهاء العنف، وتوفير الحماية اللازمة للمدنيين، بما يضمن أمنَ واستقرار ورفاه السودان وشعبه.

شمال افريقيا «أمانة» السعودية تجلي 1765 شخصاً لـ32 دولة من السودان

«أمانة» السعودية تجلي 1765 شخصاً لـ32 دولة من السودان

نقلت سفينة «أمانة» السعودية، اليوم (الخميس)، نحو 1765 شخصاً ينتمون لـ32 دولة، إلى جدة، ضمن عمليات الإجلاء التي تقوم بها المملكة لمواطنيها ورعايا الدول الشقيقة والصديقة من السودان، إنفاذاً لتوجيهات القيادة. ووصل على متن السفينة، مساء اليوم، مواطن سعودي و1765 شخصاً من رعايا «مصر، والعراق، وتونس، وسوريا، والأردن، واليمن، وإريتريا، والصومال، وأفغانستان، وباكستان، وأفغانستان، وجزر القمر، ونيجيريا، وبنغلاديش، وسيريلانكا، والفلبين، وأذربيجان، وماليزيا، وكينيا، وتنزانيا، والولايات المتحدة، وتشيك، والبرازيل، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وهولندا، والسويد، وكندا، والكاميرون، وسويسرا، والدنمارك، وألمانيا». و

«الشرق الأوسط» (جدة)
شمال افريقيا مصريون يسهمون في إغاثة النازحين عند المعابر الحدودية

مصريون يسهمون في إغاثة النازحين عند المعابر الحدودية

بعد 3 أيام عصيبة قضتها المسنة السودانية زينب عمر، بمعبر «أشكيت» من دون مياه نظيفة أو وجبات مُشبعة، فوجئت لدى وصولها إلى معبر «قسطل» المصري بوجود متطوعين مصريين يقدمون مياهاً وعصائر ووجبات جافة مكونة من «علب فول وتونة وحلاوة وجبن بجانب أكياس الشيبسي»، قبل الدخول إلى المكاتب المصرية وإنهاء إجراءات الدخول المكونة من عدة مراحل؛ من بينها «التفتيش، والجمارك، والجوازات، والحجر الصحي، والكشف الطبي»، والتي تستغرق عادة نحو 3 ساعات. ويسعى المتطوعون المصريون لتخفيف مُعاناة النازحين من السودان، وخصوصاً أبناء الخرطوم الفارين من الحرب والسيدات والأطفال والمسنات، بالتعاون مع جمعيات ومؤسسات أهلية مصرية، على غر

شمال افريقيا الأمم المتحدة تطلب 445 مليون دولار لمساعدة الفارين من السودان

الأمم المتحدة تطلب 445 مليون دولار لمساعدة الفارين من السودان

أعلنت الأمم المتحدة، الخميس، أنها تحتاج إلى 445 مليون دولار لمساعدة 860 ألف شخص توقعت أن يفروا بحلول أكتوبر (تشرين الأول) المقبل من القتال الدامي في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع. وأطلقت مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين هذا النداء لجمع الأموال من الدول المانحة، مضيفة أن مصر وجنوب السودان سيسجّلان أكبر عدد من الوافدين. وستتطلب الاستجابة للأزمة السودانية 445 مليون دولار حتى أكتوبر؛ لمواجهة ارتفاع عدد الفارين من السودان، بحسب المفوضية. وحتى قبل هذه الأزمة، كانت معظم العمليات الإنسانية في البلدان المجاورة للسودان، التي تستضيف حالياً الأشخاص الفارين من البلاد، تعاني نقصاً في التمو

«الشرق الأوسط» (جنيف)
شمال افريقيا الصراع في الخرطوم يوجّه ضربة جديدة للاقتصاد

الصراع في الخرطوم يوجّه ضربة جديدة للاقتصاد

وجّه الصراع المحتدم الذي يعصف بالسودان ضربة قاصمة للمركز الرئيسي لاقتصاد البلاد في العاصمة الخرطوم. كما عطّل طرق التجارة الداخلية، مما يهدد الواردات ويتسبب في أزمة سيولة. وفي أنحاء مساحات مترامية من العاصمة، تعرضت مصانع كبرى ومصارف ومتاجر وأسواق للنهب أو التخريب أو لحقت بها أضرار بالغة وتعطلت إمدادات الكهرباء والمياه، وتحدث سكان عن ارتفاع حاد في الأسعار ونقص في السلع الأساسية. حتى قبل اندلاع القتال بين طرفي الصراع في 15 أبريل، عانى الاقتصاد السوداني من ركود عميق بسبب أزمة تعود للسنوات الأخيرة من حكم الرئيس السابق عمر البشير واضطرابات تلت الإطاحة به في عام 2019.

«الشرق الأوسط» (الخرطوم)

السودان في مواجهة إحدى أسوأ المجاعات في العالم

هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
TT

السودان في مواجهة إحدى أسوأ المجاعات في العالم

هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)
هرباً من الجوع والحرب عبرت عائلات سودانية من منطقة دارفور إلى مخيم للاجئين في تشاد هذا الشهر (نيويورك تايمز)

في الوقت الذي يتجه فيه السودان صوب المجاعة، يمنع جيشه الأمم المتحدة من جلب كميات هائلة من الغذاء إلى البلاد عبر معبر حدودي حيوي؛ ما يؤدي فعلياً إلى قطع المساعدات عن مئات الآلاف من الناس الذين يعانون من المجاعة في أوج الحرب الأهلية. ويحذّر الخبراء من أن السودان، الذي بالكاد يُسيّر أموره بعد 15 شهراً من القتال، قد يواجه قريباً واحدة من أسوأ المجاعات في العالم منذ عقود. ولكن رفْض الجيش السوداني السماح لقوافل المساعدات التابعة للأمم المتحدة بالمرور عبر المعبر يقوّض جهود الإغاثة الشاملة، التي تقول جماعات الإغاثة إنها ضرورية للحيلولة دون مئات الآلاف من الوفيات (ما يصل إلى 2.5 مليون شخص، حسب أحد التقديرات بحلول نهاية العام الحالي).

ويتعاظم الخطر في دارفور، المنطقة التي تقارب مساحة إسبانيا، والتي عانت من الإبادة الجماعية قبل عقدين من الزمان. ومن بين 14 ولاية سودانية معرّضة لخطر المجاعة، تقع 8 منها في دارفور، على الجانب الآخر من الحدود التي تحاول الأمم المتحدة عبورها، والوقت ينفد لمساعدتها.

نداءات عاجلة

ويقع المعبر الحدودي المغلق -وهو موضع نداءات عاجلة وملحة من المسؤولين الأميركيين- في أدري، وهو المعبر الرئيسي من تشاد إلى السودان. وعلى الحدود، إذ لا يزيد الأمر عن مجرد عمود خرساني في مجرى نهر جاف، يتدفق اللاجئون والتجار والدراجات النارية ذات العجلات الأربع التي تحمل جلود الحيوانات، وعربات الحمير المحملة ببراميل الوقود.

رجل يحمل سوطاً يحاول السيطرة على حشد من اللاجئين السودانيين يتدافعون للحصول على الطعام بمخيم أدري (نيويورك تايمز)

لكن ما يُمنع عبوره إلى داخل السودان هو شاحنات الأمم المتحدة المليئة بالطعام الذي تشتد الحاجة إليه في دارفور؛ إذ يقول الخبراء إن هناك 440 ألف شخص على شفير المجاعة بالفعل. والآن، يقول اللاجئون الفارّون من دارفور إن الجوع، وليس الصراع، هو السبب الرئيسي وراء رحيلهم. السيدة بهجة محكر، وهي أم لثلاثة أطفال، أصابها الإعياء تحت شجرة بعد أن هاجرت أسرتها إلى تشاد عند معبر «أدري». وقالت إن الرحلة كانت مخيفة للغاية واستمرت 6 أيام، من مدينة الفاشر المحاصرة وعلى طول الطريق الذي هددهم فيه المقاتلون بالقضاء عليهم.

دهباية وابنها النحيل مؤيد صلاح البالغ من العمر 20 شهراً في مركز علاج سوء التغذية بأدري (نيويورك تايمز)

لكن الأسرة شعرت بأن لديها القليل للغاية من الخيارات. قالت السيدة محكر، وهي تشير إلى الأطفال الذين يجلسون بجوارها: «لم يكن لدينا ما نأكله». وقالت إنهم غالباً ما يعيشون على فطيرة واحدة في اليوم.

الجيش: معبر لتهريب الأسلحة

وكان الجيش السوداني قد فرض قراراً بإغلاق المعبر منذ 5 أشهر، بدعوى حظر تهريب الأسلحة. لكن يبدو أن هذا لا معنى له؛ إذ لا تزال الأسلحة والأموال تتدفق إلى السودان، وكذلك المقاتلون، من أماكن أخرى على الحدود الممتدة على مسافة 870 ميلاً، التي يسيطر عليها في الغالب عدوه، وهو «قوات الدعم السريع».

لاجئون فرّوا حديثاً من منطقة في دارفور تسيطر عليها «قوات الدعم السريع» في مخيم بتشاد (نيويورك تايمز)

ولا يسيطر الجيش حتى على المعبر في أدري، إذ يقف مقاتلو «قوات الدعم السريع» على بُعد 100 متر خلف الحدود على الجانب السوداني. وعلى الرغم من ذلك، تقول الأمم المتحدة إنها يجب أن تحترم أوامر الإغلاق من الجيش، الذي يتخذ من بورتسودان مقراً له على بُعد 1000 ميل إلى الشرق، لأنه السلطة السيادية في السودان. وبدلاً من ذلك، تضطر الشاحنات التابعة للأمم المتحدة إلى القيام برحلة شاقة لمسافة 200 ميل شمالاً إلى معبر «الطينة»، الذي تسيطر عليه ميليشيا متحالفة مع الجيش السوداني؛ إذ يُسمح للشاحنات بدخول دارفور. هذا التحول خطير ومكلّف، ويستغرق ما يصل إلى 5 أضعاف الوقت الذي يستغرقه المرور عبر «أدري». ولا يمر عبر «الطينة» سوى جزء يسير من المساعدات المطلوبة، أي 320 شاحنة منذ فبراير (شباط)، حسب مسؤولين في الأمم المتحدة، بدلاً من آلاف شاحنات المساعدات الضرورية التي يحتاج الناس إليها. وقد أُغلق معبر «الطينة» أغلب أيام الأسبوع الحالي بعد أن حوّلت الأمطار الموسمية الحدود إلى نهر.

7 ملايين مهددون بالجوع

وفي الفترة بين فبراير (شباط)، عندما أُغلق معبر «أدري» الحدودي، ويونيو (حزيران)، ارتفع عدد الأشخاص الذين يواجهون مستويات طارئة من الجوع من 1.7 مليون إلى 7 ملايين شخص. وقد تجمّع اللاجئون الذين وصلوا مؤخراً على مشارف مخيم أدري، في حين انتظروا تسجيلهم وتخصيص مكان لهم. ومع اقتراب احتمالات حدوث مجاعة جماعية في السودان، أصبح إغلاق معبر «أدري» محوراً أساسياً للجهود التي تبذلها الولايات المتحدة، كبرى الجهات المانحة على الإطلاق، من أجل تكثيف جهود المساعدات الطارئة. وصرّحت ليندا توماس غرينفيلد، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، مؤخراً للصحافيين: «هذه العرقلة غير مقبولة على الإطلاق».

أحد مراكز سوء التغذية تديره منظمة «أطباء بلا حدود» في أدري إذ يُطبّب طفل من جرح ملتهب في ذراعه ناجم عن العلاج الوريدي المستمر لسوء التغذية (نيويورك تايمز)

وكان إيصال المساعدات إلى دارفور صعباً حتى قبل الحرب. وتقع أدري تقريباً على مسافة متساوية من المحيط الأطلسي إلى الغرب والبحر الأحمر إلى الشرق، أي نحو 1100 ميل من الاتجاهين. فالطرق مليئة بالحفر، ومتخمة بالمسؤولين الباحثين عن الرشوة، وهي عُرضة للفيضانات الموسمية. وقال مسؤول في الأمم المتحدة إن الشاحنة التي تغادر ميناء «دوالا» على الساحل الغربي للكاميرون تستغرق نحو 3 أشهر للوصول إلى الحدود السودانية. ولا يقتصر اللوم في المجاعة التي تلوح في الأفق على الجيش السوداني فحسب، فقد مهّدت «قوات الدعم السريع» الطريق إليها أيضاً، إذ شرع مقاتلو «الدعم السريع»، منذ بدء الحرب في أبريل (نيسان) 2023 في تهجير ملايين المواطنين من منازلهم، وحرقوا مصانع أغذية الأطفال، ونهبوا قوافل المساعدات. ولا يزالون يواصلون اجتياح المناطق الغنية بالغذاء في السودان، التي كانت من بين أكثر المناطق إنتاجية في أفريقيا؛ ما تسبّب في نقص هائل في إمدادات الغذاء.

استجابة دولية هزيلة

وكانت الاستجابة الدولية لمحنة السودان هزيلة إلى حد كبير، وبطيئة للغاية، وتفتقر إلى الإلحاح.

في مؤتمر عُقد في باريس في أبريل، تعهّد المانحون بتقديم ملياري دولار مساعدات إلى السودان، أي نصف المبلغ المطلوب فقط، لكن تلك التعهدات لم تُنفذ بالكامل. وفي مخيمات اللاجئين المزدحمة في شرق تشاد، يُترجم الافتقار للأموال إلى ظروف معيشية بائسة. وقالت المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، التابعة للأمم المتحدة، التي تدير مخيمات اللاجئين في تشاد، إن عملياتها ممولة بنسبة 21 في المائة فقط في شهر يونيو. وقد اضطر برنامج الأغذية العالمي مؤخراً إلى خفض الحصص الغذائية، إثر افتقاره إلى الأموال.

يعيش ما يقرب من 200 ألف شخص في مخيم أدري الذي يمتد إلى الصحراء المحيطة حيث المأوى نادر ولا يوجد ما يكفي من الطعام أو الماء (نيويورك تايمز)

ومع هطول الأمطار بغزارة، جلست عائشة إدريس (22 عاماً)، تحت غطاء من البلاستيك، تمسّكت به بقوة في وجه الرياح، في حين كانت تُرضع ابنتها البالغة من العمر 4 أشهر. وكان أطفالها الثلاثة الآخرون جالسين بجوارها، وقالت: «نحن ننام هنا»، مشيرة إلى الأرض المبتلة بمياه الأمطار. لم يكن هناك سوى 3 أسرّة خالية في مركز لسوء التغذية تديره منظمة «أطباء بلا حدود»، وكان ممتلئاً بالرضع الذين يعانون من الجوع. وكان أصغرهم يبلغ من العمر 33 يوماً، وهي فتاة تُوفيت والدتها في أثناء الولادة. في السرير التالي، كان الطفل مؤيد صلاح، البالغ من العمر 20 شهراً، الذي كان شعره الرقيق وملامحه الشاحبة من الأعراض المعروفة لسوء التغذية، قد وصل إلى تشاد في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بعد أن اقتحم مسلحون منزل أسرته في الجنينة، عبر الحدود في دارفور، وقتلوا جده. وقالت السيدة دهباية، والدة الطفل مؤيد: «لقد أردوه قتيلاً أمام أعيننا». والآن، صار كفاحهم من أجل البقاء على قيد الحياة بفضل حصص الأمم المتحدة الضئيلة. ثم قالت، وهي تضع ملعقة من الحليب الصناعي في فم طفلها: «أياً كان ما نحصل عليه، فهو ليس كافياً بالمرة».

سفير سوداني: المساعدات مسيّسة

وفي مقابلة أُجريت معه، دافع الحارث إدريس الحارث محمد، السفير السوداني لدى الأمم المتحدة، عن إغلاق معبر «أدري»، مستشهداً بالأدلة التي جمعتها الاستخبارات السودانية عن تهريب الأسلحة.

مندوب السودان لدى الأمم المتحدة الحارث إدريس خلال جلسة سابقة لمجلس الأمن (أ.ب)

وقال إن الأمم المتحدة «سعيدة» بترتيب توجيه الشاحنات شمالاً عبر الحدود في الطينة. وأضاف أن الدول الأجنبية التي تتوقع مجاعة في السودان تعتمد على «أرقام قديمة»، وتسعى إلى إيجاد ذريعة «للتدخل الدولي». ثم قال: «لقد شهدنا تسييساً متعمّداً ودقيقاً للمساعدات الإنسانية إلى السودان من الجهات المانحة». وفي معبر أدري، يبدو عدم قدرة الجيش السوداني على السيطرة على أي شيء يدخل البلاد واضحاً بشكل صارخ. وقال الحمّالون، الذين يجرّون عربات الحمير، إنهم يُسلّمون مئات البراميل من البنزين التي تستهلكها سيارات الدفع الرباعي التابعة لـ«قوات الدعم السريع»، التي عادة ما تكون محمّلة بالأسلحة.

*خدمة نيويورك تايمز