تجاوز الاهتمام بنهائي كأس العالم لكرة القدم بين منتخبي الأرجنتين وفرنسا، حدود الرياضة، إذ لم تقتصر الإثارة في المباراة، التي ظلت معلقة حتى لحظاتها الأخيرة، على مجريات اللقاء في ملعب لوسيل بالعاصمة القطرية الدوحة، بل كانت هناك مباراة لا تقل إثارة بين المشجعين، حتى غير المهتمين بكرة القدم.
المباراة التي اتخذت من مواقع التواصل الاجتماعي ساحة لها، اتخذت أبعاداً ثقافية ودينية حتى تاريخية، إذ تباينت ميول المشجعين في مختلف أنحاء العالم عموماً، وفي المنطقة العربية على وجه الخصوص، اعتماداً على اعتبارات «غير رياضية»، وهو ما فسّره مراقبون بأنه «فشل للعولمة في تذويب الفوارق بين الثقافات».
المباراة النهائية للمونديال مساء «الأحد» حفلت بكثير من المشاهد التي عكست «تسييس» كثير من المشجعين للمباراة، ومالت كفة المنحازين إلى «رفاق ميسي»، ليس حباً في اللاعب صاحب المسيرة الفذة، إنما نكاية في مواقف باريس وماضيها الاستعماري، إذ مال مشجعون أفارقة إلى «الشماتة» في خسارة فرنسا للكأس، ونشر كثير من أبناء القارة السمراء على وسائل التواصل الاجتماعي تدوينات مصحوبة بصورة يبدو فيها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منكسراً، وعلّق بعضهم على تلك الصورة بالقول: «حزنك يسعدنا... بكاؤك يطربنا... غمك يفرحنا»، إضافة إلى استخدام «هاشتاغ» (#جرائم_فرنسا).
وبرز كذلك استخدام الصورة نفسهل من جانب شخصيات محسوبة على تيار الإسلام السياسي، مصحوبة بدعوات «الخزي» استناداً إلى ما يراه أصحاب هذا الموقف «دعماً فرنسياً للرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم».
واستحوذت لقطة ارتداء ليونيل ميسي قائد المنتخب الأرجنتيني المتوج لحظة تسلم كأس العالم «البشت العربي» على الجانب الأكبر من السجال الدائر على هامش نهائي المونديال، وأبرزت بعض الآراء اعتراض وسائل إعلام غربية، من بينها صحيفة «تليغراف» البريطانية، التي اعتبرت تقليد ميسي «حركة غريبة (خرّبت) أعظم لحظة في تاريخ كأس العالم»، لافتة إلى أن «ميسي لم يبدُ سعيداً بارتداء البشت الذي غطى على قميص بلاده أثناء رفعه كأس أغلى البطولات»
https://twitter.com/TheUKAr/status/1604607030244904961?ref_src=twsrc%5Egoogle%7Ctwcamp%5Eserp%7Ctwgr%5Etweet
وهو ما ردّ عليه كثير من الناشطين العرب بأن ارتداء اللاعبين والسياسيين الأجانب لرموز وطنية أو تراثية لدول أخرى ليس بالأمر الجديد، مستشهدين بصور للملك البريطاني تشارلز الثالث، وهو يرتدي ثوباً عربياً، ويؤدي رقصة «العرضة» خلال زيارة إلى الرياض، قبل 8 أعوام، وأسطورة كرة القدم البرازيلية بيليه، وهو يعتمر قبعة مكسيكية عقب الفوز بكأس العالم عام 1970.
https://www.facebook.com/abeer.saady/posts/pfbid0qWeavuxU5no6VKfyTgGCrBwvQuZn3dpFAMnLJCRLu5KmPKfJxe4sJheKNKtZqvb4l
وقدّم آخرون صوراً للاعبين بارزين، مثل الفرنسي زين الدين زيدان والإسباني أندريس إنييستا، وهم يرتدون في مناسبات سابقة «البشت» العربي.
بل تدخل في النقاش إعلاميون غربيون، تعليقاً على ما وصفوه بـ«التغطية المنحازة» للقطة نهائي المونديال، إذ ردّ الإعلامي البريطاني روبرت كارتر على اللاعب الإنجليزي الشهير غاري لينيكر قائلاً: «لو حدث وارتدى ميسي شارة المثلية الجنسية لأشاد به لينيكر وبقية المنزعجين، لكن عندما ارتدى البِشت العربي ظهرت التغطية الإعلامية بشكل سلبي... أمر مخجل وقبيح من شبكة (BBC) التي تدعي الحياد»، على حد تعبيره.
ويرى الدكتور محمد عفيفي، أستاذ التاريخ في جامعة القاهرة، والأمين الأسبق للمجلس الأعلى للثقافة في مصر، أن ما شهده مونديال قطر 2022، والمباراة النهائية من سجالات سياسية وأخلاقية وتاريخية لافتة، يجسد حقيقة أن الفوارق الثقافية «لا تزال حية في عقول الشعوب المختلفة»، وأن العولمة «فشلت في تذويب تلك الفوارق، بل زادتها وضوحاً وعنفاً».
ويضيف عفيفي، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، أن «كرة القدم يفترض فيها أنها لعبة ووسيلة للتسلية، كانت دائماً (أداة سياسية ودينية) منذ بداياتها الأولى في بريطانيا، فقد ارتبط ظهور كرة القدم في العصر الفيكتوري بمحاولة منع التلاميذ من التسرب من المدارس، وترشيد جهد المواطن المسيحي».
ويتابع أنه «مع انتقال كرة القدم إلى المستعمرات، تحولت اللعبة إلى أداة سياسية بامتياز، وصارت المواجهات بين الفرق الوطنية ونظيرتها الأجنبية (وسيلة لمقاومة الاستعمار)، وقد شهدت مصر عقب ثورة 1919 أكثر من واقعة تؤكد ذلك».
ويشير عفيفي إلى أن «مونديال قطر كان حافلاً بالمشاهد غير الكروية اللافتة، فالبعد الديني كان حاضراً، سواء في دعوة بعض الدعاةِ الجماهيرَ الأجنبيةَ إلى الإسلام، أو في اتخاذ مواقف مناوئة لفرنسا، على خلفية أزمة الرسوم المسيئة للرسول (ص)، أو من خلال حضور البعد القومي العروبي كاصطفاف المشجعين العرب وراء المنتخب المغربي، وكذلك (تصفية الحسابات) مع قوى الاستعمار القديم، ويتجلى ذلك في الفرحة التونسية بهزيمة فرنسا رغم الخروج من المنافسات، إضافة إلى (الشماتة الأفريقية) في فرنسا، المستعمرة القديمة، أو الفرحة بفوز إحدى دول الجنوب، وهي الأرجنتين بكأس العالم بعد 20 عاماً من احتكار الشمال الأبيض للفوز».
ويعتبر أستاذ التاريخ كل تلك المشاهد تعبيراً عن أن «الصراع الثقافي» في العالم «يزداد قوة وتأثيراً»، وأنه «ينتهز أي فرصة ليطفو على السطح»، حتى ولو كان ذلك في مباراة لكرة القدم، يفترض فيها أن تعزز الروح الرياضية والمنافسة الشريفة».
مبارزة ثقافية ودينية وتاريخية على هامش نهائي المونديال
مواقف فرنسا «حشدت» الخصوم... و«البشت» يفجّر سجالاً بين الشرق والغرب
مبارزة ثقافية ودينية وتاريخية على هامش نهائي المونديال
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة