البحث عن الزمن المفقود خارج المجتمع السيبراني!

هل يمكن فهم الإنسان المعاصر على نحو دقيق خارج المجتمع السيبراني؟ (رويترز)
هل يمكن فهم الإنسان المعاصر على نحو دقيق خارج المجتمع السيبراني؟ (رويترز)
TT

البحث عن الزمن المفقود خارج المجتمع السيبراني!

هل يمكن فهم الإنسان المعاصر على نحو دقيق خارج المجتمع السيبراني؟ (رويترز)
هل يمكن فهم الإنسان المعاصر على نحو دقيق خارج المجتمع السيبراني؟ (رويترز)

يصعب فهم الإنسان المعاصر على نحو دقيق خارج المجتمع السيبراني، والهواتف الذكية، والأقمار الصناعية، ومنصات التواصل الاجتماعي. إنه تحول جديد لم نعهده من قبل، أثار - ولا يزال - مخاوف متفاوتة. فالتواصل المفرط في العصر الرقمي، يلازمه الشعور بـ«الوحدة» بشكل متزايد، وارتباطنا بالعوالم الافتراضية يباعد بيننا وبين العوالم الحقيقية، واندماجنا في العالم الرقمي يكاد أن يفقدنا الاتصال بأنفسنا.
هذه التناقضات وغيرها، وإن كانت تعبر عن القلق المشروع، فإنها تشير إلى أن مكاسبنا التكنولوجية الهائلة لم تفقدنا الوعي بإنسانيتنا، وحاجتنا إلى التجارب الحية، بالمثل.

(1)
الحدث الأبرز الذي شغل الميديا مؤخراً هو امتلاك إيلون ماسك لـ«تويتر»، حيث صارت مواقع التواصل رقماً صعباً في حياتنا، ولا ينكر أحد تأثيرها ربما لأنها ليست «منصات» للتواصل فقط، وإنما «سلطة معنوية» وقدرة على التأثير وصياغة الرأي العام وتوجيهه.
أضف إلى ذلك أنها «كنز» من «المعلومات» لا يتوافر لدولة أو عدد من الدول مجتمعة، وإن شئت الدقة، فإن منصات التواصل هي نفسها «دول» لها دستورها وشروطها التي تلزم من يريد الانتماء إليها.
وصارت «تويتر» و«فيسبوك» و«إنستغرام» وغيرها، أهم وسائل «القوة الناعمة» في المجتمع السيبراني، حيث تؤثر في معتقدات البشر وأفكارهم وميولهم وتطلعاتهم المستقبلية أيضاً.
والأصل اليوناني لكلمة «سيبر» هو أن «ترشد وتوجه وتتحكم مثل قبطان السفينة». وبات المصطلح حديثاً، يشير إلى النظام القادر على التحكم في جميع أجزائه المختلفة: الآلات والكائنات الحية على السواء، ليس من خلال «الإكراه» بل وفقاً لـ«منطق الكائن الحي نفسه».
وهو تطور غير مسبوق، حيث احتلت «السيبرانية» مكانة (ومكان) الكائن الحي اليوم، بحيث أصبح «التشيوء» – ويعنى به تجسيد المجردات، وأن ننسب صفة واقعية لشيء مجرد - هو السبب الرئيس لـ«أمراض الوعي» في المجتمع السيبراني، كما يشير مايكل طومسون في كتابه الجديد «أفول الذات»**.
اللافت هنا أن المجتمع السيبراني يعيد صياغة البنى الأساسية للذات الإنسانية وواقعنا الاجتماعي المشترك، ما أدى إلى أن «التشيوء» بات ظاهرة جماعية وليست مجرد ظاهرة «ذاتية» فردية.
فقد أصبح غالبية رواد التواصل الاجتماعي، على سبيل المثال، يتبنون آراء بعضهم البعض دون تفكير نقدي أو تمحيص لهذه الآراء، بحيث إن «الذات» المستقلة التي تشكلت مع عصر التنوير وعبر الممارسة الديمقراطية، باتت مهددة بالانقراض، مع ظهور المجتمع السيبراني الذي يسعي إلى دمجها في نظامه، ووفقاً لقواعده الخاصة.

(2)
ليس مصادفة أن يستلهم طومسون عنوان كتابه «أفول الذات» من كتاب نيتشه «أفول الأصنام» عام 1889، كي ينبه الأذهان إلى حالة «الخداع» التي تحياها الفلسفة المعاصرة، والتي فشلت - على حد قوله - في استيعاب الطرق التي يتم بها «تشيوء الوعي».
فما يتم محوه تدريجياً - في الواقع - هو فكرة وجود فرد قادر على التفكير النقدي، أو تحقيق أغراضه الخاصة وأهدافه الشخصية في العالم. بدلاً من ذلك نحن أمام «ذات منغمسة» وممتصة في صرح مجتمع جماهيري، يعوق قدرتها على تخيل أي بديل آخر مختلف عن «المجتمع السيبراني».
بالعودة إلى وسائل التواصل الاجتماعي كمثال، نجد أن حسابات المستخدمين أصبحت أهم مصادر المعلومات التي يتم الاستفادة منها، عبر أحدث آليات تحليل البيانات، وبالتالي صارت هذه المنصات تعرف عن المستخدمين أكثر مما يعرفون عن أنفسهم، فضلاً عن ذويهم المقربين: ما الذي يفضله المستخدم ويرغب فيه أو العكس، ما أكثر كلمة يستخدمها أو يلغيها أو يتشكك فيها؟ ما هي أولوياته واهتماماته وميوله وأحلامه؟
هذه المعلومات والبيانات تتحول إلى «معرفة»، توجه المستخدم نفسه (لا إرادياً) في الاتجاه الذي تريده الأسواق والشركات العالمية، وربما بعض الدول والقوى السياسية والآيديولوجية، بحيث يشتري السلعة أو يبتلع الفكرة وكأنها اختياره الشخصي الحر!
على النقيض من ذلك، فإن «الذات» الفردية المستقلة كما دشنها عصر التنوير، كانت تعبر عن العلاقة الحميمة التي تربط الإنسان بذاته، كيف يتصور نفسه ويتخيلها، كيف يحدد ماهية حياته وجوهرها في الواقع، وليس كما يريدها الآخرون!

(3)
السعي إلى إعادة امتلاك الإنسان المعاصر ذاته المستقلة وقراره الخاص، يتطلب أن يكون على مستوى عال جداً من الوعي، أو أن يمتلك بدائل أخرى «آمنة».
لا مجال إذن، للتراجع عن ثقافتنا الرقمية أو إيقاف التقدم التكنولوجي، وإنما علينا فقط أن نجتهد في تأكيد إنسانيتنا حتى نحقق التوازن في المجتمع السيبراني، وهي مهمة يتصدى لها اليوم مجموعة من الفلاسفة والعلماء والأدباء.
ريتشارد كيرني، أستاذ الفلسفة في كلية بوسطن، يطرح رؤية مبتكرة حول أهمية الحواس التي لا ترتبط «مباشرة» بشبكة الإنترنت، ويركز على «تقنية اللمس» تحديداً، ذلك أن الثقافة الرقمية أعلت من شأن حاسة «البصر» على حساب حاسة «اللمس»، وهو تحيز ثقافي - برأيه - يمتد بجذوره العميقة إلى أفلاطون الذي رأى أن «البصر» أفضل وأعلى من اللمس لأنه أقرب إلى العقل حيث الأفكار.
في المقابل، رأى أرسطو في كتابه «النفس» أن «اللمس» هو أكثر الحواس حساسية وذكاء وعالمية. وهو الوسيط بين الداخل والخارج، الذات والآخر، وما هو إنساني وغير إنساني، كما يقوم بالتواصل والترجمة والتأويل.
كيرني يبرر دعوته بالعودة إلى اللمس عند أرسطو، كونه النافذة الأهم التي تنفتح على العالم وتعد بفنون جديدة في المستقبل (كيرني: ص – 52)، بل إنه أكثر الحواس ارتباطاً بالعقل، وليس كما ادعى أفلاطون، لأن «الجسد يعمل في وحدة مع الوعي، ولا يتعارض مع العقل» (كيرني: ص – 46، 47).
فالمصافحة باليد قد تعني الترحيب بالآخر، أو تحويل العداء السياسي إلى سلام بين الدول، كما حدث بين السادات وبيغين، مانديلا ودي كليرك، ذلك أن اللمس يرتبط بـ«الاهتمام» الذي يعبر عنه الجسد كله.
أضف إلى هذا، أن اللمس علاج وشفاء، كما في حالات العلاج الطبيعي، وقد يحل محل الإبصار كما في طريقة «برايل» في الكتابة والقراءة.
(4)
لا يوجد عمل إبداعي - فيما أظن - عالج مبكراً مخاوفنا الراهنة، تجاه ذوبان «الذات» في المجتمع السيبراني، مثل رواية «البحث عن الزمن المفقود» (7 أجزاء) للعبقري مارسيل بروست.
الفكرة اللامعة التي طرحها بروست، والتي تمثل فلسفة قائمة بذاتها، هي أن هناك دائماً «شيئاً ثميناً» يسبق الفكر، هو: «ما يبعث على التفكير؟».
في الجزء الافتتاحي من الجزء الأول، طريق سوان، يحاول الراوي مارسيل - الذي يشبه بروست نفسه - أن يتذكر قرية طفولته «كومبريه»، ليكتشف أن العقل غير قادر على استدعاء الماضي، إلا حين يواجه «شيئاً مادياً»، حيث تنشط الحواس بقوة.
انطلاقاً من هذه الفكرة، تحاول الشاعرة جيهان دوبرو، في كتابها الجديد عن «التذوق»*** أن تستكشف تضاريس الذات الإنسانية، من خلال «حاسة التذوق» التي تشبهها بعالم آثار «ينقب» عن المدن والأماكن والذكريات المدفونة داخلنا، من خلال تذكر نكهة الطعام ورائحته الطازجة، ذلك أن «التذوق وسيط روحي، بدونه لا يمكن الوصول إلى ما تخبئه الذاكرة عبر السنوات والمسافات». (دوبرو: ص – 22)
لقد وضع بروست إصبعنا على الخطأ الذي لا يزال ينزف في مقولة ديكارت «أنا أفكر»، التي كرست «الثنائية التراتبية» بين الفكر والمادة، والتي تمتد لأفلاطون. «لأن تذوق الطعام الذي تدركه عقولنا يبدأ في أجسادنا، ولا يمكن لأجسادنا أن تتذوق الأشياء إلا بمساعدة عقولنا التي تمنحنا المعنى» (دوبرو: ص – 2). ما يعني نهاية الثنائية بين الفكر والمادة، والعقل والجسد، التي شكلت إحدى ركائز الحداثة الغربية.
ما يميز التذوق عن غيره من الحواس الخمس، حسب دوبرو، أن الإنسان قد تستخدمه حواسه الأخرى رغماً عنه، بينما حاسة التذوق تتطلب مشاركة فاعلة من الإنسان، فقد تدخل الروائح إلى أنوفنا دون إذن منا. وغالباً ما نرى ونسمع ما نفضل تجنبه، وهكذا.
في النهاية تشير دوبرو إلى واحدة من أهم الخصائص الفريدة «للذات»، تقول: لا أحد يستطيع أن يخبرنا (بما نحب)، وإنما يجب أن نتعلم ونختبر «ذائقتنا» بأنفسنا.

* باحث مصري



مستقبل إردوغان والحزب الحاكم... سؤال تركيا الكبير

عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)
عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)
TT

مستقبل إردوغان والحزب الحاكم... سؤال تركيا الكبير

عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)
عبد الله غل (يمين) يصفق وهو يجلس بجوار إردوغان (يسار) في البرلمان التركي أغسطس 2007 (غيتي)

أمضت تركيا أكثر من 22 عاماً تحت حكم حزب «العدالة والتنمية» الذي شهدت مسيرته محطات حرجة وتحديات سياسية واقتصادية، بين صعود وهبوط، وانعكست على السياسة الخارجية على وجه الخصوص.

الحزب ذو الجذور الإسلامية الذي أسسه الرئيس رجب طيب إردوغان ومجموعة من رفاقه أبرزهم الرئيس السابق عبد الله غل، والسياسي المخضرم بولنت أرينتش، ظهر في 14 أغسطس (آب) 2001، وفاز منفرداً بحكم تركيا في أول انتخابات تشريعية خاضها في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2002، وبقي في الحكم حتى الآن.

وخاض الحزب في البداية صدامات مع النخبة العلمانية والجيش والقضاء وصلت ذروتها عند ترشيح عبد الله غل، الذي كان وزيراً للخارجية، للرئاسة عام 2007 خلفاً للرئيس الأسبق أحمد نجدت سيزر.

أزمات ومعارك

أحدث ترشيح غل أزمة كبيرة في تركيا التي شهدت تجمعات مليونية في أنقرة وإسطنبول رفضاً له. وأفلت الحزب أيضاً من الحل في دعوى أقيمت ضده أمام المحكمة الدستورية التي قضت بالغرامة المالية دون الإغلاق في عام 2008، بسبب انتهاكه «مبادئ العلمانية».

ومنذ عام 2010، بدأ الحزب حملة تغييرات واسعة، عبر تعديل الدستور، بعدما استفاد من المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي التي انطلقت رسمياً عام 2005 في إرساء العديد من حزم الإصلاحات في النظام القضائي والقوانين.

وخاص الحزب العديد من المعارك، كما نزع فتيل محاولات استهدفته على غرار قضايا «أرجنكون» و«المطرقة» و«القفص» التي حاول فيها عسكريون الإطاحة بحكومة إردوغان.

وعد إردوغان، الرجل القوي الذي لا يزال قابضاً بقوة على السلطة في تركيا، أن احتجاجات «غيزي بارك» في مايو (أيار) 2013، وما أعقبها من تحقيقات «الفساد والرشوة» التي جرت في 17 و25 ديسمبر (كانون الأول) من العام ذاته، كانت محاولات للإطاحة بحكومته.

ونُسبت تحقيقات في تهم فساد ورشوة طالت أبناء وزراء في حكومة إردوغان ورجال أعمال مقربين منه، وامتدت إلى أفراد عائلته، إلى حركة «الخدمة» التي تزعمها حليفه الوثيق السابق، فتح الله غولن، الذي توفي منذ أشهر.

حشد من الأتراك يحتفلون وسط إسطنبول فوق دبابة هجرها ضباط من الجيش بعد محاولة انقلاب فاشلة في 16 يوليو 2016 (غيتي)

مواجهة أخيرة

كانت محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو (تموز) 2016، التي نفذتها مجموعة من الجيش، نُسب إليها الانتماء إلى حركة غولن، هي آخر المواجهات التي مكنت إردوغان من إخضاع المؤسسة الحامية للعلمانية في البلاد (الجيش) بعدما تمكن من السيطرة على أجهزة الأمن والقضاء عقب تحقيقات الفساد والرشوة، وقام بتطهيرها من أنصار غولن، الذي كان حليفاً لحزب «العدالة والتنمية» منذ ظهوره.

ووسط هذه المعارك التي مكنت إردوغان وحزبه من السيطرة على جميع مفاصل الدولة وإزالة مشكلة حظر الحجاب من أجندة تركيا، كان الحزب يخوض مسار صعود اقتصادي أزال أثر الأزمة الحادة التي عاشتها البلاد في 2001، وكانت العامل الأساسي في فوزه الكاسح بأول انتخابات يخوضها.

صعود اقتصادي وتقلبات سياسية

استمر الصعود الاقتصادي، وساعد في ذلك اعتماد حزب «العدالة والتنمية» سياسة «صفر مشاكل» مع دول الجوار التي أسس لها وزير الخارجية الأسبق أحمد داود أوغلو، الذي تولى لاحقاً رئاسة الحكومة، التي كان لها الفضل في إذابة الجليد في علاقات تركيا مع محيطها في الشرق الأوسط والعالم العربي، فضلاً عن توسيع علاقات تركيا بالشرق والغرب.

ولم تخف توجهات السياسة التركية في هذه الفترة اعتمادها على نظرية «العثمانية الجديدة»، واستعادة مناطق النفوذ، التي انطلقت من نظرية «العمق الاستراتيجي» لـ«داود أوغلو»، وبعدما بدأت تركيا التمدد من الدول العربية إلى أفريقيا اعتماداً على أدوات الدبلوماسية الناعمة والمساعدات الإنسانية وعامل الدين والتاريخ المشترك، جاء ما عرف بـ«الربيع العربي» ليقلب سياسة تركيا إلى التدخل المباشر والخشن عبر أدوار عسكرية امتدت من سوريا وليبيا إلى القرن الأفريقي، وفتحت لها باب التوسع بإقامة القواعد العسكرية في الخارج.

وتسبب انحياز تركيا إلى جماعة «الإخوان المسلمين» وجماعات متشددة، ودعمها في تونس ومصر وسوريا وليبيا، في حصارها في المنطقة، وهو ما حاول سياسيوها تبريره بشعار «العزلة القيمة».

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان... ربع قرن عاصف بالتحولات (غيتي)

بين الكرد والقوميين

جاءت محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016 لتضيف مزيداً من التوتر إلى علاقات تركيا مع حلفائها الغربيين بسبب ما عدّته أوروبا وأميركا، استغلالاً لها في سحق معارضي إردوغان على اختلاف انتماءاتهم وليس أنصار غولن فقط، والتوسع في انتهاكات حقوق الإنسان وحرية التعبير عبر الاعتقالات الواسعة، وإغلاق المنصات الإعلامية، وهو ما أدى إلى «دفن» مفاوضات تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، التي كانت مجمدة بالفعل منذ عام 2012.

الحال، أن الانسداد في العلاقات مع أوروبا كان قد تأجج في فترة الانتخابات البرلمانية في تركيا عام 2015 التي شهدت مصادمات مع الكرد، وخسر فيها حزب «العدالة والتنمية» الأغلبية للمرة الأولى في الانتخابات التي أجريت في 7 يونيو (حزيران) من ذلك العام للمرة الأولى في مسيرته، قبل أن يلجأ إردوغان إلى الانتخابات المبكرة في الأول من نوفمبر (تشرين الثاني) من العام ذاته، ليفوز بها حزبه.

وفي هذه الفترة كان «العدالة والتنمية» أطلق في عام 2013 مبادرة للسلام الداخلي وحل المشكلة الكردية، قبل أن يعلن إردوغان إنهاءها في 2015 قائلاً إنه لا توجد مشكلة كردية في تركيا.

وأثبتت القضية الكردية أنها الورقة التي يلجأ إليها إردوغان في لحظات الضعف التي يمر بها حزبه وتتراجع شعبيته، فقد عاد الحديث في الأسابيع الماضية عن مبادرة جديدة للحل، أطلقها رئيس حزب «الحركة القومية»، الحليف لإردوغان، دولت بهشلي، ودعا من خلالها إلى حوار مباشر مع زعيم حزب «العمال الكردستاني» المحكوم بالسجن مدى الحياة في تركيا، عبد الله أوجلان، بل دعوته للحديث في البرلمان، والنظر في العفو عنه.

وجاءت هذه الخطوة، كما يرى مراقبون، محاولة من إردوغان لجذب كتلة أصوات الكرد بعد الهزيمة التي تلقاها حزبه في الانتخابات المحلية التي أجريت في 31 مارس (آذار) الماضي، بعدما فاز بصعوبة بالغة في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مايو 2023، والحصول على دعم نواب حزب «الديمقراطية المساواة للشعوب»، المؤيد للكرد لفتح الطريق أمام إردوغان للترشح للرئاسة للمرة الرابعة في انتخابات مبكرة تُجرى قبل عام 2028 بطلب من 360 نائباً، وهو ما لا يملكه «تحالف الشعب»، الذي تأسس مع تحول البلاد إلى النظام الرئاسي عام 2018، ليضم حزب «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية»، وأحزاب قومية وإسلامية أخرى صغيرة مثل «الوحدة الكبرى»، و«هدى بار».

وتسبب التحالف مع القوميين في انتقال «العدالة والتنمية» من حزب وسطي إصلاحي يخدم الشعب بلا تمييز ويعمل على دفع الاقتصاد والانضمام للاتحاد الأوروبي، إلى حزب يرفع شعارات الفكر القومي والأمة، ويبشر بالعثمانية الجديدة و«الوطن الأزرق» في ظل نظام يصفه معارضوه في الداخل وحلفاؤه في الغرب بأنه يكرس الديكتاتورية وحكم الفرد منذ إقرار النظام الرئاسي من خلال تعديلات دستورية تم الاستفتاء عليها عام 2017.

إردوغان (يمين) ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني في ديار بكر جنوب تركيا نوفمبر 2013 (غيتي)

ألغاز السياسة الخارجية

ربما تكون السياسة الخارجية لتركيا تحت حكم إردوغان و«العدالة والتنمية» هي أكبر الألغاز المحيرة، فبعدما أريد لها الانفتاح وتصفير المشاكل، انتقلت منذ 2011 إلى التدخل في أزمات المنطقة، ثم رفعت شعار «العزلة القيمة»، بعدما حدثت شروخ عميقة في العلاقات مع محيط تركيا الإقليمي من مصر إلى دول الخليج إلى سوريا والعراق، في مرحلة ما، ثم محاولة العودة بعد 10 سنوات ضائعة إلى مسعى «تصفير المشاكل» مرة أخرى.

وهكذا عملت تركيا على إصلاح العلاقات مع دول الخليج ومصر، وعدم التمادي في تدمير العلاقات مع إسرائيل، على الرغم من إدانتها الصارخة لحربها في غزة ولبنان وهجماتها في سوريا، وصولاً إلى الحوار الإيجابي مع اليونان وأرمينيا.

واتسمت هذه السياسة أيضاً بتبديل غير مستقر للمحاور بين الشرق والغرب، عبر محاولة توظيف ورقة العلاقات مع روسيا والصين وإيران، وتقديم طلب عضوية في مجموعة «بريكس»، والحضور في قمة منظمة شنغهاي للتعاون على المستوى الرئاسي، للضغط من أجل تحريك مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وكسر فتور العلاقات مع أميركا.

وشكل التذبذب في العلاقات بين تركيا وروسيا ملمحاً مميزاً، وكذلك مع إيران، لكن بصورة أقل علانية، إلى أن دخلت العلاقات معهما منعطفاً حاداً بسبب التطورات الأخيرة التي أطاحت بحكم بشار الأسد في سوريا، فضلاً عن عدم الرضا من جانب روسيا عن نهج تركيا في التعامل مع الأزمة الروسية الأوكرانية.

الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب إردوغان على هامش قمة منظمة شنغهاي في سمرقند سبتمبر 2022 (أ.ف.ب)

هواجس المستقبل

الآن، وبعد نحو ربع قرن ساد فيها حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في تركيا، يبدو أن إردوغان يجد صعوبة كبيرة في تنفيذ وعده لناخبيه عقب فوزه بالرئاسة في مايو 2023 بتأسيس «قرن تركيا».

يواجه إردوغان الآن معارضة عرفت طريقها إلى الشارع بعد أكثر من 22 عاماً من التشتت، وركاماً اقتصادياً أجهض ما تحقق من مكاسب في الحقبة الذهبية لحزبه، الذي أتى بالاقتصاد، والذي قد يرحل بسببه، بعدما بدأ رحلة تراجع منذ تطبيق النظام الرئاسي في 2018، مع صعوبة التغلب على المشاكل الهيكلية، وكسر حلقة التضخم الجامح وغلاء الأسعار وتآكل الدخل.

كما يدخل الحزب عام 2025 مع سؤال كبير وملحّ: «هل يضعف (العدالة والتنمية) أو يتلاشى إذا غابت عنه قيادة إردوغان القوية؟»، ومع هذا السؤال يبدو أن سيناريوهات مقبلة في الطريق لإبقاء الرجل على رأس الحزب والسلطة في تركيا.