يصعب فهم الإنسان المعاصر على نحو دقيق خارج المجتمع السيبراني، والهواتف الذكية، والأقمار الصناعية، ومنصات التواصل الاجتماعي. إنه تحول جديد لم نعهده من قبل، أثار - ولا يزال - مخاوف متفاوتة. فالتواصل المفرط في العصر الرقمي، يلازمه الشعور بـ«الوحدة» بشكل متزايد، وارتباطنا بالعوالم الافتراضية يباعد بيننا وبين العوالم الحقيقية، واندماجنا في العالم الرقمي يكاد أن يفقدنا الاتصال بأنفسنا.
هذه التناقضات وغيرها، وإن كانت تعبر عن القلق المشروع، فإنها تشير إلى أن مكاسبنا التكنولوجية الهائلة لم تفقدنا الوعي بإنسانيتنا، وحاجتنا إلى التجارب الحية، بالمثل.
(1)
الحدث الأبرز الذي شغل الميديا مؤخراً هو امتلاك إيلون ماسك لـ«تويتر»، حيث صارت مواقع التواصل رقماً صعباً في حياتنا، ولا ينكر أحد تأثيرها ربما لأنها ليست «منصات» للتواصل فقط، وإنما «سلطة معنوية» وقدرة على التأثير وصياغة الرأي العام وتوجيهه.
أضف إلى ذلك أنها «كنز» من «المعلومات» لا يتوافر لدولة أو عدد من الدول مجتمعة، وإن شئت الدقة، فإن منصات التواصل هي نفسها «دول» لها دستورها وشروطها التي تلزم من يريد الانتماء إليها.
وصارت «تويتر» و«فيسبوك» و«إنستغرام» وغيرها، أهم وسائل «القوة الناعمة» في المجتمع السيبراني، حيث تؤثر في معتقدات البشر وأفكارهم وميولهم وتطلعاتهم المستقبلية أيضاً.
والأصل اليوناني لكلمة «سيبر» هو أن «ترشد وتوجه وتتحكم مثل قبطان السفينة». وبات المصطلح حديثاً، يشير إلى النظام القادر على التحكم في جميع أجزائه المختلفة: الآلات والكائنات الحية على السواء، ليس من خلال «الإكراه» بل وفقاً لـ«منطق الكائن الحي نفسه».
وهو تطور غير مسبوق، حيث احتلت «السيبرانية» مكانة (ومكان) الكائن الحي اليوم، بحيث أصبح «التشيوء» – ويعنى به تجسيد المجردات، وأن ننسب صفة واقعية لشيء مجرد - هو السبب الرئيس لـ«أمراض الوعي» في المجتمع السيبراني، كما يشير مايكل طومسون في كتابه الجديد «أفول الذات»**.
اللافت هنا أن المجتمع السيبراني يعيد صياغة البنى الأساسية للذات الإنسانية وواقعنا الاجتماعي المشترك، ما أدى إلى أن «التشيوء» بات ظاهرة جماعية وليست مجرد ظاهرة «ذاتية» فردية.
فقد أصبح غالبية رواد التواصل الاجتماعي، على سبيل المثال، يتبنون آراء بعضهم البعض دون تفكير نقدي أو تمحيص لهذه الآراء، بحيث إن «الذات» المستقلة التي تشكلت مع عصر التنوير وعبر الممارسة الديمقراطية، باتت مهددة بالانقراض، مع ظهور المجتمع السيبراني الذي يسعي إلى دمجها في نظامه، ووفقاً لقواعده الخاصة.
(2)
ليس مصادفة أن يستلهم طومسون عنوان كتابه «أفول الذات» من كتاب نيتشه «أفول الأصنام» عام 1889، كي ينبه الأذهان إلى حالة «الخداع» التي تحياها الفلسفة المعاصرة، والتي فشلت - على حد قوله - في استيعاب الطرق التي يتم بها «تشيوء الوعي».
فما يتم محوه تدريجياً - في الواقع - هو فكرة وجود فرد قادر على التفكير النقدي، أو تحقيق أغراضه الخاصة وأهدافه الشخصية في العالم. بدلاً من ذلك نحن أمام «ذات منغمسة» وممتصة في صرح مجتمع جماهيري، يعوق قدرتها على تخيل أي بديل آخر مختلف عن «المجتمع السيبراني».
بالعودة إلى وسائل التواصل الاجتماعي كمثال، نجد أن حسابات المستخدمين أصبحت أهم مصادر المعلومات التي يتم الاستفادة منها، عبر أحدث آليات تحليل البيانات، وبالتالي صارت هذه المنصات تعرف عن المستخدمين أكثر مما يعرفون عن أنفسهم، فضلاً عن ذويهم المقربين: ما الذي يفضله المستخدم ويرغب فيه أو العكس، ما أكثر كلمة يستخدمها أو يلغيها أو يتشكك فيها؟ ما هي أولوياته واهتماماته وميوله وأحلامه؟
هذه المعلومات والبيانات تتحول إلى «معرفة»، توجه المستخدم نفسه (لا إرادياً) في الاتجاه الذي تريده الأسواق والشركات العالمية، وربما بعض الدول والقوى السياسية والآيديولوجية، بحيث يشتري السلعة أو يبتلع الفكرة وكأنها اختياره الشخصي الحر!
على النقيض من ذلك، فإن «الذات» الفردية المستقلة كما دشنها عصر التنوير، كانت تعبر عن العلاقة الحميمة التي تربط الإنسان بذاته، كيف يتصور نفسه ويتخيلها، كيف يحدد ماهية حياته وجوهرها في الواقع، وليس كما يريدها الآخرون!
(3)
السعي إلى إعادة امتلاك الإنسان المعاصر ذاته المستقلة وقراره الخاص، يتطلب أن يكون على مستوى عال جداً من الوعي، أو أن يمتلك بدائل أخرى «آمنة».
لا مجال إذن، للتراجع عن ثقافتنا الرقمية أو إيقاف التقدم التكنولوجي، وإنما علينا فقط أن نجتهد في تأكيد إنسانيتنا حتى نحقق التوازن في المجتمع السيبراني، وهي مهمة يتصدى لها اليوم مجموعة من الفلاسفة والعلماء والأدباء.
ريتشارد كيرني، أستاذ الفلسفة في كلية بوسطن، يطرح رؤية مبتكرة حول أهمية الحواس التي لا ترتبط «مباشرة» بشبكة الإنترنت، ويركز على «تقنية اللمس» تحديداً، ذلك أن الثقافة الرقمية أعلت من شأن حاسة «البصر» على حساب حاسة «اللمس»، وهو تحيز ثقافي - برأيه - يمتد بجذوره العميقة إلى أفلاطون الذي رأى أن «البصر» أفضل وأعلى من اللمس لأنه أقرب إلى العقل حيث الأفكار.
في المقابل، رأى أرسطو في كتابه «النفس» أن «اللمس» هو أكثر الحواس حساسية وذكاء وعالمية. وهو الوسيط بين الداخل والخارج، الذات والآخر، وما هو إنساني وغير إنساني، كما يقوم بالتواصل والترجمة والتأويل.
كيرني يبرر دعوته بالعودة إلى اللمس عند أرسطو، كونه النافذة الأهم التي تنفتح على العالم وتعد بفنون جديدة في المستقبل (كيرني: ص – 52)، بل إنه أكثر الحواس ارتباطاً بالعقل، وليس كما ادعى أفلاطون، لأن «الجسد يعمل في وحدة مع الوعي، ولا يتعارض مع العقل» (كيرني: ص – 46، 47).
فالمصافحة باليد قد تعني الترحيب بالآخر، أو تحويل العداء السياسي إلى سلام بين الدول، كما حدث بين السادات وبيغين، مانديلا ودي كليرك، ذلك أن اللمس يرتبط بـ«الاهتمام» الذي يعبر عنه الجسد كله.
أضف إلى هذا، أن اللمس علاج وشفاء، كما في حالات العلاج الطبيعي، وقد يحل محل الإبصار كما في طريقة «برايل» في الكتابة والقراءة.
(4)
لا يوجد عمل إبداعي - فيما أظن - عالج مبكراً مخاوفنا الراهنة، تجاه ذوبان «الذات» في المجتمع السيبراني، مثل رواية «البحث عن الزمن المفقود» (7 أجزاء) للعبقري مارسيل بروست.
الفكرة اللامعة التي طرحها بروست، والتي تمثل فلسفة قائمة بذاتها، هي أن هناك دائماً «شيئاً ثميناً» يسبق الفكر، هو: «ما يبعث على التفكير؟».
في الجزء الافتتاحي من الجزء الأول، طريق سوان، يحاول الراوي مارسيل - الذي يشبه بروست نفسه - أن يتذكر قرية طفولته «كومبريه»، ليكتشف أن العقل غير قادر على استدعاء الماضي، إلا حين يواجه «شيئاً مادياً»، حيث تنشط الحواس بقوة.
انطلاقاً من هذه الفكرة، تحاول الشاعرة جيهان دوبرو، في كتابها الجديد عن «التذوق»*** أن تستكشف تضاريس الذات الإنسانية، من خلال «حاسة التذوق» التي تشبهها بعالم آثار «ينقب» عن المدن والأماكن والذكريات المدفونة داخلنا، من خلال تذكر نكهة الطعام ورائحته الطازجة، ذلك أن «التذوق وسيط روحي، بدونه لا يمكن الوصول إلى ما تخبئه الذاكرة عبر السنوات والمسافات». (دوبرو: ص – 22)
لقد وضع بروست إصبعنا على الخطأ الذي لا يزال ينزف في مقولة ديكارت «أنا أفكر»، التي كرست «الثنائية التراتبية» بين الفكر والمادة، والتي تمتد لأفلاطون. «لأن تذوق الطعام الذي تدركه عقولنا يبدأ في أجسادنا، ولا يمكن لأجسادنا أن تتذوق الأشياء إلا بمساعدة عقولنا التي تمنحنا المعنى» (دوبرو: ص – 2). ما يعني نهاية الثنائية بين الفكر والمادة، والعقل والجسد، التي شكلت إحدى ركائز الحداثة الغربية.
ما يميز التذوق عن غيره من الحواس الخمس، حسب دوبرو، أن الإنسان قد تستخدمه حواسه الأخرى رغماً عنه، بينما حاسة التذوق تتطلب مشاركة فاعلة من الإنسان، فقد تدخل الروائح إلى أنوفنا دون إذن منا. وغالباً ما نرى ونسمع ما نفضل تجنبه، وهكذا.
في النهاية تشير دوبرو إلى واحدة من أهم الخصائص الفريدة «للذات»، تقول: لا أحد يستطيع أن يخبرنا (بما نحب)، وإنما يجب أن نتعلم ونختبر «ذائقتنا» بأنفسنا.
* باحث مصري