قبل تمجيد الديمقراطية

فنزويليات يتظاهرن ضد العنف بأجنحة فراشات ترمز إلى الحرية في 25 نوفمبر الماضي (إ.ب.أ)
فنزويليات يتظاهرن ضد العنف بأجنحة فراشات ترمز إلى الحرية في 25 نوفمبر الماضي (إ.ب.أ)
TT

قبل تمجيد الديمقراطية

فنزويليات يتظاهرن ضد العنف بأجنحة فراشات ترمز إلى الحرية في 25 نوفمبر الماضي (إ.ب.أ)
فنزويليات يتظاهرن ضد العنف بأجنحة فراشات ترمز إلى الحرية في 25 نوفمبر الماضي (إ.ب.أ)

يتم تناول الديمقراطية - في معظم الأوساط الفكرية - بوصفها النموذج الأمثل للحكم وإدارة الشأن السياسي. وهي التطبيق الأكثر نضجاً للنمط العقلاني الذي فضّله ماكس فيبر على النمطين التقليدي (الذي يمثله الحكم الوراثي) والكاريزمي (الذي يقوم على القائد الملهم). وبتطبيق الديمقراطية في معظم الدول الغربية، أصبحت تُسوّق بوصفها النموذج الناضج والمتقدم مقابل النماذج المتخلفة، لدرجة استهجان مجرد مقارنة الديمقراطية مع غيرها من نماذج الحكم. فبمجرد أن تقارن الديمقراطية بغيرها، فإنك تضع نفسك في موضع السخرية من قبل العامة قبل النخبة.
لسنا هنا بوارد محاسبة الديمقراطية، ولا حتى مقارنتها بغيرها من نماذج الحكم، فالنقطة الأساسية التي يجدر أخذها في الاعتبار أن الديمقراطية جزء من منظومة متكاملة تقوم على فكرة جوهرية تشمل المجالين الاقتصادي والاجتماعي، إضافة إلى السياسي. وعليه، يصعب تصور فكرة اقتطاع الشق السياسي من الفكرة الجوهرية وزرعه في مجتمع غريب عنه وتغذيته باقتصاد لا يتوافق معه.
إن الفكرة الجوهرية التي تستقي الديمقراطية شرعيتها منها هي الفردانية (Individualism) التي تؤكد القيمة المعنوية للفرد وحرية خياراته واستقلالية أفعاله مقابل اعتماده على ذاته وتحمله مسؤولية تلك الحرية التي تعد فوق كل اعتبار بما في ذلك مصلحة الجماعة. ولتنظيم ذلك، يتم سن قوانين تحد من طغيان فرد على آخر بسبب قدرته على ممارسة الحرية بشكل قد يؤدي الآخرين. يتم سن تلك القوانين من أجل حفظ العقد الاجتماعي الذي عبر عنه جان جاك روسو بأنه النظام الذي لا يعتدي القوي فيه على من هو أضعف منه، مقابل أنه سيضمن الحماية ممن هو أقوى منه.
أخذت الفردانية شرعية دينية في الأوساط المسيحية من خلال الحركات البروتستانتية التي بدأت بمعارضة الكنسية الكاثوليكية ورفض مبدأ الوساطة بين الفرد والرب، وكيف أن علاقة المؤمن بربه مباشرة ولا تحتاج لوسيط يستمع للاعتراف بالخطايا ويمنح صكوك الغفران. وبمرور الزمن، اصطبغت المجتمعات ذات الأغلبية البروتستانتية بالصبغة الفردية التي شجعت أفرادها على اكتساح السوق في الاقتصاد الرأسمالي، الذي يقوم على حرية الفرد في الكسب مقابل تحمله المسؤولية كاملة في المخاطرة التجارية. وهذا ما بيّنه ماكس فيبر بالتفصيل في كتابه «الأخلاق البروتستانتية وروح رأس المال». بالمقابل، فإن النزعة الفردانية جعلت من قرارات مصيرية مثل الانتحار أسهل بكثير، حيث إن قرار إنهاء الحياة مسألة شخصية ولا تخضع لحسابات الجماعة، وهذا ما بينه إميل دوركهايم في كتابه «الانتحار».
إن الثورة الصناعية التي تقوم على اقتصاد السوق وتتطلب نزعة الرأسمالية (فردية) يكون فيها صاحب رأس المال حراً في اتخاذ قرار المخاطرة للحصول على الثروة، ويكون الفرد حراً في مثابرته ليتحول إلى صاحب رأسمال بدلاً من أجير. هذه النزعة الفردانية في الاقتصاد تحتاج إلى نظام سياسي يتلاءم معها ويقدم حرية الفرد في العملية السياسية، وهذا ما توفره الديمقراطية. فالفرد حرٌ في ترشيح نفسه لتمثيل مصالح المجموعة التي تشاركه الرؤى والأهداف، مقابل الأفراد الآخرين الذين يمثلون مجموعات تختلف معهم في رؤاها وأهدافها. بالمقابل، فالأفراد احرار في اختيار المجموعات التي يشعرون بأنها تتقاطع معهم، والمرشحين الذين يمثلون تطلعاتهم.
هذا المناخ السياسي الذي يحمي السوق الرأسمالية، يحتاج إلى مجتمع يؤمن بالحرية الفردية على جميع الأصعدة، بدءاً بالفرد في حياته الشخصية، مروراً بالمدرسة والحي، حتى يصل إلى الاقتصاد والدولة. بالتالي، فإن الفرد يدافع عن حريته الشخصية ويرفض فرض القيود عليها، إلا في حال كون ممارسته لحريته الشخصية يستلزم انتهاك حرية شرائح أخرى من المجتمع، في مثل هذه الحالات يتدخل القانون ليفرض قرار الأغلبية ضمن إطار العملية الديمقراطية. وهذا ما يستدعي وجود مجتمع ليبرالي، يؤمن بحرية الفرد في أموره الشخصية، ومنها: حرية اختيار الدين، الميول الجنسية، المظهر (الملبس وقصات الشعر والألوان…)، وكل ما يمكن اعتباره في حدود الخيار الشخصي بعيداً عن المنظومات الأخلاقية القائمة على الدين أو العرف الاجتماعي التقليدي.
إن الديمقراطية بوصفها حرية الفرد في اختيار من يعبر عن تطلعاته، قادرة على حماية الرأسمالية التي تمثل التنافس بين الأفراد في جني الثروات، والتي تحمي خصوصية الفرد في ممارسة حريته الشخصية في حياته اليومية. لا يمكن تصور ديمقراطية على النسق الغربي دون نظام اقتصادي رأسمالي مشابه لذاك الموجود في تلك الدول، ولا يمكن لنظامين سياسي واقتصادي أن ينجحا دون حاضنة اجتماعية تمجد حرية الفرد فوق سلطة الدين والأخلاق، والعرف، التي تتحول إلى مجرد خيار فردي يحتاج الفرد إلى تسويقه بين الأفراد وسن قوانين تحمي ذلك الخيار.
ما سبق يساعدنا في فهم أسباب فشل الديمقراطية بكثير من الدول التي حاولت استيرادها أو تم فرضها عليها من قبل قوى خارجية. فالديمقراطية التي يتم فرضها بالاستيراد من قِبل النخبة المحلية أو الاحتلال الأجنبي لا تستطيع أن تصمد أمام واقع الشعوب التي لا تقدم حرية الفرد على الجماعة. ولنا في مثال العراق في مرحلة ما بعد 2003 خير مثال، حيث تحولت الديمقراطية إلى وسيلة لتقوية القيادات التقليدية تحت شعار حماية الطائفة وحماية العشيرة. والنموذج الأفغاني ليس بعيداً عن نظيره العراقي. وهذا ما نجده في بعض دول الخليج التي لديها انتخابات برلمانية، حيث يتم العزف على وتر القبيلة والمذهب بعبارات عاطفية على غرار «تكفون، طالبكم…» لتتم تعبئة الجماهير بشكل جماعي ونزع جوهر الفرد منهم، بل تحويل المختلف إلى شخص منبوذ يتم تجريده من كل مميزات عضوية الجماعة.
قد يعترض البعض مستشهداً بالنموذج الصيني الناجح رأسمالياً، ولكنه لا يعترف بالديمقراطية، بل ويفرض قيوداً على الحرية الشخصية بالذات في مسألة الإنجاب. الواقع أن النظام الاقتصادي في الصين ليس رأسمالياً بالمعنى الحقيقي، وإنما تتبع الصين ما يسمى رأسمالية الدولة (State capitalism)، حيث يحتفظ الحزب الحاكم بالسيطرة على المجال العام في البلاد على جميع الأصعدة، وتكون الدولة هي المالك والمدير لمعظم القوى المنتجة. تنتفي الرأسمالية بمعناها الفكري عن الصين، لأن الاقتصاد الداخلي يظل متحكماً به من قبل الدولة، وهذه قيمة اشتراكية وليست رأسمالية. السؤال الذي يجدر طرحه على النموذج الصيني هو: هل ما زالت الصين اشتراكية أم لا؟ لأن رأسمالية الدولة الصينية تتمثل في التعامل مع الاقتصاد العالمي خارج الحدود، أما في الداخل فهيمنة الحزب الشيوعي تطوق الأفراد بشكل واضح.
أخيراً، وبغض النظر عن الحكم القيمي على الديمقراطية، فإن الوصول إلى نموذج ديمقراطي على النسق الغربي يستلزم الإيمان بثقافة الفرد، وبأنه وحده مسؤول عن نجاحه وإخفاقه بعيداً عن أن ينتظر من الدولة أن تدخل لإنقاذه بشكل مباشر. كذلك فإن الحريات الشخصية تكون فوق سلطة الدين والأخلاق، وذلك لأن الفردانية لا تتجزأ، فالديمقراطية حارس للرأسمالية التي تحتاج إلى مناخ ليبرالي لتبقى.
إن تغوّل الفردانية في المجتمعات الغربية اليوم أدى إلى تطرف الليبرالية ومحاولتها فرض قيم الحرية الفردية بشكل لا يخلو من القمع، فالصحيح قيمياً هو ما يراه الليبراليون، وكل مخالف له يعد متخلفاً، ويتم اتهامه بمحاولة تقييد الحرية الفردية في موضوعات لا تهم كثيراً من أفراد المجتمع. إن هذا التغول تطور طبيعي لتفريغ مفهوم الحرية من محتواه من أجل تكوين ديكتاتورية الجماعة، كما وصف المفكر الفرنسي ألكسيس دو توكفيل عندما زار الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر. ولننظر إلى ديمقراطية الدول الكبرى لنرى احتكار حزبين يتحكمان في ميول الجماهير ويقرران من يترشح لأي منصب، في الوقت الذي لا يملك فيه الفرد القدرة على التغيير، وإن وُجدت على المستوى النظري.
* أستاذ بجامعة غراند فالي وباحث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط - واشنطن



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.