تلقت الملكة بلقيس كتاب سليمان عليه السلام بعد أن ألقاه الهدهد إليها.. على الفور عقدت اجتماعًا لمجلس الشورى.. أبلغت كبار مستشاريها أنها تلقت كتابا من سليمان، وقرأته عليهم.
القرآن الكريم أبرز حديث بلقيس إليهم في قوله تعالى: «قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيِ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ».
اجتماع مجلس شورى بلقيس لم يتوقف عند هذا الحد، فقد طلبت الملكة مشورتهم - كعادتها - قبل أن تصدر قراراتها.. «قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ».
أبلغ القادة ملكتهم بلقيس أنهم أصحاب قوة وبأس شديد، وأنهم قادرون على الدفاع عن مملكتهم، ومستعدون لتنفيذ أوامرها في أي وقت.. «قَالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُوْلُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ».
اختارت الملكة البدء بالسياسة والدبلوماسية، وقررت ما حكاه القرآن عنها: «قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ».
وتنقل الدكتورة بلقيس إبراهيم الحضراني في كتابها «الملكة بلقيس»، عن «ابن كثير»، قوله: «إن سليمان عليه السلام لم ينظر ما جاءوا به بالكلية، ولا اعتنى به، بل أعرض عنه، وقال منكرا عليهم: «أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ» أي أتصانعونني بمال لأترككم في شرككم وملككم؟ فما آتاني الله من الملك والمال والجنود خير مما أنتم فيه».
يقول الكاتب محمد على قطب في كتابه «زوجات الأنبياء وأمهات المؤمنين»: «رد سليمان الهدية مع حاملها، وأرسل ينذر بلقيس وقومها بالإقلاع عن عبادة غير الله، وإلا فإنه سوف يأتيهم بحشود وجنود لا قبل لهم بها، ولا قدرة على مقاومتها، ولسوف يبطش بهم بطشة كبرى، أو يأتون مسلمين معلنين التوحيد».
ويضيف الكاتب أن بلقيس آثرت السلامة لبلدها وشعبها، وبادرت بالقدوم إلى مملكة سليمان في «بيت المقدس» معلنة ولاءها.
ويقول: «تزوج سليمان عليه السلام من بلقيس وأعادها إلى سبأ، وكان يأتيها بين الحين والآخر».
ويوضح الدكتور شعيب الغباشي الأستاذ بجامعة الأزهر في كتابه «أعلام النساء في القرآن الكريم» أن سليمان عليه السلام تزوجها وردها إلى ملكها باليمن، وكان يأتيها على الريح كل شهر مرة، فولدت له غلاما سماه داود مات في زمانه.
ويقول الكاتب والإعلامي جابر الشال في كتابه «قصص النساء»: «تزوجت بلقيس من سليمان - عليه السلام - بعد أن آمنت بالحق الذي يدعو إليه، وعاشت قصتها عبر مسيرة الزمان كملكة حكيمة كان سداد رأيها سبيلا لهدايتها وهداية قومها».
وتبرز الدكتورة بلقيس إبراهيم الحضري حقيقة مهمة في ختام حديثها عن الملكة بلقيس بقولها: «إن ما يعنينا هو حضور هذا الاسم الثابت في الثقافة والذهنية اليمنية، وفي ضمير الأجيال التي ظلت تتوارثه من جيل لآخر، مشكلا حضورا حيا للماضي بكل ما يرمز إليه من قيم ومثل، ورمزا يربط الماضي بالحاضر بالمستقبل».
وتكشف الآيات الكريمة التي تحدثت عن قصة سليمان عليه السلام مع بلقيس عن صفات سياسية وأخلاقية حميدة لملكة سبأ، منها:
- تتمتع الملكة بلقيس بأدب عالٍ وأخلاق سامية جعلتها تصف كتاب سليمان عليه السلام بأنه «كتاب كريم»، على الرغم مما تضمنه من حزم وحسم شديدين، وطلب حضور بإذعان تام ودون استعلاء.
- تطبق الملكة بلقيس بعزم وإصرار نظام «الشورى» في كل أمور الحكم، وتأبى أن تنفرد برأيها، وتحرص على سماع آراء مساعديها بحرية كاملة، وتشجعهم على تزويدها بخبراتهم وتقديراتهم للأمور، ثم تختار ما تراه مناسبا لمصلحة المملكة.
- تتمتع الملكة بلقيس بفكر رشيد، وآراء صائبة، وحكمة في مواجهة المستجدات، وقد سجل القرآن قولها: «إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً».. ولم يكتف القرآن بذلك، بل أكد القرآن الكريم هذا الرأي، فقال تعالى: «وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ».
- تميزت إجابتها عن سؤالها عن عرشها بالذكاء والحيطة، فقد أتى به أحد أعوان سليمان عليه السلام في طرفة عين، وجرى تنكيره لاختبارها، بسؤالها: «أَهَكَذَا عَرْشُكِ».. فجاءت إجابتها: «كَأَنَّهُ هُوَ».
لم يكن أمامها في تلك اللحظة أن تجيب بغير هاتين الكلمتين «كَأَنَّهُ هُوَ».. كانت ستجد نفسها أمام تساؤل مهم إذا أقرت أنه عرشها، وهو: كيف سبقها منتقلا من مملكتها سبأ إلى مملكة سليمان؟
فإذا نفت صراحة أنه عرشها فستجد نفسها أمام تساؤل آخر: كيف استطاع أعوان سليمان تقليد عرشها بهذه الجودة والدقة؟
كانت بلقيس تتأمَّل العرش وهي تقول: «كَأَنَّهُ هُوَ».
وجاءت كلمات سليمان واضحة جلية تقطع الشك باليقين، وتجزم بأنها أمام حقيقة لم تكن تتجسد إلا لنبي، وذلك فيما حكاه القرآن الكريم على لسان سليمان عليه السلام: «وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ».
إن ما شهدته وعايشته بلقيس فور دخولها مملكة نبي الله سليمان عليه السلام، جعلها تصارح نفسها وقومها وشعبها بأعظم حقيقة، وهي تردد شهادتها التي خلدها القرآن الكريم حتى تقوم الساعة: «قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ».
إن تأمل حياة الملكة بلقيس يضعنا أمام دروس عظيمة متجددة في مختلف مجالات الحياة لمن أراد إعلاء راية الحق، والانتصار للحقيقة.
الحلقة (26): الملكة بلقيس (2) .. وصفها القرآن بالأدب والشورى والذكاء
الحلقة (26): الملكة بلقيس (2) .. وصفها القرآن بالأدب والشورى والذكاء
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة