جدلية العمارة والسياسة.. وتبادل الأدوار بينهما

خالد عزب يناقشها في «الحجر والصولجان»

جدلية العمارة والسياسة.. وتبادل الأدوار بينهما
TT

جدلية العمارة والسياسة.. وتبادل الأدوار بينهما

جدلية العمارة والسياسة.. وتبادل الأدوار بينهما

يناقش هذا الكتاب «الحجر والصولجان» للباحث الأثري الدكتور خالد عزب علاقة العمارة بالسياسة، وكيف يتم تبادل الأدوار بينهما، سواء ما ينعكس في طرز المعمار نفسه، أو اتخاذ الفخامة والأبهة المعمارية وسيلة لإضفاء الهيبة والجاه على شخصية الحاكم نفسه.
الكتاب صدر حديثا عن «الدار المصرية اللبنانية» بالقاهرة، ويتخذ من عمارة قصر عابدين مقاربة للوقوف على الأبعاد المختلفة لجدلية العمارة والسياسة، إذ يعد قصر عابدين أهم وأشهر القصور التي شيدت خلال حكم أسرة محمد علي لمصر فقد كان القصر مقرا للحكم منذ عام 1872، وشهد خلال هذه الفترة أهم الأحداث التي كان لها دور كبير في تاريخ مصر الحديث والمعاصر.
ويلفت الكتاب إلى أن نقل مقر الحكم من قصر النيل والقلعة في عهد إسماعيل يجسد تكريس النفوذ المعماري الغربي في مصر، الذي بدأ في عهد محمد علي. ويعود نقل مقر الحكم من القلعة لأسباب عدة، منها انتهاء عصر المماليك، ونتيجة لتطور المدفعية والبنادق وتحولهما إلى سلاح أساسي للدفاع والهجوم، وبالتالي قلة أهمية القلاع كمراكز للتحصن، وصاحب ذلك تغير تركيبة الطبقة الحاكمة من جنود محاربين يعتمدون على الشجاعة في إثبات شرعيتهم، إلى طبقة متمدينة تعتمد على العلم، وعلى توارث الحكم بينها، وظهور الجيوش النظامية التي تخضع وتربى على الولاء للحاكم.
سكن الخديو إسماعيل قبل توليه حكم مصر في منطقة عابدين، في سراي خاصة، ثم حولها، بعد أن أصبح حاكما لمصر، إلى مقر للحكم على النمط الأوروبي كما فعل من سبقوه مثل عباس في قصري العباسية والحلمية، وسعيد في قصر النيل، وتم وضع خطة لنزع ملكية العديد من المنشآت وحديقة عامة في المنطقة المحيطة بالسراي لتوسع القصر والذي تبلغ مساحته حاليا نحو 9 أفدنة.
توحي واجهة قصر عابدين بكونه قصرا رسميا، فهي تذكر الزائر بقصر باكنغهام في لندن، فالخديو إسماعيل ومن تبعه حرصوا على إضفاء طابع العظمة على القصر الملكي المصري، ويبرز مدخل القصر الحالي عن الواجهة في الطابق الأرضي بوسط السلاملك، هذا البروز يتقدمه عمودان بين بائكتين ليشكل مع واجهة القصر ما يشبه مطلع ومنزل منحدر لعربات الخيول أو لسيارات كبار الضيوف، حيث ينزل الضيف مارا عابرا الباب إلى البهو الرئيسي. وفوق هذا المنحدر البارز الشرفة الملكية التي يطل من خلالها الملك على الجماهير المحتشدة في ميدان عابدين في المناسبات المختلفة. ويؤدي مدخل القصر الرئيسي إلى السلاملك، الذي توجد على امتداده صالونات لكل منها لونه الذي يميزه. وتشترك هذه الصالونات في وجود مدفأة من الرخام في كل منها واستخدام الأقمشة في كسوة أجزاء من جدرانها.
وحرصت أسرة محمد علي على أن تشتمل قصورها على قاعة عربية على الرغم من بناء هذه القصور على الطرز المعمارية الغربية، وقد كانت في قصر النيل الذي بناه سعيد باشا قاعة عرش عربية. وصممت القاعة الحالية في عهد الملك فؤاد الذي سعى لبناء شخصية للدولة المصرية الملكية، ويتواكب تجديد هذه القاعة مع إعلان 28 فبراير (شباط) 1922، الذي أعلنت بمقتضاه الدولة المصرية المعاصرة. وصممت القاعة بين عامي 1928 و1931، لتكون خاصة بمراسم الاستقبال الرسمية، وللمناسبات الملكية، وهذا ما راعاه فيروتشي مصممها.
ويذكر الكتاب أن زخارف قاعة العرش استوحيت من العمارة المملوكية، فاستخدمت العقود المنكسرة المشعة من الداخل وكوشات العقود مزخرفة بزخارف الأرابيسك، وبين كل كوشتين ميمة، ويعلو ذلك بحر من الكتابات العربية، وأسفل هذه الدخلة المزخرفة باب يعلو كرسي العرش رنك (شعار) تجديد القاعة في عصر الملك فؤاد. وتعلو العقود المنكسرة فوق كل عقد شمسية معشقة بالزجاج الملون، وهي ذات عقد مدبب. ويتم الدخول إلى هذه القاعة من عدة أبواب عن طريق ممر السلاملك والصالونات، وأحد هذه الأبواب كان مخصصا للملك. وسقف هذه القاعة مستوحى من أسقف المدارس المملوكية الجركسية كسقف مدرسة السلطان قايتباي، ومدرسة قجماس الإسحاقي.
شهد قصر عابدين جانبا مهما من احتفالات افتتاح قناة السويس التي كان الخديو إسماعيل يطمح خلالها إلى إعلان استقلال مصر عن تركيا، ولأن حدث افتتاح القناة كان واحدا من أهم الأحداث في مصر في القرن الـ19، بل يعد من أهم أحداث العالم خلال هذا القرن، فقد كان طبيعيا أن يطلق على الصالون الرئيسي للقصر «قاعة قناة السويس» التي شيدت على طراز النيو باروك، وبالقاعة لوحتان للفنان إدوارد ديو، وهو الذي رسم حفل افتتاح القناة، واللوحتان ضخمتان تجسدان هذا الحفل التاريخي. أكدت ذلك أيضا لوحة أضيفت عام 1981، للفنان مصطفى رياض، تجسد إعادة افتتاح القناة في عهد الرئيس أنور السادات عام 1975.
وتعد مراسم الحرملك أهم ما صاغ عمارة هذا القسم من القصر، فقد كان سلم الحرملك الرئيسي مخصصا للضيوف الرسميين، حيث تستقبل ضيفات القصر، ليقودها إلى غرفة الانتظار تمهيدا لصعودها لأحد صالونات القصر في الحرملك، ومن أبرزها القاعة البيزنطية، فزخارف هذا القاعة وأثاثها لا يشيران إلى كونها مستوحاة من الطراز البيزنطي، لكنها في حقيقة الأمر مستوحاة من الزخارف الإسلامية، إلا أن ما يعطيها الطابع البيزنطي هو رخام الأرضيات واللوحات المرسومة على الجدران.
لكن من أروع أجنحة هذا القصر الجناح البلجيكي وجناح الملك الذي يضم غرفة نوم الملك وغرفة نوم الملكة ومكتب الملك الخاص وغرفة الملابس والحمام، وجدد عام 1929، وصممه فيوتشي، حيث إنه يعود أصلا لعصر الخديو إسماعيل.
غير القصر بطرزه المعمارية الفريدة وجه مدينة القاهرة، ومع انتقال مقر الحكم أو بمعنى أدق مقر إقامة الحاكم إلى قصر عابدين، حدث تطور جذري في بنية مقر الحكم، فلم يعد ذلك المكان الذي يضم الدواوين أي الوزارات ومجلس شورى النواب وأرشيف الدولة، إلخ، على غرار قلعة صلاح الدين، بل صار القصر قصرا للحاكم وديوانه فقط، وأصبح للدواوين دور أكبر زاد يوما بعد يوم في إدارة شؤون الدولة، لذا فإن الخديو إسماعيل بنى مبنى ديوان الأشغال ومبنى مجلس شورى النواب، والاثنان متجاوران وباقيان حتى الآن مؤشرا على دولة عصرية بل دولة لها رؤية، إذ بتأسيس الخديو إسماعيل الجمعية الجغرافية المصرية فإنه يعبر عن رغبته في تجاوز مصر حدودها الجغرافية إلى حدودها الاستراتيجية حيث منابع النيل.
ويوضح المؤلف أن هناك عدة معطيات أسهمت في بلورة طبيعة الحكم في مصر في عصر إسماعيل، منها نضوج النخبة المصرية تجاه سيطرة الأتراك على السلطة ومعهم أسرة محمد علي، وظهور الطباعة التي حولت القراءة ثم الثقافة إلى جزء مهم من حياة شرائح أوسع من النخبة الدينية الأزهرية والمجتمع، وكذلك رؤية هذه النخب لمصر ومكانتها وتقدمها مقارنة مع أوروبا، ثم الصحافة التي وجهت هذه النخبة عبرها سهام النقد للطبقة الحاكمة.
ويذكر الكتاب أن ديوان الأشغال الذي قام بالعديد من المشاريع العمرانية والمعمارية في مصر أدى إلى نقل طراز العمارة الأوروبية المعاصرة لمصر، فكانت مشاريعه كلها متأثرة بهذه الطرز كبنايات شارع محمد علي، كما أن هذا الديوان خرج من عباءته العديد من الدواوين أي الوزارات.
ويلفت المؤلف إلى أن بُعد الدواوين عن قصر الحاكم جاء ليلبي متطلبات بناء دولة التكنوقراط المصرية، التي تبلورت مرة أخرى مع الملك فؤاد، حيث شرع في عصره مع إعلان 28 فبراير 1922 الذي أعطى لمصر الاستقلال في تشييد العديد من العمائر التي ترمز إلى توجه الدولة وسياساتها، فالعمارة هي المرآة التي تعكس سياسة الدولة بصدق.



«أمشي ويصل غيري»... سامح محجوب يستعيد جماليات قصيدة التفعيلة

«أمشي ويصل غيري»... سامح محجوب يستعيد جماليات قصيدة التفعيلة
TT

«أمشي ويصل غيري»... سامح محجوب يستعيد جماليات قصيدة التفعيلة

«أمشي ويصل غيري»... سامح محجوب يستعيد جماليات قصيدة التفعيلة

عن دار «الشؤون الثقافية» التابعة لوزارة الثقافة العراقية صدر ديوان «أمشي ويصل غيري» للشاعر المصري سامح محجوب والذي يستعيد من خلال أجوائه جماليات قصيدة التفعيلة، مشرّبة بمسحة من الشجن، تضمر في رائحتها حالة من الأسى والفقد والحسرة على أمل مراوغ، دائماً يهرب من ظلال الخطى والطريق التي تقطعها الذات الشعرية في الوصول إليه بمحبة خالصة، وهو ما يشي به عنوان الديوان. رغم ذلك يتميز بإيقاعات موسيقية رشيقة تطرح جماليات مختلفة، سواء على مستوى اللغة أو الصورة أو المجاز أو حتى المفارقة الدرامية الصاخبة.

يتجلى ذلك في كثير من المواضع، لا سيما تلك العبارة التي يصدّر بها الشاعر ديوانه «ليسَ أصعبَ مِن أن تواجهَ ذاتك في حافلةٍ ليليةٍ سائقُها مخمور»، ثم تتوالى ملامح الديوان تباعاً، حيث يعود الشاعر إلى عوالم قصيدة التفعيلة بصور شعرية خارجة عن المألوف محملة بخيال طازج مدهش، في تجربة حية تؤكد أن الإبداع قادر على أن يتجاوز الشكل ويتكرس في المضمون. ويطل قمر الغزل وعبير الغرام عبر قصائد الديوان كما في قصيدة «سر النعناع» التي يقول فيها الشاعر: «فُلٌّ / لمساءٍ يجلسُ / في مقهى الفيشاوي / كأميرٍ عربيّ / فُلٌّ ليديها / القاسيتين حناناً / في مرفأ كفىّ / فُلٌّ لنسيمٍ مرّ/ ولم يُفْشِ سِرّ النعناع / يا سرّ النعناع / لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عليّ».

ويقول الشاعر في قصيدة «نانسي»: نانسي امرأةٌ أبْدَعَهَا / الكَعْبُ العالي / تمشي مُثْقَلَةً بالجُغرافيا / لا يُشبهُهَا غيرُ كمانٍ/ تركَ الأورْكِسْتِرَا / وَتَمَشَّى في شارعِ طلعت حربْ/ نانسي تفتحُ للنصِ البابَ / ليخرجَ من علياءِ بلاغتِها أعزلْ / وتقولُ لمن يغلقُ بابَ التأويلِ:تمهَّل/ نوني... نونانِ/ ويائي لا تُسْألْ/ وتقول: أحبكَ يا مجنونُ/ أقولُ: شربتُ/ شربتُ ولم أثملْ». ويموج الديوان بظلال الحب وهمسات العشاق كما في قصائد عدة، منها «بكائية لكمان يوهان شتراوس» و«سوبرانو» في مقابل مراثي الزمن والبكاء على أطلال جمال منسي ودهشة مفقودة كما في قصائد «مقابر جماعية» و«القيامة» و«الشاعر الرجيم» و«الأربعينيات»، حيث يقدم الشاعر تجربة ثرية موغلة في الرمز والمجاز وتسبح في فضاء الحلم والذاكرة.

وتعيد قصيدة «نسر مهزوم» صياغة العلاقة بين الفرد المحبط والوطن كشجرة وارفة الظلال تشكل ملاذاً آمناً، لكن تلك العلاقة لم تخلُ من مناوشات العتاب والغضب تحت عنوان عريض هو المحبة على طريقة «هاملت» حين قال مخاطباً أمه: «أقسو كي أكون رحيماً». يقول الشاعر: «أدعوكِ طريقاً ومنازلَ طفلاً / يولدُ من رحمِ الْيَمّ / يحملُ بين يديهِ الشمسَ / وفي عينيهِ ينامُ الغيم / هذي الأرضُ الموعودةُ بالعشاق / يرثون ثراها قيداً وسلاسل / قمراً محبوساً / خلف الجدران».

صدر لسامح محجوب من قبل خمسة دواوين هي «لا شيء يساوي حزن النهر» 2006، و«الحفر بيد واحدة» 2010، و«مجاز الماء» 2015 و«امرأة مفخخة بالياسمين... ينتظرها عاشق أعزل» 2017، ظل فيها مخلصاً لشعر التفعيلة بقوافيه وجرسه الانسيابي، إلى أن اتجه لكتابة قصيدة النثر في ديوانه «يفسر للريح أسفارها» 2019.