لم يكن كيليان مبابي هو النجم الأبرز في مباراة فرنسا وإنجلترا في الدور ربع النهائي لكأس العالم، فلم ينجح متصدر قائمة هدافي البطولة -حتى الآن- في التلاعب بالظهير الأيمن الإنجليزي كايل ووكر، كما كان يتوقع كثيرون. لكن الأفضل حقاً الذي تسلطت عليه الأضواء مرة أخرى، هو أنطوان غريزمان الذي يلعب دوراً مختلفاً تماماً مع منتخب فرنسا في كأس العالم الحالية.
لقد واجه غريزمان صعوبات كبيرة على مستوى الأندية، منذ انتقاله من أتلتيكو مدريد إلى برشلونة في عام 2019، في ظل معاناة النادي الكاتالوني من أزمة مالية طاحنة، بالإضافة إلى رحيل النجم الأرجنتيني ليونيل ميسي. وحتى عودته إلى أتلتيكو مدريد واللعب مرة أخرى تحت قيادة المدير الفني دييغو سيميوني كانت تجربة صعبة أيضاً؛ حيث لم يشارك غريزمان بانتظام في التشكيلة الأساسية لـ«الروخيبلانكوس»، بسبب بند في عقد اللاعب ينص على أنه في حال المشاركة في عدد معين من الدقائق، فإن عقد الانتقال سيصبح دائماً بشكل تلقائي. وبالتالي، لم يشارك غريزمان في التشكيلة الأساسية إلا بعد فترة التوقف الدولية الأخيرة.
ديشان وفرحه بمستويات غريزمان المذهلة (رويترز)
لكن مع منتخب فرنسا، يقدم غريزمان مستويات مذهلة، ويلعب بروح قتالية عالية وبراعة شديدة، وبالتالي فإنه ربما يكون أكثر أهمية حتى من كيليان مبابي في حملة دفاع «الديوك» الفرنسية عن لقب كأس العالم. هذا لا يعني على الإطلاق التقليل مما يقدمه مبابي الذي قدم أداء جيداً أمام إنجلترا، على الرغم من أنه لم يحرز أي هدف؛ لكن الحقيقة هي أن غريزمان هو الذي صنع الفارق أمام إنجلترا بعدما صنع هدفي اللقاء الذي انتهى بفوز فرنسا بهدفين مقابل هدف وحيد.
وسوف يستمر ذلك بالنسبة لمنتخب فرنسا، على الرغم من أن الحظ قد وقف إلى جانب ديدييه ديشان ولاعبيه بسبب بعض الأخطاء الدفاعية الساذجة من المنتخب الإنجليزي، وإهدار هاري كين لركلة ترجيح كانت كفيلة بأن تغير نتيجة اللقاء. وفي ظل غياب كل من بليز ماتويدي، وبول بوغبا، ونغولو كانتي عن قائمة فرنسا بسبب الإصابة، اضطر ديشان إلى إعادة بناء خط وسط منتخب بلاده بسرعة فائقة.
دائماً ما يتم اتهام ديشان بأنه يلعب بحذر دفاعي كبير، وبالتالي لم يكن من الغريب أن يعلن قبل انطلاق المونديال أنه لن يعتمد على طريقة 3-4-1-2 التي لعبت بها فرنسا في بطولة كأس الأمم الأوروبية الأخيرة الصيف الماضي، عندما كان غريزمان يلعب بحرية كبيرة خلف مبابي وكريم بنزيمة، وقرر أن يلعب بدلاً من ذلك بأربعة لاعبين في الخط الخلفي.
وكان أوريلين تشاوميني خياراً طبيعياً في مركز محور الارتكاز، نظراً لأن لاعب خط وسط موناكو السابق لديه القدرة الكبيرة على استخلاص الكرات وإفساد هجمات المنافسين. لكن كانت هناك حالة من الجدل بشأن لاعب خط الوسط الحر الذي يتحرك من منطقة جزاء فريقه حتى منطقة جزاء الفريق المنافس. كان يوسف فوفانا وماتيو غيندوزي يقدمان مستويات جيدة في بداية الموسم في فرنسا؛ لكن خبرة أدريان رابيو هي التي حسمت الأمر في نهاية المطاف، بسبب الأداء الجيد الذي يقدمه مع نادي يوفنتوس. وبالتالي، شق رابيو طريقه نحو التشكيلة الأساسية للديوك الفرنسية، ليلعب في خط الوسط ناحية اليسار، وهو المركز نفسه الذي تألق فيه ماتويدي في مونديال روسيا قبل 4 سنوات.
وفي حين أن رابيو وتشاوميني كانا خيارين قويين، وسمحا لبقية عناصر الفريق بالتقدم للأمام بحرية بسبب مجهودهما الاستثنائي في خط الوسط، كان يبدو أن فرنسا ستفتقد كثيراً خدمات بول بوغبا. وعلى الرغم من أن بوغبا كان يتعرض لانتقادات لاذعة من جماهير مانشستر يونايتد، فإنه كان يقدم أداء ممتازاً مع منتخب بلاده؛ حيث كان يسجل ويصنع الأهداف في الوقت المناسب، كما كان يعطي صلابة دفاعية كبيرة لخط الوسط عند الضرورة.
وفي ظل غياب بوغبا عن خط الوسط، وعدم اقتناع ديشان بأي من الخيارات الأخرى (جوردان فيريتوت، وإدواردو كامافينجا، أيضاً مع الفريق)، فقد طلب ديشان من غريزمان أن يلعب دوراً أكثر عمقاً في خط الوسط، وأن يقوم بالواجبات الدفاعية بشكل أكبر، وهو الاتجاه المستمر منذ ظهوره لأول مرة منذ نحو 8 سنوات. في البداية، كان غريزمان يلعب جناحاً أو مهاجماً ثانياً، كما تم توظيفه صانع ألعاب تقليدياً الصيف الماضي، ليلعب خلف مبابي وبنزيمة، ولم يكن يقوم بالأدوار الدفاعية بالشكل الذي يفعله الآن.
وفي الوقت الحالي، على الرغم من أنه في كثير من الأحيان يكون أكثر لاعبي خط الوسط الثلاثة قياماً بالأدوار الهجومية، فإنه يلعب دوراً أكثر اكتمالاً بكثير، فهو لا يقوم فقط بتقديم الدعم اللازم لخط الهجوم؛ لكنه يضيف أيضاً زخماً هجومياً كبيراً للناحية اليمنى من الملعب، في ظل عدم تقدم الظهير الأيمن جول كوندي كثيراً إلى الأمام، وبالتالي لعب غريزمان دوراً كبيراً في مباراة إنجلترا للحد من خطورة فيل فودين ولوك شو. وعلى الرغم من قيام غريزمان بدور دفاعي كبير في حال فقدان فرنسا للكرة، والدليل على ذلك أنه يتساوى مع تشاوميني في عدد استخلاص الكرات وإفساد الهجمات، فإنه يواصل إبداعاته داخل المستطيل الأخضر، وكان هو من صنع هدفَي فرنسا في مرمى إنجلترا، وصنع الهدف الثاني بطريقة مثيرة للإعجاب، عندما أرسل كرة عرضية متقنة على رأس جيرو الذي لم يتوانَ عن وضعها داخل الشباك.
ومع ذلك، ربما يؤدي عدم إلمام غريزمان بمتطلبات هذا المركز إلى ارتكاب بعض الأخطاء، فعندما حصل على بطاقة صفراء في نهاية الشوط الأول أدى ذلك إلى أن يلعب بحذر شديد للغاية في بداية الشوط الثاني، خشية أن يحصل على بطاقة صفراء أخرى. ولم يكن من قبيل الصدفة أن هذه هي الفترة التي سيطر فيها المنتخب الإنجليزي على مجريات اللقاء. لكن غريزمان عاد للتوهج من جديد في الجزء الأخير من المباراة، وتحرك في جميع أنحاء الملعب لكسر إيقاع المنتخب الإنجليزي، ومساعدة فريقه على الخروج بالكرة إلى الأمام، وتبادل الكرات مع عثمان ديمبيلي ومبابي.
والآن، أصبح غريزمان هو أكثر اللاعبين صناعة للأهداف في تاريخ منتخب فرنسا، كما يأتي في المرتبة السادسة من حيث عدد المشاركات في المباريات الدولية، والثالث في قائمة الهدافين التاريخيين. وبالنظر إلى تاريخ فرنسا اللامع في عالم كرة القدم، فهذه ليست إنجازات عادية؛ بل تعكس تماماً الموهبة الفذة لهذا اللاعب، على الرغم من تسليط الأضواء في كثير من الأحيان على لاعبين آخرين بشكل أكبر، مثل بول بوغبا وكيليان مبابي، أو في فترات سابقة على لاعبين مثل ديميتري باييت وكريم بنزيمة. ربما لا ينال غريزمان الإشادة التي يستحقها في بعض الأحيان؛ لكن يبدو أنه عازم على الفوز بألقاب أخرى، على الأقل على المستوى الجماعي.
من المؤكد أن فرنسا ستواجه كثيراً من التحديات خلال الفترة المقبلة. إنقاذ حارس مرمى فرنسا لخمس كرات محققة أمام إنجلترا جعل مجلة «ليكيب» الفرنسية تمنحه 8 من 10 في تقييمها للاعبين، كما لعب دوراً حاسماً لا يقل عن الدور الذي قام به غريزمان أمام إنجلترا، ولم ينجح حامل اللقب في الحفاظ على نظافة شباكه في أي مباراة في كأس العالم الحالية. وإضافة إلى ذلك، كانت قلة الخبرة في خط الدفاع هي السبب الرئيسي في احتساب ركلتَي جزاء ضد فرنسا أمام إنجلترا؛ لكن من المؤكد أن المستويات الرائعة التي يقدمها غريزمان، البالغ من العمر 31 عاماً، تدحض الفكرة المنتشرة بأن منتخب فرنسا عبارة عن مبابي وبعض اللاعبين العاديين من حوله.