الهندسة الوراثية... بين طموح العلم وحدود القدرات الإنسانية

الهندسة الوراثية... بين طموح العلم وحدود القدرات الإنسانية
TT

الهندسة الوراثية... بين طموح العلم وحدود القدرات الإنسانية

الهندسة الوراثية... بين طموح العلم وحدود القدرات الإنسانية

الهندسة الوراثية (وتسمى أيضاً التعديل الجيني)، هي عملية تعديل صناعية للتركيب الجيني لكائن حي. وتتضمن هذه العمليات نقل الجينات من كائن لآخر ليكتسب الكائن الذي تم نقل الجينات إليه صفات معينة من جينات الكائن الأول، وتُسمَّى الكائنات التي تم تعديل جيناتها صناعياً بـ«الكائنات المعدَّلة وراثياً». ويتم أيضاً من خلال الهندسة الوراثيَّة تغيير في المادة الوراثيَّة للكائن الحي، وذلك عن طريق التدخل المباشر في العمليات الجينيَّة، ويتم هذا التغيير لأكثر من هدف سواء لإنتاج مواد جديدة، أو تحسين وظائف الكائن الحي الموجودة فيه.
فتح تطور الهندسة الوراثية فرصاً هائلة في الطب والزراعة. لكن هذا المجال العلمي فتح أيضاً باباً لطرح عديد من الأسئلة الحساسة التي تتعلق بمستقبل الجنس البشري، والمدى الذي يمكن السماح فيه للعلم بالتلاعب بطبيعة الجينات البشرية من دون أن يؤدي ذلك إلى كارثة قد تهدد استمرار الكائنات الحية بصورتها الحالية.
كتاب «كالآلهة: تاريخ أخلاقي للعصر الجيني»، من تأليف المؤرخ وعالم الأحياء ماثيو كوب، يثير قضايا وأسئلة أخلاقية واجتماعية وثقافية متعددة حول هذه القضية.
في عام 2018، تلاعب العلماء بالحمض النووي للأطفال الرضع لأول مرة. كان هذا العمل أحد الإنجازات التي خشيها عديد من العلماء منذ بداية العصر الجيني. خلال الخمسين عاماً الماضية، دعا علماء الوراثة، الذين كانوا يخشون من نتائج استخدام تقنياتهم الخاصة، عدة مرات، إلى وقف مؤقت لتجاربهم. وكان من حقهم أن يكون لديهم مثل هذا الخوف، فالهندسة الوراثية يمكن استخدامها للقضاء على الآفات، أو تغيير الجينات البشرية، أو إنشاء نسخ جديدة خطيرة من الأمراض أثناء محاولة منع الأوبئة في المستقبل.
لذلك يرى كثير من العلماء أن هذه التكنولوجيا الثورية مهمة للغاية، بحيث لا يمكن تركها للعلماء فقط؛ لأنه ليس هناك ما يضمن بأن الوثوق ببراعتهم العلمية فقط يمكن أن يحمي البشرية من احتمال تطورات قد توجد واقعاً جهنمياً في المستقبل.
منذ اكتشاف جيمس واتسون وفرنسيس كريك في عام 1953 البنية الحلزونية المزدوجة للحمض النووي (مادة الجينات)، أصبحت الأمور واعدة من أكثر من ناحية، وأكثر خطورة مما كانت عليه منذ آلاف السنين.
وفي جميع الأحوال، يرى العلماء أن هناك جوانب إيجابية وأخرى سلبية للهندسة الوراثية.
ومن أبرز فوائد الهندسة الوراثية منع انتقال الأمراض الفتاكة، مثل السرطان مثلاً، كما يمكن الحد من العدوى بالأمراض التي تنقلها الحشرات، مثل حمى الضنك والملاريا، وذلك من خلال تعقيم هذه الحشرات، مثل البعوض.
كما يرى العلماء أن الهندسة الوراثية تساعد على الحد من المجاعات في جميع أنحاء العالم، من خلال تحسين جودة المحاصيل الزراعية وزيادة غزارة إنتاجيتها، حيث يساعد هذا على تنمية البلدان.
من ناحية أخرى، يمكن التخلص من السمات الشخصية غير المرغوبة، حيث تُمكننا تقنيات الهندسة الوراثية من اختيار وتصميم السمات المفضلة جينياً لدينا، مثل الذكاء والجمال ونمو العضلات، ويؤدي هذا بطبيعة الحال إلى إلغاء مفهوم الانتقاء الطبيعي.
كما يمكن الاستفادة من الهندسة الوراثية في استنساخ الحيوانات للحفاظ على الأنواع المهددة بالانقراض، كما حدث مع النمس ذي الأرجل السوداء، وهو النمس الوحيد الأصلي في أميركا الشمالية.
في عام 2020، تمكن العلماء من إكمال مشروع الاستنساخ الذي بدأ في عام 2013، وأسفر عن ولادة أنثى نمس مستنسخة.
من ناحية ثانية، لو أن كل إنسان حقق رغبته في تفضيل سمة معينة، سننهي - نحن البشر - نافذة تنوعنا الجيني الواسعة بأيدينا! كما أن استخدام الهندسة الوراثية للقضاء على الأمراض بشكل نهائي قد يؤدي إلى فقدان السيطرة على النمو السكاني نظراً لأن المرض عامل رئيسي في التحكم في عدد السكان، فإن إطالة عمر البشر من خلال استخدام الهندسة الوراثية، ستؤدي لا محالة إلى زيادة أعدادهم. نتيجة لذلك، قد تنشأ مشكلات خطيرة تهدد أمن واستقرار الجنس البشري كله، مثل مشكلات توافر الوظائف، والتفاوت الاقتصادي، وضرورة توفير مستويات من الرعاية الطبية أعلى من تلك الموجودة حالياً، بالإضافة إلى نقص المنتجات الزراعية لتغطية وتلبية احتياجات الجميع.
كما يمكن أن تؤدي هذه التقنية إلى ارتفاع خطر زيادة الحساسية، حيث إن المواد المسببة للحساسية تنتقل بسهولة من محصول إلى آخر في الأطعمة المعدلة وراثياً. ومن ثم، فإن النساء الحوامل اللائي يتناولن الأطعمة المعدلة وراثياً قد يعرضن نسلهن للخطر من خلال تغيير بنيتهم وخصائصهم الجينية. ويعد التعديل الجيني عملية لا رجعة فيها، فبمجرد حدوثه، لا نتمكن من عكسه.
إن التغييرات التطورية الفورية التي تقوم بها تقنيات الهندسة الوراثية لدينا قد تظهر تأثيرات غير مرغوب فيها، ويمكن أن يصل بعض هذه التأثيرات إلى إحداث عديد من السيناريوهات الحرجة، أي إن تفاعلات الحساسية قد تؤدي إلى تطوير نوع من التفاعلات التلقائية التي يمكن أن تعرض كوكبنا ووجودنا برمته للخطر.
إن المخاوف التي تحيط باستخدام الهندسة الوراثية ليست ثانوية، لذلك فإن ما نحتاجه الآن هو قواعد معقولة وقابلة للتنفيذ حول كيفية الاستفادة من قدرات الهندسة الوراثية الإيجابية وتجنب سلبياتها الكارثية في الوقت نفسه.
يتتبع ماثيو كوب في كتابه «كآلهة» تاريخ عمالقة التكنولوجيا الحيوية، بدءاً من «Genentech»، إحدى الشركات الأولى من هذا القبيل، التي صنعت الإنسولين في عام 1976، وشركة «Monsanto»، المهيمنة على هندسة مصانع الأغذية من ثمانينات القرن العشرين.
فيما بعد، تم شراء «Genentech» من قبل شركة «Hoffman-La Roche» السويسرية العملاقة في عام 2009، كما أصبحت شركة «Monsanto» جزءاً من شركة «Bayer» في عام 2018.
ويلاحظ مراقبون أن سرية التجارب والعمل في مجال الهندسة الوراثية ازدادت مع بدء المنافسة التجارية، وأصبحت براءات الاختراع هي التي توجه الأبحاث بدلاً من القضايا الإنسانية. وليس من المفاجئ أن عدم ثقة الناس في مثل هذه الشركات يتزايد تقريباً مع تضاؤل الشفافية العلمية.
في ظل هذه التطورات، اكتسب مجال التلاعب الجيني إحدى أقوى أدواته، وهي التقنية المعروفة باسم «CRISPR». يرمز الاختصار إلى «التكرارات العنقودية المتباعدة بانتظام»، في إشارة إلى تكرار تسلسل الحمض النووي في البكتيريا التي تتحكم بالإنزيمات التي يمكن أن تؤدي نوعاً من عمليات نقل المادة الوراثية.
بعبارات بسيطة، إنها أداة فعالة وغير مكلفة نسبياً لتعديل الجينات، وقد تم بالفعل القيام بكثير من الأمور عن طريق هذه التقنية، مثل تكوين مجموعات عقيمة من البعوض، إلى تجربة صينية مثيرة للجدل في تغيير جينات الأجنة البشرية.
في عام 2020 وحده، تم تقديم نحو 6 آلاف مقترح لتطبيق «CRISPR» إلى الوكالات في شتى أنحاء العالم.
وهكذا، فإن التكنولوجيا والتقنيات العلمية الجديدة سلاح ذو حدين، حيث يكمن جانبها الإيجابي في فوائدها العديدة، وتدخلاتها المباشرة التي يمكنها تحسين حياة جنسنا البشري وتسهيلها، أما إذا استخدمناها بشكل مفرط وغير عقلاني، فإن بإمكانها أن تقودنا نحو الهاوية والموت المحقق بشكل أسرع وأخطر من ذلك الذي يمكن لجنسنا مجابهته، أو السيطرة عليه.
وبشكل عام، فإن هذا الموضوع، وأبعاده، يعتبر ذا أهمية كبيرة في مناقشات المجتمع المدني ودوائر حقوق الإنسان.
* باحث ومترجم سوري



المرتزقة في ليبيا... عصف الحرب المأكول

TT

المرتزقة في ليبيا... عصف الحرب المأكول

بعد 9 أشهر من الحرب التي شنها قائد «الجيش الوطني الليبي»، المشير خليفة حفتر، على العاصمة الليبية طرابلس، في 4 أبريل (نيسان) 2019، مدعوماً بمقاتلين من مجموعة «فاغنر» الروسية، دفعت أنقرة بمرتزقة ينتمون لمجموعات سورية معارضة، أبرزها فصيل «السلطان مراد»، الذي غالبية عناصره من تركمان سوريا، إلى ليبيا. وبعد اقتتال دام 14 شهراً، نجحت القوات التابعة لحكومة فايز السراج، في إجبار قوات «الجيش الوطني» على التراجع خارج الحدود الإدارية لطرابلس.

وفي تحقيق لـ«الشرق الأوسط» تجري أحداثه بين ليبيا وسوريا والسودان وتشاد ومصر، تكشف شهادات موثقة، كيف انخرط مقاتلون من تلك البلدان في حرب ليست حربهم، لأسباب تتراوح بين «آيديولوجية قتالية»، أو «ترغيب مالي»، وكيف انتهى بعضهم محتجزين في قواعد عسكرية بليبيا، وأضحوا الحلقة الأضعف بعدما كان دورهم محورياً في بداية الصراع.

وفي يناير (كانون الثاني) 2024، قال المرصد السوري لحقوق الإنسان، إن عدد عناصر «المرتزقة السوريين» في طرابلس تجاوز 7 آلاف سابقاً، لكن فرّ منهم نحو 3 آلاف وتحولوا إلى لاجئين في شمال أفريقيا وأوروبا.

مرتزقة الحرب الليبية.. وقود المعارك وعبء الانتصارات والهزائم