لماذا يهاجم حماة البيئة اللوحات في المتاحف الفنية؟

أعمال بيكاسو وموني وفان غوخ لم تسلم من غضبهم

مخربون للفن في «ناشونال غالاري» بلندن (رويترز)
مخربون للفن في «ناشونال غالاري» بلندن (رويترز)
TT

لماذا يهاجم حماة البيئة اللوحات في المتاحف الفنية؟

مخربون للفن في «ناشونال غالاري» بلندن (رويترز)
مخربون للفن في «ناشونال غالاري» بلندن (رويترز)

يحاول نشطاء البيئة جذب اهتمام الرأي العام ووسائل الإعلام بقضية البيئة والاحتباس الحراري، لكن هذه المرة بأسلوب جديد يختلف عن المعتاد. فأساليب هذه المنظمات تعتمد، هذه المرة، على تنفيذ عمليات اقتحام للمتاحف وقاعات العرض الفنية ومحاولة تخريب أو إتلاف لوحات وقطع ذات قيمة فنية وشهرة عالمية تحت عدسات الكاميرات والهواتف النقالة. العمليات استهدفت حتى الآن أكثر من عشرين لوحة وقطعة فنية في متاحف أوروبا وأستراليا، وإن اجتمع الكل على استنكار هذه الأحداث، فهي في الوقت نفسه قد أثارت الكثير من التساؤلات، أولها عن العلاقة بين مجال الثقافة والفن وحماية البيئة، ما ذنب لوحات فان غوخ وموني وبيكاسو فيما يحدث للبيئة؟ ولماذا يهاجم هؤلاء النشطاء مجال الثقافة والفن للتنديد بمخاطر التغير المناخي؟
مجموعة من الباحثين والخبراء انكبّوا على دراسة هذه الظاهرة الجديدة؛ لمحاولة تحليل دوافع هؤلاء النشطاء وراء قرار استخدام الفن والمتاحف للفت انتباه الرأي العام إلى مطالبهم. الباحثة في علم الاجتماع وصاحبة كتاب «تخريب القطع الفنية» (دار نشر لارماتان) آن بيسيت، صرّحت، في ميكروفون إذاعة فرنسا، بما يلي: «اللافت للانتباه هو الطابع الجماعي لهذه العمليات، لأول مرة نجدها في عدة مدن أوروبية، وهي تجري بطريقة منظمة وسِلمية، فعلى علمي، كل اللوحات التي لُطخت بمواد كصلصة الطماطم أو الحساء والبطاطا المهروسة هي سليمة لم يُصبها شيء، بل إن بعضها معروض من جديد في قاعات المتاحف. تفادي إلحاق الضرر بالقطع يبدو أساسياً لمنظمي مثل هذه العمليات، حيث إن الحساب الرسمي لـ«الجيل الأخير» (أولتيم جينارسيون) نشر بياناً على منصة «تويتر» جاء فيه أن استهداف لوحة «الربيع» لبوتشيلي جاء بعد التأكد من أنها ستكون محفوظة بإطار زجاجي ولن تُصاب بأي ضرر».
وتُواصل الباحثة: «هذه المبادرات متصلة بمطالب اجتماعية وسياسية لم يتمكن الناشطون من لفت الانتباه إليها، وهو ما يجعلنا نتساءل عن المكانة الجديدة التي وضعت فيها هذه المنظمات المؤسسات المتحفية، هل هي الآن بصدد تحويلها لجبهات للنشاط السياسي؟ أم أنها منصّات يجري فيها عرض أحداث بطريقة دراماتيكية مؤثرة وصادمة لاستقطاب اهتمام وسائل الإعلام والرأي العام...».

مخربون في متحف ليوبولد بفيينا (رويترز)

الدكتور نسيم أبو درار، الباحث في تاريخ الفن ومؤلف كتاب «من يريد التخلص من لوحة فينوس أمام المرآة» (دار نشر فلاماريون)، يشرح في أحد تدخلاته، في صحيفة ليبيراسيون، أن الناشطين في عملياتهم التخريبية يستهدفون «الدلالة الرسمية»، فاللوحة تُدمر لقيمتها المالية أو لأنها تستحضر رمزية «القوة»، والملحوظ أن اللوحات المستهدَفة تمثل في معظمها مشاهد الطبيعة الخضراء، وكأنها رسالة مفادها: استمروا في إغفال حالة الطوارئ المناخية، وستفقدون فرصة الاستمتاع بمثل هذه المشاهد في المستقبل... وعلى عكس ما يروّج له بعض الإعلاميين، فالنشطاء لا يكرهون فان غوخ ولا أي فنان آخر، كما أنهم واعون جداً بالقيمة الفنية لهذه اللوحات وبأنها في أمان... والأهم أن المساس بها سيُحدث ضجة ستنفع قضيتهم...».
الباحث الفرنسي كان يشير هنا إلى حادثة اقتحام ناشطين من منظمة «تمرد الانقراض» (أكستنشن روبليون) متحف ناشيونال بأستراليا، يرتدون الأسود ويحملون لافتة كبيرة وضعوها أمام لوحة بيكاسو المشهورة «مذبحة كوريا» مكتوب على اللافتة ما يلي: «الكارثة المناخية = الحروب، المجاعة». الناشطون شرحوا أن اختيار هذه اللوحة بشكل خاص كان متعمَّداً؛ لأنها تُظهر بشاعة الحرب، وهو ما ينتظرنا بسبب تدهور أوضاع البيئة. المبادرة نفسها قام بها زملاؤهم من منظمة حماية البيئة «أوقفوا الوقود» الذين اقتحموا متحف «أسلو» دون المساس باللوحات، لكنهم صرخوا بأعلى صوتهم أمام لوحة ادفارد مونش الشهيرة «الصرخة» بالعبارات التالية: «أصيح عندما أشاهد الطبيعة وهي تموت تحت عيني»، «أصيح عندما أرى الناس وهم يموتون في الفيضانات وموجات الحر والمجاعة»، «أصرخ لأني خائف...».
الباحث نسيم أبو درار لاحظ هنا أن الناشطين يتحكمون في «التأثيرات الرمزية»، فهم يصرخون أمام لوحة (الصرخة) ويذكّروننا بأهوال الحرب أمام لوحات المجازر، ويلصقون أياديهم في الجدران لكي يطبعوا الأذهان لأطول وقت ممكن، وكأنهم يقتحمون هذه الفضاءات الثقافية لاستعادة المكان وتمثيل مشاهد تراجيدية وهم بذلك يبتكرون فناً جديداً من أجل خدمة قضاياهم».
تشرح سيلفي أولترو، الباحثة في المركز الوطني للبحث العلمي «سي إن آر إس» ومؤلفة كتاب عن هذا الموضوع بعنوان «العصيان المدني» (دار نشر سيانس بو): «هذا الشعور بالخوف المُروع من مستقبل الأرض، والذي ينقله لنا هؤلاء الناشطون، هو ملخص في جملة واحدة: لا فن في كوكب ميت...».
وتضيف أن هذه الأحداث تدخل ضمن ما تسميه عمليات «العصيان المدني». وتتابع: «غالباً ما يكون النشطاء مسالمين، غرضهم الوحيد هو لفت انتباه العالم إلى وضعية تستدعي التدخل، ولهذا فإن مثلهم الأعلى غالباً ما يكون شخصيات أمثال غاندي أو مارتن لوثر كينغ».
للتذكير، أحداث تخريب القطع الفنية ليست ظاهرة جديدة، بل هي مرتبطة بتاريخ الفن منذ البداية، فأول عملية من هذا القبيل كانت عام 1985 حين أقدم ناشط شاب على إحراق لوحة للفنان روبنز؛ للاحتجاج على تقاعس الحكومات عن حل مشكلة الاحتباس الحراري، وفي السنة نفسها أيضاً قطع ناشط سياسي لوحة الفنان رامبرانت «داناي» بالسكين في متحف ليرميتاج بسان بيترسبورغ، وقبلها بسنوات (1914) أقدمت ناشطة في مجال حقوق المرأة على تقطيع لوحة فينوس أمام المرآة للمطالبة بحقوق التصويت للمرأة.
ميشال جيولي، أحد مؤسسي حركة «الجيل الأخير» (أولتيما جينارسيون) المسؤولة عن بعض عمليات اقتحام المتاحف شرح لموقع تحليل، رأي ونقد (أ.و.سي) الثقافي الدوافع وراء اختيار المتاحف: «استهدفنا المتاحف لتكون فضاء يجري فيه إعادة تمثيل مشاهد، فالمكان ببساطة مناسب لإنتاج صور مثيرة، وكأننا بصدد رسم لوحة جديدة وسط اللوحات المتواجدة... ناشطان أمام تحفة فنية مشهورة... بعض اللافتات ومواد مختلفة لتلطيخ التحف... وعدسات تخلّد هذه اللحظات... كل العناصر متوفرة لتضخيم التأثير البصري...».
أما اختيار موضوعات اللوحات فهو بالتأكيد ليس عشوائياً، كما تشرح الباحثة في تاريخ الفن آن بيسيت، حيث تقول: «انظروا إلى حادثة اقتحام متحف كورتولد غاليري اللندني، لقد جرى اختيار لوحة (أشجار الخوخ المزهرة) لفان غوخ تحديداً؛ لأن منطقة بروفونس التي تُمثل في هذه اللوحة تعاني من جفاف بسبب الاحتباس الحراري، لذا فإن استحضار هذا المشهد الطبيعي الذي رسمه فان غوخ في 1889 سيجري استيعابه بطريقة مختلفة في خريف 2022... وهو ما سيطبع الأذهان: الطبيعة تتغير وإلى أسوأ...».
هذه الأحداث التي نشهدها في المؤسسات المتحفية وقاعات العرض الأوروبية تقدم تفسيراً آخر لاستعمالات القطع الفنية كنوع من «القوى الناعمة» في خدمة قضايا اجتماعية وسياسية، وهو ما يتعارض مع طبيعتها بوصفها معروضات «جمالية» لا تصدم ولا تثير القلق، أما المتاحف فقد تحولت من فضاءات هادئة مسالمة لعرض الفن والجمال والإحساس المرهف، إلى جبهات للقتال تستغلها جمعيات حماية البيئة للفت الانتباه نحو قضايا التلوث البيئي.


مقالات ذات صلة

طفل عملاق يُخيف بريطانيين

يوميات الشرق بعض الرسائل لا يصل (إكس)

طفل عملاق يُخيف بريطانيين

وصف مارّة مذهولون دمية طفل عملاقة ظهرت وسط بلدتهم بأنها «مخيفة» و«أبشع طفل» شاهدوه على الإطلاق... فما القصة؟

«الشرق الأوسط» (لندن)
بيئة ثوران بركان تحت الماء قبالة سواحل تونغا يوم 15 يناير 2022 (رويترز)

طبقة الأوزون في طريقها إلى التعافي رغم ثوران بركاني

قالت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، الثلاثاء، إن طبقة الأوزون «في طريقها إلى التعافي على المدى الطويل» رغم ثوران بركاني مدمر في منطقة جنوب المحيط الهادي.

«الشرق الأوسط» (سنغافورة)
بيئة من أمام مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل (رويترز)

منظمتان غير حكوميتين تقاضيان الاتحاد الأوروبي بسبب أهدافه البيئية

قررت منظمتان بيئيتان رفع دعوى قضائية ضد المفوضية الأوروبية لأنها حددت أهدافاً مناخية «غير كافية» للدول الأعضاء في انتهاك لالتزاماتها بموجب اتفاق باريس المناخي.

«الشرق الأوسط» (بروكسل)
الاقتصاد زرعت «البحر الأحمر» أكثر من 5 ملايين نبتة و600 ألف شتلة مانغروف (من الشركة)

«البحر الأحمر الدولية»: نسير بخطى ثابتة نحو تحقيق فائدة بيئية صافية بـ30 % بحلول عام 2040

أعلنت «البحر الأحمر الدولية» أنها تسير بخطى ثابتة نحو تحقيق هدفها الرئيسي المتمثل في تحقيق فائدة بيئية صافية بنسبة 30 في المائة بحلول عام 2040.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
بيئة قارب صيد يبحر بجوار جبل جليدي كبير عند مصب مضيق ياكوبشافنز الجليدي بالقرب من إيلوليسات في غرينلاند في 15 مايو 2007 (رويترز)

دراسة: غرينلاند كانت خالية من الجليد في الماضي القريب

قدمت دراسة جديدة أوضح دليل حتى اليوم على أن غرينلاند كانت خالية من الجليد إلى حد كبير على مدى السنوات المليون الماضية.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

في كلّية الطب

في كلّية الطب
TT

في كلّية الطب

في كلّية الطب

باستثناء عبق الذكريات، لديّ القليل مما أفكر فيه الآن كي أصير مثلما تشاء نفسي، وإنني أتساءل أحياناً: بماذا تُفيدُني الذكريات، وأنا أرويها مثل حكاية مهدّئة للنفس؟ إننا نستدعي الأدب لإحياء ما فات من سنيننا، فاللغة ليست أداةً للتواصل فحسب، وإنما هي فضاء حيّ للتذكّر. سأحظى وفق هذا المفهوم بمتعةِ تخيّلِ لوحةٍ فيها رفاقي في أيام الدراسة، وأخشى أن يرسم اليراع أخيلةً بائسةً لا غير، إذا ما قُورنت بالحقيقة.

يقول صاحب المثل القديم: «بغداد أكبر من العالم». نحن في حيّ باب المعظّم، نسبة إلى الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، حيث يُناهزُ ارتفاع الأشجار علوّ صوتِ المؤذّن من الجوامع السبعة القريبة؛ جامع الأزبك والمُراديّة والأحمديّة والحِيدرخانة والسليمانيّة والسراي والعاقولي، وجميعها بُنيت عندما كانت بغداد ولاية عثمانيّة. على شاطئ نهر دجلة القريب قامت الكلّيّة التي حصلتُ فيها على شهادة الطبّ، وأسّسها الإنجليز الذين حكموا العراق عقب الحرب العالميّة الأولى، وكان أوّل عميد لها سندرسن باشا، طبيب العائلة المالكة في العراق، وهذا الكلام لا أقصد به التباهي ولا التأسّي، ولا منزلة بين منزلتين، وربما خلص قارئ المقال إلى فحوى لم تكن في البال، ووظيفة الأدب هي السير به في هذا القصد.

في مبنى الكليّة يُطالعُ الزائرُ أولاً سلّماً حلزونيّاً يرتفع برشاقة إلى هيكل شبه دائريّ، هي المكتبة التي تُشرفُ على حديقة حافلة بالورود. يا لجلالة من يجلس عند طاولة هناك، ويُذاكرُ علوم الطبّ! في ذلك اليوم البعيد مرّ بالمكان شيخٌ، وأشار إلى المبنى قائلاً:

- هذا من صُنعِ يدي.

كان الشيخ يقصد المشفى القريب من الكليّة لغرض العلاج، وزار المكان ربما ليتأكّد أن البناء سوف يظلّ حيّاً بعد موته. بعد أن دخلتُ المكتبة واسترحتُ، ومن النافذة القريبة ظلّت آثار خطوات الشيخ على الدرب ماثلة أمامي. لهذه الذكرى من القوّة أنّها تبدو الآن حقيقيّة، وأشاءُ أن أنتسبُ إلى البنّاء البغدادي هذا، في طريقي في العلم والأدب والمعيشة، والأهمّ من ذلك، سماع صوت الوطن في أيّ مكان أحلّ به. ثم تمضي خطوات الزائر إلى الكليّة في ساحات وأبنية وحدائق تناهز مساحتها ثلاثة كيلومترات مربّعة، وتبدو مثل قطعة حرير موشّاة بجواهر قديمة وجديدة. في تلك السنين كان هناك جوّ من النهوض العامّ في البلاد، فالرئيس الشابّ صدام حسين متحمّس لنقل البلد بخطوات واسعة إلى دولة متقدّمة ومزدهرة، وفي الوقت نفسه كانت الحرب العراقيّة الإيرانيّة تقرع الأبواب بقوّة، وكانت فاتحة لسلسلة من الحروب، وهذا ليس موضوعنا.

إذا أردتَ السؤال عن مستوى جامعة ما، عليك بفحص قاعة الدرس فيها، وكانت عبارة عن صرح فخم يشبه ما في أروقة الأمم المتحّدة، فيه جناحان يفصل بينهما مدرج عالٍ، الأيمن يضمّ طالبات وطلّاب العاصمة، والجانب الأيسر خُصّص للوافدين من المحافظات، والفروق بين شاغلي الجناحين عديدة، رغم أن المستوى المعيشيّ متساوٍ تقريباً، وهي الطبقة المتوسّطة العليا، أو دونها بقليل. يعود التباين بالدرجة الرئيسيّة إلى اختلاف البيئة في القرية عنها في المدينة، والتشدّد الديني لدى بعض العائلات الحضريّة. من هذه الفروق اختلاط الجنسين في الجانب الأيمن من القاعة، بينما انقسم الذكور والإناث في جهة اليسار بحدّ قاطع مثل شفرة السكّين، الطالبات في الصفوف الأماميّة فحسب، كأنهن يشغلن القسم الخاصّ بالحريم في البيوت الشرقيّة، كما أن الحجاب والجبّة الإسلاميّة هما اللباس السائد، وبألوان كامدة بين السواد والرمادي والبُنّي الغامق، كأن عتمة رماديّة حزينة تسود الجوّ في هذا الجانب، في الوقت الذي انشغلت طالبات القسم الأيمن بالأناقة والشياكة اللتين مصدرهما أسواق بغداد ذلك الزمان، وكانت تضاهي بيروت وباريس ولندن، والمشهد هنا يشبه غماماً سديميّاً يتخلله شعاع ذهبيّ، مصدره، بالإضافة إلى الثياب القشيبة، حديث الطالبات والطلّاب باللهجة البغداديّة الغنيّة بالتوافقات النغميّة الساحرة. الفتيات، بقمصانهنّ البيض، كأنهنّ أزهار بيضاء مزهرة، وبمناديلهنّ المعطّرة وابتساماتهنّ الرقيقة الرضيّة، يبدين مثل أيقونات سعيدة تُثبت للعالم بنورها وهدوئها أن الفعل «تبغدد» لا يزال حيّاً، رغم جور الزمان على مدينة بغداد. قُلْ هي حياة من نوع آخر كانت تسود هذا الجانب من الصرح الدراسي، وكنتُ موزّعاً في الحقيقة بين الجانبَين، لأني وُلدتُ في مدينة العمارة، وأسكن العاصمة، لكنّ قلبي كان يميل إلى جهة اليمين، فصار مقعدي الدائم، تقريباً، هناك.

حميَتْ بمرور سنين الدراسة ضراوة الحرب العراقيّة الإيرانيّة، وكانت البلاد تسير بخطى ثابتة باتّجاه صناعة ديكتاتور سوف يُذيق العراقيين جميعاً أنواع العذاب، بما فيهم رفاقه وأصدقاؤه وأهل بيته، وكانت لنا، نحن الدارسين، حصّة منها، على نوعين في جانبي قاعة الدرس، عذابات مضيئة، وأخرى مُرّة. دار الزمان منذ ذلك التاريخ أربعة عقود عشناها بصورة شاقّة وصعبة، أخشى أنني لست في حاجة إلى أن أصفها بأنها صراع يستدعي قوّة وشجاعة هائلتين كي نجتاز أربع حروب كُبرى: حرب الخليج الأولى والثانية والغزو الأمريكي والحرب الأهليّة، وتفرّقنا شتاتاً في الأرض، ثم اجتمعنا ثانية في منصّتين على «الواتساب» من الغريب أنهما تشبهان نصفي القاعة التي تلقّينا فيها العلم في سنين الدراسة. من يستطيع أن يقرأ هذه المعادلة بوضوح، ويؤمن بنتائجها؟ منصّة «واتساب» تضمّ من كان يجلس في جهة اليمين، وأخرى تجمع جماعة الميسرة، وهم القادمون من خارج العاصمة، الغالبيّة منهم ينحدرون من بيئات ريفيّة، أو مدنيّة تسود عوائلها أفكار دينيّة متشدّدة، والملاحظ أنها البيئة ذاتها التي نشأت فيها أحزاب اليسار في السابق، والأحزاب الإسلاميّة فيما بعد، مثل «حزب الدعوة» الذي كان نشطاً في تلك السنين.

كأن تاريخ العراق الحديث يمثّله الصَّرح الدراسي في كليّة الطبّ بطوبوغرافيته التي ذكرتُها، حيث يشتدّ الصراع غالباً بين قوى اليمين واليسار، أو بين السنّة والشيعة، أو العرب والعجم، أو الغربيّة والشرقيّة... إلى آخر التسميات التي فرّقت بلد الرافدين منذ القدم. دائماً وأبداً، وهذا الكلام يقوله علماء الأنثروبولوجيا، يؤدي لقاء الحضارات إلى كارثة، إن لم يكن هناك استعداد ومناعة للحضارتين المتداخلتين في تقبّل الآخر، والدفاع عن الذات في الوقت نفسه. ثمة خرافة مضمرة في دخيلتي تقول إن المشكلة في بلدي لم تكن يوماً دينيّة أو سياسيّة، بل هي إثنية. جانبا قاعة الدرس ينحدران من حضارتين متجاورتَين ومتعاديتَين هما الآشوريّة والبابليّة، دارت بينهما حروب طاحنة في الماضي، وانتصر من انتصر وانهزم الآخر، وهذا كلام طويل تحفظه كتب التاريخ. الملاحظ أن ظلال الأمم تظلّ تتحارب بعد أفولها، وتصير معارك بين أصداء أسماء أبطالها. هو رأي ضعيف للغاية، وإذا كانت نسبة الصحّة فيه واحداً بالمائة، فهي تستحقّ التأمل من قبل الدارسين. قالوا عن بلدي إنه نهران وولاءان، وأقول ربّما إذا عُرفَ السبب سهلَ الحلّ.

في بعض محطّات العمر يكون معنا أشخاص قريبون منّا ويملكون أنفاساً نقيّة، فهم يشبهون زهرة الألْوَة التي تتفتّح مرّة في العمر، ويبقى ضوعها يمتدّ، ثم يغيب وتبقى ذكراه مثل دمعة مالحة تحرق القلب. إننا نتذكّر لنكتشف جوانب من الحياة ما كنّا لننتبه لها، لأنها عيشت في زمانها إلى أقصاها، وحين تستدعيها الذاكرة تحلّ في صورة عالم جديد وغريب من الألوان والأحاسيس، دنيا إضافيّة فيها إيقاع آخر. للشاعر ت. س. إليوت قصيدة تحمل بعضاً من هذا المعنى:

«في الذاكرة صدى لوقع خطى

في الممر الذي لم نخطُ فيه

باتجاه الباب الذي لم نفتحهْ قطّ

إلى جنينة الورد».

ويحدث هذا الأمر مع أصدقائي في تلك الرحلة، أسير معهم في الزمن الحاضر في شوارع غير موجودة، ونفتح أبواباً لم تكن مقفلة ذات يوم، وكذلك الورد يثبتُ شذاه في الذاكرة، ولا يغيب عنها لأنه صار ميسماً. المآثر الأكثر نصاعة في الحياة تفقد بريقها ما لم تُسكَّ في كلمات منغمّة. كتبتُ، في ساعة تأمّل، هذه القصيدة عن سحر تلك الأيام التي رغم كونها لن تعود، لكنّها تعيش معي مثل ظلّ نجمي المستحيل، أي الأسعد، وأعطيتُ قصيدتي عنوان المقال:

«هل هو حنين؟

أم هي حياة تعيش معناً على الدوام

ونستعيدها جميعاً

بقوّة،

قد أمسك بها قلبٌ فتيّ

فكيف تضيع منها ساعةً

أو هنيهة...

نحن مجبولون من تلك المشاعر

ونعيشها الآن من جديد

ودائماً من جديد

وأبداً من جديد...

زهر القطن بدأ يتفتّح،

يا صديقاتي وأصدقائي في كلية الطب/ جامعة بغداد 1985

أسألكم، وأسأل نفسي دائماً،

ولا أملّ من السؤال، أو أتعبْ:

هل هو حنينٌ؟

أم هي حياةٌ تعيشُ معنا على الدوام

في الليل والنهار، في النوم واليقظة

وسوف تمتدُّ ظلالُها

أبعدْ».

كانت البلاد تسيرُ بخطى ثابتةٍ باتّجاه صناعة ديكتاتور سوف يُذيق العراقيين جميعاً أنواع العذاب