علي حرب: الخطر على الهوية ينبع من المحافظين على تكلسها ضد سيرورة الواقع وتحولاته

في «حديث النهايات: فتوحات العولمة ومآزق الهوية» حدد ملامحها وطرق الاشتغال عليها

علي حرب: الخطر على الهوية ينبع من المحافظين على تكلسها ضد سيرورة الواقع وتحولاته
TT

علي حرب: الخطر على الهوية ينبع من المحافظين على تكلسها ضد سيرورة الواقع وتحولاته

علي حرب: الخطر على الهوية ينبع من المحافظين على تكلسها ضد سيرورة الواقع وتحولاته

إذا كان بعض المفكرين العرب أو المغاربة، قد تعرضوا لموضوع العولمة من منطلق «الهاجس / الدفاع عن الهوية والخصوصية»، فهي عند علي حرب كما بين في كتابه «حديث النهايات: فتوحات العولمة ومآزق الهوية»، ليست هاجسا مخيفا يجب أن ننهج تجاهه سياسة الاحتراز، أو أن نقف ضدها كحراس للقيم.. بل هي إمكان منفتح يعطي قابلية للتطويع والتحويل لما يتلاءم معنا. وفي صميمية عملية التحويل هذه والتطويع، يمكن للهوية أن تتجدد وتتمدد. فالهوية ليست شيئا ثابتا، بل هي إبداع مستمر للذات والمجتمع.
ويمضي علي حرب في التحليل، ليكشف أن خطاب الهوية خطاب طوباوي حول معطى ديناميكي، يبنى بشكل مستمر في عملية تفاعلية مع العناصر المشكلة للواقع. ومن هنا يعلن علي حرب نهاية كل الخطابات التقليدية حول التراث والحداثة، لأن «ثنائية الهوية والعولمة» تتجاوز، بقدر ما تستبطن، المتعارضات التي كانت متداولة حتى الآن، كثنائية التراث والحداثة، أو الأصالة والمعاصرة، أو الخصوصية والعالمية. فلكل عصر قضاياه كما له فتوحاته واختراعاته. والسؤال الأساسي الذي ينبغي أن يطرح، حسب علي حرب، لفهم ظاهرة العولمة هو: كيف يتشكل العالم ويسير؟ وما هو دور الأفكار في ظل الانفجار التقني لوسائط الإعلام؟ وما مستقبل الهويات الثقافية في عصر المعلومة الكونية؟ وبنظرنا فخطاب العولمة والهوية عند علي حرب يمكن توصيفه ومقاربته من خلال النظر للعولمة باعتبارها:
التدفق السيّال للمعلومة والبضائع، تحريك للأفكار والقيم والثقافات، إمكان قابل للاستثمار والخلق والتحويل، التحالف بين الثالوث: المعرفة / السلطة / القوة في تشكيل العالم.
1. العولمة كتدفق سيّال للمعلومة والبضائع.
بتأثير من فلاسفة الاختلاف وتيار ما بعد الحداثة، يتبنى علي حرب تصورا للواقع الذي خلقته العولمة بكل آلياتها الجديدة، مؤسسا على مفهوم الافتراضي الزمني والمكاني، والافتراضي هنا، ليس المتخيل، بل هو النسخة المتعددة الأصل SUMOLACRE، ومن دون أي أصل. وهكذا حسب علي حرب، «نحن إزاء فتح كوني يتغير معه سير العالم على ما كان يجري عليه حتى الآن، سواء في عصر المصنع أو في عصر الحقل، حيث كان التعاطي مع الواقع يتم عبر المصنوعات المادية من السلع والأدوات، أو عبر الإنتاجات الذهنية من الأساطير والعقائد أو من المثل والنظريات».
مع الدخول في عصر الحاسوب تنقلب الأمور بالكلية. إذ يصير التعاطي مع العالم، بأدواته المادية وأجهزته الآيديولوجية، من خلال خلق عالم آخر اصطناعي، أصبح يتحكم بالواقع ومعطياته، عبر أنساق المعلومات وأنظمة الأرقام التي تجوب الفضاء السبراني. وتلك هي مفاعيل ثورة المعلومات التي هي الآن مدار الاختلاف والسجال. إنها تشكل واقعة العصر الأولى، عند من يحاول قراءة العولمة، ظاهرة مفردة، قراءة فعالة ومثمرة. هذا الانقلاب الكوني حسب علي حرب، يجعل نسق المعلومة وطريقة اشتغالها «بمثابة نظام الأنظمة في التفكير والعمل والبناء، في إدارة الكلمات والأشياء، إنها ما يغير قواعد اللعبة الوجودية». فالعولمة عند علي حرب، كما قلنا، يمكن قراءتها من منطلق التدفق السيّال للمعلومات والبضائع، حيث يقول إن نظام المعلومة هو بنية العولمة ومكمن قوتها السيّالة والجارفة، فالعولمة استطاعت أن تتيح للجميع الحق في المعلومة وفي المشاركة في المعلومة، بل وفي صياغتها وتحريرها وتعديلها في الآن نفسه. لنأخذ مثال Bloggers أو المواقع الإخبارية، فهي تتيح للقارئ التعليق والنقد في الآن نفسه، بل إنشاء موقع أو مدونة لنشر معلومات أو أفكار ورؤى، أو الاعتراض على سياسات حكومية، وتكوين رأي عام متعاطف، أو قراء متابعين.
2. العولمة تحريك للأفكار والقيم والثقافات:
يقول المثل الصيني: الصورة بألف كلمة في تكثيف عميق لفلسفة الصورة، ما يصنع العالم اليوم هو الوسيط البصري، وارتباط الأفراد والمجتمعات والثقافات بشكل وثيق الصلة اليوم بأجهزة الحاسوب، والشبكة العنكبوتية، والهواتف النقالة، وأجهزة التلفاز، والصحون اللاقطة للأقمار الاصطناعية. فالفرد اليوم أصبح غير مقيد بزمن ومكان محددين، فهو موجود في جميع الأمكنة، وحتى إن لم يكن وجوده فيزيائيا. فالوجود السبراني كما يحدده علي حرب، أو الوجود الافتراضي، أو المصطنع، بتعبير أدق، حسب بودريار، يتيح للفرد معرفة الأخبار وتلقيها من أي مكان وأي ثقافة في العالم، بل ومن أي نقطة مرجعية يوجد فيها فوق كوكب الأرض. لذلك فالحديث عن قيم أو ثقافة أو أفكار مشتركة لجماعة معينة هو عقم إبستمولوجي وعلمي خطير لا بد من التنصل منه أو استئصاله، لأنه لا يعي بالتحولات الجذرية التي أحدثتها العولمة في العالم وفي المفاهيم التقليدية التي كان يدرك من خلالها العالم، والواقع المشكّل لذات العالم. فلم تعد مفاهيم من قبيل السلب، التناقض، الجدل، مسعفة في إدراك مفهوم الواقع. بل لا بد من فكر جذري كما ينادي بذلك بودريار، أو فكر أثيري كما يسميه علي حرب، قادر على مد الفرد بالعدة المنهجية لفهم منطق العالم / الحدث، والمشاركة فيه من أجل استيعابه، فالعولمة تطال الثقافة بالذات، بما هي منظومة من الرموز والقيم، يخلع بواسطتها الإنسان المعنى على وجوده وتجاربه ومساعيه. فالثقافات بما هي مرجعيات للدلالة وأنماط للوجود والحياة، خاصة بكل أمة أو دولة أو مجتمع، تجد نفسها الآن عارية أمام تدفق الصور والرسائل والعلامات التي تجوب الكرة على مدار الساعة. فالعالم يتشكل اليوم بطريقة مختلفة وبواسطة قوى جديدة، الأمر الذي يعني أن الثقافة بدأت تتغيّر، سواء من حيث أطرها ومضامينها، أو من حيث وسائطها ومسالكها، أو من حيث آليات تشكّلها والقوى التي تسهم في إنتاجها واستهلاكها. والمهم في ذلك أن الوسائط تؤدي إلى عولمة المعرفة، إذ تتيح للمرء الاطلاع على كل معارف العالم عبر الشبكات الإلكترونية التي بدأت تحل مكان المكتبات العامة، وهكذا حسب علي حرب، نقلا على فنليكرو في كتابه «الإنسانية الضائعة»، فنحن إزاء إمكانيات جديدة، للوجود والحياة، تنبثق على نحو لا نظير له من قبل. وهي تسفر ليس فقط عن عولمة السوق والمدينة والسياسة، بل تفضي إلى عولمة الأنا بما هي حامل للدلالة ومولد للمعنى ومنتج للثقافة والمعرفة.
3. العولمة إمكان قابل للاستثمار والخلق والتحويل:
يقول علي حرب، «لقد حسبنا طويلا من قبيل التهوين أو التهويل، أن بإمكان المرء أن ينسلخ عن تراثه أو ينقطع عن ماضيه وذاكرته. في حين أن الماضي هو ما يقودنا إلى ما نحن عليه في حاضرنا. فإما أن نستثمره بصرفه إلى أعمال ومنجزات، وإما يتحول إلى عائق يصرفنا عن فهم الواقع وصناعة العالم. كذلك الموقف من الحداثة، فالبعض لا يزال يظن أنه لم ندخل عالم الحداثة بعد، مع أننا ننتمي إلى الزمن الحديث منذ الطهطاوي، بل منذ دخول المطبعة إلى جبل لبنان. فإما أن نكون حداثيين خلاّقين ومنتجين، وإما أن نكون مجرد مستهلكين. من هنا لا جدوى من إقامة التعارض بين الخصوصية والعالمية، لأنه لا يوجد خصوصيات، مع الفارق هو أن هناك خصوصيات قوية تفرض نفسها على مسرح الأمم بالخلق والابتكار. بهذا المعنى إما أن تكون خصوصية ثقافية مبدعة أي عالمية أو لا تكون. والمشكل حسب علي حرب ليس في العولمة أو الأمركة، بل لا خوف على الهوية، فالخطر الأخطر عليها نابع منا نحن دعاة حمايتها والمحافظين على تكلسها ضد سيرورة الواقع وتحولاته. من هنا فإن مشكل هويتنا الثقافية ليست اكتساح العولمة والأمركة، على ما نظن ونتوهم، بل في عجز أهلها عن إعادة ابتكارها وتشكيلها في سياق الأحداث والمجريات، أو في ظل الفتوحات التقنية والتحولات التاريخية، أي عجزهم عن عولمة هويتهم وأنظمة اجتماعهم وحوسبة اقتصادهم وعقلنة سياستهم وكوننة فكرهم ومعارفهم. تلك هي المشكلة الحقيقة التي نهرب من مواجهتها: عجزنا، حتى الآن، عن خلق الأفكار وفتح المجالات، أو عن ابتكار المهام وتغيير الأدوار لمواجهة تحديات العولمة على صعدها المختلفة. فالعولمة إمكان يمكن استثماره لما يخدم الذات ويحررها.
4. العولمة هي التحالف بين الثالوث: المعرفة، السلطة، القوة في تشكيل العالم
لا يمكن فهم ظاهرة العولمة في العالم المعاصر وكيف تتشكل الهوية، من دون فهم للتحول الجذري الذي مس تاريخيا العلاقة بين القوة والمعرفة والسلطة. فكل هذا الثالوث أصبح عبارة عن ممارسة خفية تسهم في تشكيل وقولبة الهوية، وهو ما يشكل ماهية واستراتيجية العولمة. فآليات اشتغال الخطاب الإعلامي لا يمكن فهمها من دون استحضار الأبعاد الثلاثة، السلطة والمعرفة والقوة. فالرأسمال المادي الذي يشكل قوة المؤسسة الإعلامية، وكذلك الخبراء والمادة المعرفية الموظفة في البث الإعلامي، بالإضافة إلى سلطة القائم على الاتصال، ودور المادة الإعلامية التي يقدمها في تشكيل وعي الرأي العام وقولبته، هي الأسس الصلبة للعولمة. تلك هي بعض ملامح العولمة وآلياتها وطرق اشتغالها كما أوضحها المفكر علي حرب.



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟