بروفايل: أنور إبراهيم... يعود إلى الواجهة رئيساً لوزراء ماليزيا

مع طيه صفحة مشاكل الماضي والصراعات الشخصية

بروفايل: أنور إبراهيم... يعود إلى الواجهة رئيساً لوزراء ماليزيا
TT

بروفايل: أنور إبراهيم... يعود إلى الواجهة رئيساً لوزراء ماليزيا

بروفايل: أنور إبراهيم... يعود إلى الواجهة رئيساً لوزراء ماليزيا

بعد أيام من الجمود السياسي أعقبت الانتخابات العامة، حظيت ماليزيا أخيراً برئيس وزرائها الـ10، وهو السياسي الإصلاحي داتوك سيري أنور إبراهيم (75 سنة)، فغدا خامس مَن يتقلد هذا المنصب في غضون أقل من خمس سنوات. ويتحقق هذا الإنجاز لأنور إبراهيم بعد انتظار نحو ثلاثة عقود، زجّ به في السجن خلالها مرتين، وأمضى عقدين منها زعيماً للمعارضة في ماليزيا. في الانتخابات التي أجريت يوم 19 نوفمبر (تشرين الثاني)، فاز حزب «تحالف الأمل» الذي ينتمي إليه أنور بأكبر عدد من المقاعد وهو 82، إلا أنه يقل عن الغالبية المطلقة البالغة 112 مقعداً ليشكل حزبه الحكومة العتيدة منفرداً. ولذا عقب إعلان النتيجة دارت مداولات مكثفة بين تشكيلات مختلفة من الأحزاب والتحالفات السياسية، بهدف معاونة «تحالف الأمل» على تولي السلطة. ومع ذلك، أدت الخلافات السياسية والآيديولوجية إلى حالة من الجمود. وعليه، اضطر ملك ماليزيا الحالي السلطان عبد الله سلطان أحمد شاه إلى التدخل لحسم الخلافات والاتفاق على حكومة. وبالفعل، وعليه، استدعى السلطان قيادات من الأحزاب السياسية وتشاور مع سلاطين الولايات، وحثّ على تشكيل حكومة وحدة وطنية، إلى أن انتهت الجهود بتسمية إبراهيم لمنصب رئيس الوزراء.

ولد أنور إبراهيم لأسرة ماليزية مسلمة متواضعة البدايات، يوم 10 أغسطس (آب) عام 1947، في بلدة سيبرانغ براي بولاية بينانغ في شمال غرب شبه جزيرة الملايو، ونشأ في شيروك توكون أيضاً في بينانغ. وكان والده إبراهيم عبد الرحمن يعمل في مستشفى ووالدته تشي يان ربة منزل. لكن وضع الأسرة تحسن مع انخراط والديه في السياسة. ومع بلوغ الوالد سن التقاعد كان يشغل منصب سكرتير برلماني لوزارة الصحة، ونشطت والدته في المنظمة الوطنية الملاوية المتحدة (يو إن إم أو)، بعد إتمامها دراستها الثانوية.
تلقى تعليمه المبكّر في واحدة من أعرق المدارس الابتدائية في بينانغ. ثم، في مرحلة تعليمه الثانوي، التحق بكلية مالاي كوليدج كوالا كانغسر التي تعد من أعرق مدارس البلاد. وخلال الفترة التي أمضاها هناك، شارك بنشاط في المناظرات التي كانت تعقدها المؤسسة التعليمية ووقع الاختيار عليه رئيساً لاتحاد الطلاب بفضل إنجازاته وسمعته الطيبة. وبعدها، أكمل أنور دراسته الجامعية في جامعة الملايو (مالايا) التي تعد واحدة من أبرز جامعات ماليزيا وأعرقها. وفي الجامعة، اتضحت إمكاناته كزعيم سياسي، ذلك أنه لفترة ترأس جمعية اللغة الملاوية. كذلك اكتسب سمعة وحصل على شعبية واسعة من خلال مشاركته بشدة في الدفاع عن مجتمع الملاي والمسلمين خلال فترة ما عرف باسم حادثة 13 مايو (أيار) 1969.
لدى أنور إبراهيم وزوجته وان عزيزة 6 أولاد. ورغم تركز الأنظار حالياً عليه على الصعيد العالمي، تحظى زوجته وان عزيزة وابنته نور العزة بمكانة بارزة على مستوى المشهد السياسي المحلي، مع سنوات وسنوات من تمثيل الناس. فعام 1999، انتخبت وان عزيزة نائبة في البرلمان عن دائرة انتخابية كانت تحت نفوذ زوجها قبل اعتقاله. ونجحت في الاحتفاظ بالمقعد في الانتخابات العامة لعامي 2004 و2008، ومن جهة ثانية، فاجأت نور العزة الجميع بفوزها في الانتخابات البرلمانية عام 2008.

- مسيرة الصعود والهبوط
كما سبقت الإشارة، في سنوات الدراسة الجامعية، برز أنور إبراهيم قيادياً يناضل من أجل الطلاب والحقوق الاجتماعية، وحركياً ناشطاً ومثيراً للجدل. وخلال تلك الفترة كان يتحدث بإعجاب عن البطل الثوري الفلبيني خوسيه ريزال، معتبراً إياه قدوة له، ويقول عنه إنه «رجل ينتمي بحق لعصر النهضة الآسيوية». وبحلول وقت تخرجه في الجامعة، كان قد أصبح بالفعل شخصية وطنية مشهورة تسعى بدأب لتنفيذ أجندة إصلاحية. وفي عام 1971، أسس «حركة الشباب المسلم في ماليزيا»، بهدف تعزيز مبادئ الإسلام المعتدل والتمسك بها والعمل على النهوض الأخلاقي والعدالة الاجتماعية، إلا أنه بين عامي 1974 و1975، أمضى بعض الوقت في السجن نتيجة لاعتقاله عام 1974 أثناء مظاهرات طلابية ضد الجوع والفقر في المناطق الريفية، ومع هذا حرص على استغلال فترة سجنه لنيل درجة الماجستير في الأدب من جامعة ماليزيا الوطنية.
عام 1982، صدم أنصار أنور إبراهيم مع تواتر أنباء عن انضمامه إلى المنظمة الوطنية الملاوية المتحدة، وكان قد تلقى دعوة للانضمام إلى المنظمة ذلك العام من قبل رئيس الوزراء – حينذاك – الدكتور مهاتير محمد، وهو الرجل الذي تحوّل بمرور الأيام إلى مرشده الروحي وألد أعدائه في الوقت ذاته. والواقع أن أنور عُرف خطيباً مفوهاً، وحظي بالاحترام لموقفه المسؤول ضد الفساد، وكذلك إدارته للاقتصاد الماليزي خلال فترة مضطربة عانى فيها من أزمة مالية. ومن ثم نُظر إليه باعتباره أحد الآباء المؤسسين للنهضة الآسيوية. والحقيقة أن صعود أنور داخل الحزب جاء سريعاً، وسرعان ما رقّي إلى مناصب وزارية، بل وأسند إليه منصب نائب رئيس الوزراء بين عامي 1993 و1998، بجانب توليه منصب وزير المالية من 1991 حتى 1998، وفي ذلك الوقت، سادت توقعات بأنه سيخلف مهاتير محمد. ولكن سرعان ما تفجّر الخلاف بين الرجلين حول كيفية التعامل مع الأزمة المالية الآسيوية التي عصفت بالبلاد، وتوجيه أنور اتهامات بالفساد إلى المنظمة الوطنية الملاوية المتحدة في ظل قيادة مهاتير.
في المقابل، في خضم الأزمة المالية الآسيوية التي وقعت عام 1997، حظي أنور إبراهيم بإشادات واسعة لقيادته ماليزيا خلال فترة الاضطراب الاقتصادي والمالي. يذكر أنه أيد مبادئ السوق الحرة وسلّط الضوء على مسألة تقارب الأعمال والسياسة في ماليزيا. كذلك دعا إلى قدر أكبر من المساءلة، ورفض تقديم الحكومة الدعم المالي لإنقاذ المؤسسات المتعثرة، كما أقر إجراءات تقليص للإنفاق على نطاق واسع. ونجحت هذه الإجراءات التقشفية في إنقاذ الاقتصاد الماليزي، ومُنح أنور أوسمة وتقديرين منها «جائزة الشخصية الآسيوية للعام» من مجلة «نيوزويك إنترناشونال».

- الصراع مع مهاتير
ولكن مع تكثيف أنور إبراهيم دعواته للإصلاح عام 1998، خشي مهاتير أن يفقد سيطرته على السلطة، فأقاله من الحكومة وطرده من الحزب. وعلى الأثر شرع أنور في قيادة الاحتجاجات العامة ضد مهاتير في خطوة كانت إيذاناً ببدء حركة جديدة داعمة للديمقراطية. ويومها واجه اتهامات بالفساد والمثلية الجنسية، وأخضع للمحاكمة. ثم بعد اعتقاله نزل آلاف المتظاهرين إلى الشوارع مدعين وجود دوافع وغايات سياسية خلف محاكمته. وفي نهاية الأمر، ألغت المحكمة العليا الماليزية قرار إدانته وأُطلق سراحه من الحبس الانفرادي عام 2004.
عندها، عاد أنور إلى السياسة، وقاد حزبه الإصلاحي الذي أوشك على إنزال الهزيمة بالمنظمة الوطنية الملاوية المتحدة في انتخابات 2013، ولكن من جديد، جرى توجيه اتهامات جديدة ضده بالمثلية، وسُجن عام 2015 لمدة خمس سنوات. إلا أنه حصل على براءته وعفو كامل من الملك الماليزي بعد ثلاث سنوات من سجنه. وعاد إلى البرلمان خلال بضعة أشهر في انتخابات فرعية.
ولاحقاً، في تطور صادم، ورغم وجوده خلف القضبان، عقد أنور إبراهيم تحالفاً مع غريمه السابق مهاتير في انتخابات 2018 بهدف الإطاحة بحكومة نجيب رزاق، الذي تورطت إدارته في فضيحة فساد ارتبطت بصندوق الاستثمار الحكومي ماليزيا «1 ماليزيا ديفللوبمنت بيرهاد». وفي سياق حملته الانتخابية، تعهد مهاتير محمد بإطلاق سراح أنور، بل وتعهد بالتنحي عن السلطة لصالحه بعد سنتين. وبالفعل حقق «الثنائي» انتصاراً تاريخياً ضد رزاق، الذي يمضي حالياً عقوبة السجن 12 سنة بتهمة الفساد، وعاد مهاتير محمد رئيساً للوزراء للمرة الثانية، مع وجود اتفاق على تسليمه المنصب لأنور إبراهيم لاحقاً. ولكن في حين أوفى مهاتير بتعهده الأول بصدور عفو ملكي بحق أنور، الذي أفرج عنه بالفعل بعد الانتخابات مباشرة، فإنه تراجع عن تعهده الثاني، وهكذا انهار التحالف بينهما بعد 22 شهراً.

- المكافآت والإنجازات
يشير عارفو أنور إبراهيم إلى نشاطه في الساحة الدولية، وكونه مدافعاً قوياً عن الحوار بين الحضارات، عمل دونما كلل من أجل قيم التعايش المتبادل بين الحضارات والتفاعل بين مختلف الأفكار الاجتماعية والثقافية والروحية. يُذكر أنه بين عامي 1995 و1998، تولى تنظيم سلسلة من المؤتمرات حول النهضة الآسيوية، بهدف تجاوز الحواجز الجغرافية ـ السياسية بين المجتمعات والأمم وإنشاء هياكل سياسية لتعزيز الحوار بين مختلف الثقافات.
من ناحية أخرى، أنور إبراهيم متحدث معروف دولياً في موضوعات الاقتصاد والديمقراطية والحرية والحكم والإسلام والديمقراطية والحاجة إلى المساءلة. وعلاوة على ذلك، كان أستاذاً زائراً في كلية الخدمة الخارجية التابعة لجامعة جورجتاون في العاصمة الأميركية واشنطن، بجانب عمله مستشاراً للبنك الدولي في مجالات الحوكمة والمساءلة. كذلك تقلد مناصب بمجال التدريس في كلية سانت أنطوني بجامعة أوكسفورد البريطانية، وكلية الدراسات الدولية المتقدمة التابعة لجامعة جونز هوبكنز الأميركية منذ عام 2004، ثم إنه منح الميدالية الرئاسية من جامعة جورجتاون، ودكتوراه فخرية من جامعة أتينيو دي مانيلا بالفلبين بفضل مساهماته عام 1996.
على صعيد آخر، في عام 1993 وفي أعقاب تولي أنور منصب وزير المالية، اختارته مؤسسة «يوروموني» واحداً من أفضل أربعة وزراء مالية عالمياً، ثم في عام 1996 وقع اختيار مؤسسة «إيجا موني» عليه باعتباره أفضل وزير مالية خلال العام. ولاحقاً، عُيّن رئيساً فخرياً لمؤسسة «المساءلة» (أكاونتابيليتي) ومقرها لندن، في مارس (آذار) 2009، وهو إضافة لذلك رئيس مجلس إدارة «مؤسسة المستقبل»، ويشغل كذلك منصب مستشار «حزب العدالة الشعبية» في ماليزيا.


مقالات ذات صلة

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

حصاد الأسبوع الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد

وارف قميحة (بيروت)
حصاد الأسبوع صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في

راغدة بهنام (برلين)
حصاد الأسبوع  زارا فاغنكنيشت (رويترز)

وضع الليبراليين مُقلق في استطلاعات الرأي

يحلّ حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف راهناً في المركز الثاني في استطلاعات الرأي للانتخابات الألمانية المقبلة، وتصل درجة التأييد له إلى 18 في

حصاد الأسبوع روبيو play-circle 01:45

ترمب يختار روبيو وزيراً للخارجية بعدما تأكد من ولائه وتبنّيه شعارات «ماغا»

بينما يراقب العالم السياسات الخارجية للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، التي ستتحدّد على أساس شعاره «جعل أميركا عظيمة مرة أخرى» (ماغا)، بادر ترمب إلى تشكيل.

إيلي يوسف (واشنطن)
حصاد الأسبوع مواقف روبيو غير قاطعة من حرب أوكرانيا (غيتي)

نظرة إلى سجلّ سياسات روبيو الخارجية

يعد نهج وزير الخارجية الأميركي المرشح ماركو روبيو في السياسة الخارجية بأنه «تدخلي» و«متشدد». ذلك أن روبيو دعم غزو العراق عام 2003، والتدخل العسكري في ليبيا،

«الشرق الأوسط» (واشنطن)

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
TT

هواجس متفاوتة لدول «حوض المحيطين الهندي والهادئ» إزاء عودة ترمب

من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)
من لقاء الزعيمين الصيني شي جينبينغ والهندي ناريندرا مودي في مدينة قازان الروسية اخيراً (رويترز)

يأتي فوز دونالد ترمب في انتخابات الرئاسة الأميركية وعودته الوشيكة إلى البيت الأبيض يوم يناير (كانون الثاني) 2025 نقطة تحوّل مهمة وسط اضطرابات غير عادية في النظام العالمي. وبديهي أن ولاية ترمب الثانية لا تشكّل أهمية كبرى في السياسة الداخلية الأميركية فحسب، بل ستؤثر إلى حد كبير أيضاً على الجغرافيا السياسية والاقتصاد في آسيا. وفي حين يتوقع المحللون أن يركز الرئيس السابق - العائد في البداية على معالجة القضايا الاقتصادية المحلية، فإن «إعادة ضبط» أجندة السياسة الخارجية لإدارته ستكون لها آثار وتداعيات في آسيا ومعظم مناطق العالم، وبالأخص في مجالات التجارة والبنية التحتية والأمن. وبالنسبة لكثيرين في آسيا، يظل السؤال المطروح هنا هو... هل سيعتمد في ولايته الجديدة إزاء كبرى قارات العالم، من حيث عدد السكان، تعاملاً مماثلاً لتعامله في ولايته الأولى... أم لا؟

توقَّع المحللون السياسيون منذ فترة أن تكون منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ في طليعة اهتمامات السياسة الخارجية عند إدارة الرئيس الأميركي السابق العائد دونالد ترمب. ومعلومٌ أن استراتيجية ترمب في فترة ولايته الأولى، إزاء حوض المحيطين الهندي والهادئ شددت على حماية المصالح الأميركية في الداخل. والمتوقع أن يظل هذا الأمر قائماً، ويرجح أن يؤثّر على نهج سياسته الخارجية تجاه المنطقة مع التركيز على دفع الازدهار الأميركي، والحفاظ على السلام من خلال القوة، وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة.

منطقة حوض المحيطين الهندي والهادئ التي يقطن كياناتها نحو 65 في المائة من سكان العالم، تشكل راهناً نقطة محورية للاستراتيجية والتوترات الجيوسياسية، فهي موطن لثلاثة من أكبر الاقتصادات على مستوى العالم (الصين والهند واليابان) ولسبع من أكبر القوات العسكرية في العالم. ويضاف إلى ذلك أنها منطقة اقتصادية رئيسية تمثل 62 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتسهم بنسبة 46 في المائة من تجارة السلع العالمية.

3 محاور

ويرجّح فيفيك ميشرا، خبير السياسة الأميركية في «مؤسسة أوبزرفر للأبحاث»، أنه «في ولاية ترمب الثانية، ستوجّه استراتيجية واشنطن لهذه المنطقة عبر التركيز على ثلاثة محاور تعمل على ربط المجالات القارية والبحرية في حيّزها. وستكون العلاقات الأميركية - الصينية في نقطة مركز هذه المقاربة، مع توقع أن تعمل التوترات التجارية على دفع الديناميكيات الثنائية... إذ لا يزال موقف ترمب من الصين حازماً، ويهدف إلى موازنة نفوذها المتنامي في المجالين الاقتصادي والأمني على حد سواء».

إضافة إلى ما سبق، يرى ميشرا أن «لدى سياسة ترمب في حوض المحيطين الهندي والهادئ توقعات كبيرة من حلفاء أميركا الرئيسيين وشركائها في المنطقة، بما في ذلك اضطلاع الهند بدور أنشط في المحيط الهندي مع التزامات عسكرية أكبر من الحلفاء مثل اليابان وأستراليا». ويرجّح الخبير الهندي، كذلك، «أن تتضمن رؤية ترمب لحوض المحيطين الهندي والهادئ الجهود الرامية إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، لا سيما من خلال تعزيز التجارة والاتصال مع المنطقة، لتعزيز ارتباطها بالمجال البحري لحوض المحيطين الهندي والهادئ».

الحالة الهندية

هناك الكثير من الأسباب التي تسعد حكومة ناريندرا مودي اليمينية في الهند بفوز ترمب. إذ تقف الهند اليوم شريكاً حيوياً واستثنائياً بشكل خاص في الاستراتيجيتين الإقليمية والدولية للرئيس الأميركي العائد. وعلى الصعيد الشخصي، سلَّط ترمب إبان حملته الانتخابية الضوء على علاقته القوية بمودي، الذي هنأه على الفور بفوزه في الانتخابات.

وهنا يقول السفير الهندي السابق آرون كومار: «مع تأمين ترمب ولاية ثانية، تؤشر علاقته الوثيقة برئيس الوزراء مودي إلى مرحلة جديدة للعلاقات الهندية - الأميركية. ومع فوز مودي التاريخي بولاية ثالثة، ووعد ترمب بتعزيز العلاقات بين واشنطن ونيودلهي يُرتقب تكثّف الشراكة بينهما. وبالفعل، يتفّق موقف ترمب المتشدد من بكين مع الأهداف الاستراتيجية لنيودلهي؛ ولذا يُرجح أن يزيد الضغط على بكين وسط تراجع التصعيد على الحدود. ويضاف إلى ذلك، أن تدقيق ترمب في تصرفات باكستان بشأن الإرهاب قد يوسّع النفوذ الاستراتيجي الهندي في كشمير».

كومار يتوقع أيضاً «نمو التعاون في مجال الدفاع، لا سيما في أعقاب صفقة الطائرات المسيَّرة الضخمة التي بدأت خلال ولاية ترمب الأولى. ومع الأهداف المشتركة ضد العناصر المتطرّفة في كندا والولايات المتحدة، يمهّد تحالف مودي - ترمب المتجدّد الطريق للتقدم الاقتصادي والدفاعي والدبلوماسي... إذا منحت إدارة ترمب الأولوية للتعاون الدفاعي والتكنولوجي والفضائي مع الهند، وهي قطاعات أساسية تحتل مركزها في الطموحات الاستراتيجية لكلا البلدين». وما يُذكر أن ترمب أعرب عن نيته البناء على تاريخه السابق مع الهند، المتضمن بناء علاقات تجارية، وفتح المزيد من التكنولوجيا للشركات الهندية، وإتاحة المزيد من المعدات العسكرية الأميركية لقوات الدفاع الهندية. وبصفة خاصة، قد تتأكد العلاقات الدفاعية بين الهند والولايات المتحدة، في ظل قدر أعظم من العمل البيني المتبادل ودعم سلسلة الإمداد الدفاعية.

السياسة إزاء الصين

أما بالنسبة للصين، فيتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة، ويرى البعض أنه خلال ولايته الثانية يمتلك القدرة على قيادة مسار احتواء أوسع تجاه بكين. بدايةً، كما نتذكر، حمّل ترمب الحكومة الصينية مسؤولية جائحة «كوفيد - 19»، التي قتلت أكثر من مليون أميركي ودفعت الاقتصاد الأميركي إلى ركود عميق. وسواء عبر الإجراءات التجارية، أو العقوبات، أو المطالبة بالتعويضات، سيسعى الرئيس الأميركي العائد إلى «محاسبة» بكين على «الأضرار» المادية التي ألحقتها الجائحة بالولايات المتحدة والتي تقدَّر بنحو 18 تريليون دولار أميركي.

ووفقاً للمحلل الأمني الهندي سوشانت سارين، فإن دبلوماسية «الذئب المحارب» الصينية، ودعم بكين حرب موسكو في أوكرانيا، والقضايا المتزايدة ذات الصلة بالتجارة والتكنولوجيا وسلاسل التوريد، تشكل مصدر قلق كبيراً لحكومة ترمب الجديدة. ومن ثم، ستركز مقاربة الرئيس الأميركي تجاه الصين على الجانبين الاقتصادي والأمني، مع التأكيد على حاجة الولايات المتحدة إلى الحفاظ على قدرتها التنافسية في مجال التكنولوجيات الناشئة.

آسيا ... تنتظر مواقف ترمب بعد انتصاره الكبير (رويترز)

التجارة والاقتصاد

أما الخبير الاقتصادي سيدهارت باندي، فيرى أنه «يمكن القول إن التجارة هي القضية الأكثر أهمية في جدول أعمال السياسة الأميركية تجاه الصين... وقد تتصاعد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين في ظل حكم ترمب».

وحقاً، في التقييم الصيني الحالي، يتوقع أن تشهد ولاية ترمب الثانية تشدداً أميركياً أكبر حيال بشأن العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية؛ ما يؤدي إلى مزيد من التنافر بين الاقتصادين. وللعلم، في وقت سابق من العام الحالي، وعد خطاب ترمب الانتخابي بتعرفات جمركية بنسبة 60 في المائة أو أعلى على جميع السلع الصينية، وتعرفات جمركية شاملة بنسبة 10 في المائة على السلع من جميع نقاط المنشأ. ومن ثم، يرجّح أيضاً أن تشجع هذه الاستراتيجية الشركات الأميركية على تنويع سلاسل التوريد الخاصة بها بعيداً عن الصين؛ ما قد يؤدي إلى تسريع الشراكات مع دول أخرى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ».

ما يستحق الإشارة هنا أن ترمب كان قد شن حرباً تجارية ضد الصين بدءاً من عام 2018، حين فرض رسوماً جمركية تصل إلى 25 في المائة على مجموعة من السلع الصينية. وبعدما كانت الصين عام 2016 الشريك التجاري الأول للولايات المتحدة، مع أكثر من 20 في المائة من الواردات الأميركية ونحو 16 في المائة من إجمالي التجارة الأميركية، فإنها تراجعت بحلول عام 2023 إلى المرتبة الثالثة، مع 13.9 في المائة من الواردات و11.3 في المائة من التجارة.

وبالتالي، من شأن هذا التحوّل منح مصداقية أكبر لتهديدات ترمب بإلغاء الوضع التجاري للدولة «الأكثر رعاية» المعطى للصين وفرض تعرفات جمركية واسعة النطاق. ومع أن هذه الإجراءات سترتب تكاليف اقتصادية للأميركيين، فإن نحو 80 في المائة من الأميركيين ينظرون إلى الصين نظرة سلبية.

يتوقع كثيرون استنساخ ترمب سياساته المتشددة السابقة إزاء الصين

الشق العسكري

من جهة ثانية، يتوقع أن يُنهي ترمب محاولات الشراكة الثنائية السابقة، بينما يعمل حلفاء الولايات المتحدة الآسيويون على تعزيز قدراتهم العسكرية والتعاون فيما بينهم. ومن شأن تحسين التحالفات والشراكات الإقليمية، بما في ذلك «ميثاق أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة»، وميثاق مجموعة «كواد» الرباعية (أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة)، وتحسين العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية بشكل كبير، والتعاون المتزايد بين اليابان والفلبين، تعزيز موقف ترمب في وجه بكين.

شبه الجزيرة الكورية

فيما يخصّ الموضوع الكوري، يتكهن البعض بأن ترمب سيحاول إعادة التباحث مع كوريا الشمالية بشأن برامجها للأسلحة النووية والصواريخ الباليستية. وفي حين سيكون إشراك بيونغ يانغ في هذه القضايا بلا شك، حذراً وحصيفاً، فمن غير المستبعد أن تجد إدارة ترمب الثانية تكرار التباحث أكثر تعقيداً هذه المرة.

الصحافي مانيش تشيبر علَّق على هذا الأمر قائلاً إن «إدارة ترمب الأولى كانت لها مزايا عندما اتبعت الضغط الأقصى الأولي تجاه بيونغ يانغ، لكن هذا لن يتكرّر مع إدارة ترمب القادمة، خصوصاً أنه في الماضي كانت روسيا والصين متعاونتين في زيادة الضغوط على نظام كوريا الشمالية». بل، وضعف النفوذ التفاوضي لواشنطن في الوقت الذي قوي موقف كوريا الشمالية. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا وبعد لقاء الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2023، عمّقت موسكو وبيونغ يانغ التعاون في مجالات الاقتصاد والعلوم والتكنولوجيا.

الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون (رويترز)

مكاسب حربية لكوريا الشمالية

أيضاً، تشير التقديرات إلى أن كوريا الشمالية كسبت على الأرجح 4.3 مليار دولار من شحنات المدفعية إلى روسيا خلال الحرب وحدها، وقد تكسب أكثر من 21 مليون دولار شهرياً من نشر قواتها في روسيا. وفي المقابل، تستفيد من روسيا في توفير الأسلحة والقوات والتكنولوجيا لمساعدة برامج الصواريخ الكورية الشمالية. وتبعاً لمستوى الدعم الذي ترغب الصين وروسيا في تقديمه لكوريا الشمالية، قد تواجه إدارة ترمب القادمة بيونغ يانغ تحت ضغط دبلوماسي واقتصادي متناقص وهي مستمرة في تحسين برامج الأسلحة وتطويرها.

أما عندما يتعلق الأمر بكوريا الجنوبية، فيلاحظ المحللون أن فصلاً جديداً مضطرباً قد يبدأ للتحالف الأميركي - الكوري الجنوبي مع عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. ويحذر المحللون من أن سياسة «جعل أميركا عظيمة مجدداً» التي ينتهجها الحزب الجمهوري قد تشكل مرة أخرى اختباراً صعباً للتحالف بين سيول وواشنطن الذي دام عقوداً من الزمان، مذكرين بالاضطرابات التي شهدها أثناء فترة ولايته السابقة من عام 2017 إلى عام 2021. ففي ولايته السابقة، طالب ترمب بزيادة كبيرة في المساهمة المالية لسيول في دعم القوات الأميركية في شبه الجزيرة الكورية. وأثناء حملته الانتخابية الحالية، وصف كوريا الجنوبية بأنها «آلة للمال» بينما يناقش مسألة تقاسم تكاليف الدفاع، وذكر أن موقفه بشأن القضية لا يزال ثابتاً. وفي سياق متصل، قال الصحافي الكوري الجنوبي لي هيو جين في مقال نشرته صحيفة «كوريان تايمز» إنه «مع تركيز الولايات المتحدة حالياً على المخاوف الدولية الرئيسية كالحرب في أوكرانيا والصراع في الشرق الأوسط، يشير بعض المحللين إلى أن أي تحولات جذرية في السياسة تجاه شبه الجزيرة الكورية في ظل إدارة ترمب قد تؤجل. لكن مع ذلك؛ ونظراً لنهج ترمب الذي غالباً يصعب التنبؤ به تجاه السياسة الخارجية، يمكن عكس هذه التوقعات».

حقائق

أميركا والهند... و«اتفاقية التجارة الحرة»

في كي فيجاياكومار، الخبير الاستثماري الهندي، يتوقع أن يعيد الرئيس الأميركي العائد دونالد ترمب النظر مجدداً بشأن المفاوضات حول «اتفاقية التجارة الحرة»، وكانت قد عُرفت مفاوضات مكثفة في الفترة 2019 - 2020 قبل أن يفقد السلطة، والتي لم يبدِ الرئيس السابق جو بايدن أي اهتمام باستكمالها.وعوضاً عن الضغط على نيودلهي بشأن خفض انبعاثات الكربون، «من المرجح أن يشجع ترمب الهند على شراء النفط والغاز الطبيعي المسال الأميركي، على غرار مذكرة التفاهم الخاصة بمصنع النفط والغاز الطبيعي المسال في لويزيانا لعام 2019، والتي كانت ستجلب 2.5 مليار دولار من الاستثمارات من شركة (بترونيت إنديا) إلى الولايات المتحدة، لكنها تأجلت لعام لاحق».ثم يضيف: «بوجود شخصيات مؤثرة مثل إيلون ماسك، الذي يدعو إلى الابتكار في التكنولوجيا والطاقة النظيفة، ليكون له صوت مسموع في دائرة ترمب، فإن التعاون بين الولايات المتحدة والهند في مجال التكنولوجيا يمكن أن يشهد تقدماً ملحوظاً. ومن شأن هذا التعاون دفع عجلة التقدم في مجالات مثل استكشاف الفضاء، والأمن السيبراني، والطاقة النظيفة؛ ما يزيد من ترسيخ مكانة الهند باعتبارها ثقلاً موازناً للصين في حوض المحيطين الهندي والهادئ».في المقابل، لا يتوقع معلقون آخرون أن يكون كل شيء على ما يرام؛ إذ تواجه الهند بعض التحديات المباشرة على الأقل، بما في ذلك فرض رسوم جمركية أعلى وفرض قيود على التأشيرات، فضلاً عن احتمال المزيد من التقلبات في أسواق صرف العملات الأجنبية. وثمة مخاوف أيضاً بشأن ارتفاع معدلات التضخم في الولايات المتحدة في أعقاب موقفها المالي والتخفيضات الأقل من جانب بنك الاحتياطي الفيدرالي، وهو ما قد يخلف تأثيراً غير مباشر على قرارات السياسة النقدية في بلدان أخرى بما في ذلك الهند.