ثروة الخليج السمكية مهدَّدة بالصيد المفرط والاحترار

صائد أسماك في سوق السمك في ميناء الفاو بجنوب العراق (أ.ف.ب)
صائد أسماك في سوق السمك في ميناء الفاو بجنوب العراق (أ.ف.ب)
TT

ثروة الخليج السمكية مهدَّدة بالصيد المفرط والاحترار

صائد أسماك في سوق السمك في ميناء الفاو بجنوب العراق (أ.ف.ب)
صائد أسماك في سوق السمك في ميناء الفاو بجنوب العراق (أ.ف.ب)

يُعد الخليج العربي تكويناً مائياً حديث النشأة جيولوجياً، وتحيطه ثماني دول سريعة النمو نسبياً. وخلال فصل الصيف، يصبح أكثر البحار حرارة على كوكب الأرض، لا سيما في حوضه الجنوبي الضحل؛ حيث تتجاوز حرارة سطح البحر 35 درجة مئوية.
وتضم أنظمة الخليج البحرية والساحلية فسيفساء متنوعة ومترابطة من النظم البيئية المهمة بيولوجياً واقتصادياً، بما في ذلك غابات المانغروف والمستنقعات المالحة وأحواض الأعشاب البحرية والشعاب المرجانية. كما تمثّل الثروة السمكية أهم الموارد الطبيعية للبلدان الخليجية بعد النفط. ومع ذلك، لا تحظى هذه الثروة بالتقدير الكافي، بل تتعرض لتهديدات مختلفة، مثل تغيُّر المناخ والتوسُّع الحضري والصرف غير المعالج وارتفاع الملوحة والإفراط في الصيد.
- الاحترار ضعف المتوسط العالمي
ترك تغيُّر المناخ العالمي آثاره الواضحة على النظم البحرية في جميع أنحاء العالم، بما فيها الخليج، الذي يعاني بالفعل من ارتفاع درجات حرارة البحر في الصيف بما يتجاوز أسوأ السيناريوهات المتوقعة في كثير من المناطق المدارية. ومنذ الثمانينات، زادت حرارة سطح البحر في الخليج بمقدار 0.4 درجة مئوية كل عشر سنوات، بما يساوي ضعف المتوسط العالمي.
ونتج عن ارتفاع حرارة سطح البحر تدهور كبير في النظم البحرية، وطال الضرر الشعاب المرجانية على وجه خاص، باعتبارها أكثر النظم البيئية الساحلية تنوعاً في المنطقة. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 70 في المائة من الشعاب المرجانية تلاشت نتيجة لاحترار مياه الخليج وعوامل بشرية أخرى. ويُظهر تقييم حديث أن كل أنواع الأسماك المعتمِدة على الشعاب المرجانية في الخليج معرضة للخطر.
ومن المتوقع أن تؤثر التغيُّرات في درجات الحرارة على أنماط التفريخ الموسمية للأسماك الزعنفية ذات الأهمية التجارية، ما قد يتسبب في عدم التزامن بين ظهور يرقات الأسماك وفرائسها، ويؤثر على وفرة الأنواع المهمة بالنسبة لسكان المناطق الساحلية. كما أن ارتفاع درجات الحرارة يزيد في تكاثر الطحالب الضارة، وهي ظاهرة تتسبب في نفوق الأسماك.
ويمكن أن تؤدي المياه الأكثر دفئاً إلى نمو الأسماك على نحو أسرع، ولكن حجمها يكون أصغر في عمر معيّن. كما يتسبب الاحترار في زيادة استهلاك الكتلة الحيوية للطاقة عند انتقالها لمستوى أعلى في السلسلة الغذائية، ويسهم في تسريع تدهور البيئة.
ويتسبب ارتفاع منسوب مياه البحر نتيجة الاحترار العالمي، وغوص المناطق الساحلية نتيجة الأنشطة البشرية كاستخراج النفط والمياه الجوفية، في تعريض العديد من النظم البيئية الساحلية الكبيرة والمهمة لخطر الغمر بسبب طبيعتها المنخفضة، بما فيها السبخات والسهول الطينية في منطقة المد والجزر. وتكون الأعشاب المرجانية أكثر عرضة لزيادة الترسيب والتعكُّر الناجم عن زيادة نشاط العواصف، بسبب ارتفاع درجات الحرارة.
وفيما تساعد الظروف البيئية الإقليمية للخليج وطبيعته الجيولوجية في تقليل مخاطر ارتفاع حموضة البحر على الكائنات الحيّة، مثل الشعاب المرجانية والرخويات والطحالب التي تؤدي وظائف مهمة في النظم البحرية، فالضرر الأكبر لارتفاع الحموضة سيكون في تحلل الأراضي الصلبة الصخرية التي توجد عليها الشعاب المرجانية والنظم البيئية الأخرى.
- الأنشطة البشرية
تسهم عوامل أخرى في الإخلال بسلامة النظم البيئية للخليج، ومن بينها النمو السكاني غير المسبوق الذي شهدته المنطقة، ونتجت عنه زيادة واسعة النطاق في التوسع الحضري على المناطق الساحلية. وتشير التقديرات إلى أن 40 في المائة من ساحل الخليج جرى تعديله من خلال مشروعات الإسكان الشامل والسياحة والتنمية الصناعية اللازمة لاستدامة الزيادة السكانية، وانعكس ذلك تدهوراً كبيراً في النظم البيئية الساحلية بفعل التجريف واستصلاح الأراضي.
وعلى الرغم من المعايير العالية لمعالجة مياه الصرف في معظم بلدان المنطقة، تدخل الخليج كميات كبيرة من مياه الصرف الصناعي والمنزلي. وتنشأ المخلّفات الصناعية السائلة من الصناعات التحويلية الرئيسية التي تشمل منتجات مثل الأسمدة والبلاستيك والبتروكيماويات والمعادن.
وتُظهر النظم البيئية البحرية الواقعة قرب المصبات تراكيز مرتفعة من الملوثات، وإن كانت أغلب الدراسات تشير إلى أن المستويات الحالية من المعادن الثقيلة في الرواسب البحرية والأسماك لا تزال ضمن التراكيز المسموحة دولياً. وقد تم توثيق العديد من حالات تكاثر الطحالب الضارة على نطاق واسع في خليج الكويت خلال العقود القليلة الماضية، وكانت هذه الحالات تُعزى إلى ارتفاع المغذيات الناجمة عن المخرجات الصناعية ومياه الصرف الصحي، وتسببت في نفوق أعداد كبيرة من الأسماك.
وبسبب الطبيعة الضحلة والمقيدة للخليج ومحدودية مدخلاته من المياه العذبة، لا سيما مع بناء السدود على الأنهار الرئيسية التي تغذي حوضه شمالاً، انخفض تدفق المياه العذبة التي تصب في الخليج إلى نحو 110 كيلومترات مكعبة في السنة، مع معدلات تبخر مرتفعة وفضلات معامل التحلية، ما يرفع مستوى الملوحة بشكل غير عادي.
ونتيجة التقلُّب الحراري الشديد والملوحة المرتفعة، تعيش العديد من الكائنات البحرية في الخليج بالقرب من حدودها الفيزيولوجية، ما يجعلها هشة تجاه أي تبدلات طارئة في ظروف النظام البيئي. وعلى مدى العقود القليلة الماضية، أدى الضغط المتزايد نتيجة تغيُّر المناخ والأنشطة البشرية في المناطق الساحلية إلى تدهور واسع النطاق، وفقدان للنظم البيئية الساحلية في أكثر من مكان.
- الصيد المفرط يستنزف الثروة السمكية
بالإضافة إلى الآثار السلبية للتلوُّث وتدمير الموائل، أدى ضغط الصيد المكثّف إلى الاستغلال المفرط لثلثي الأنواع المهمة تجارياً، والاستغلال الكامل لنحو 5 في المائة من الأنواع الحية الأخرى التي تعيش في مياه الخليج. وقد أسهم الافتقار إلى تقييمات موثوقة للمخزون السمكي وطنياً وإقليمياً في تفاقم ممارسات الصيد الجائر في المنطقة. ويتراوح إنتاج المصايد في الخليج بين 210 و420 ألف طن من الأسماك سنوياً.
ولا تزال ممارسات الصيد المدمِّرة، مثل صيد الروبيان بشباك الجرّ، تحدث في بعض دول الخليج. ومن المرجّح أن ممارسات كهذه أسهمت بشكل كبير في تدهور النظام البيئي من خلال التدمير المباشر لقاع البحر في مناطق تطبيقها. وينتج عن الصيد بشباك الجرّ أيضاً ارتفاع الصيد العرضي للأسماك الصغيرة؛ حيث إن العديد من الأسماك التجارية توجد داخل مناطق صيد الروبيان.
كما يتم اصطياد الأسماك اليافعة بشكل شائع في مصايد الأعماق التي تستخدم مصائد أسماك شبكية سلكية كثيفة (قرقور). وفي أبوظبي، تشكّل الأسماك غير البالغة أكثر من نصف كمية أسماك القيعان الضحلة التي يتم اصطيادها.
وخلال السنوات السبعين الماضية، تغيّر تركيب أنواع الأسماك التي يجري اصطيادها وتناقص متوسط القيمة الغذائية للصيد، ما يشير إلى أن الأنواع ذات المحتوى الغذائي المرتفع قد انهارت واستبدلت بها أنواع ذات قيمة غذائية أقل، كاللافقاريات والأحياء التي تتغذى على العوالق. ورغم أن السجلات الرسمية لمصايد الأسماك لا يمكن التعويل عليها، فإن الثابت هو تراجع حصة الفرد في المنطقة من الإمدادات السمكية مع استمرار أنشطة الصيد المحلية والأجنبية.
ولا تزال قواعد مراقبة الصيد غير صارمة ولا متسقة بين دول الخليج بما يكفي لحماية النظم البيئية البحرية. كما يستمر الصيد في استنزاف معظم مخزون الأسماك في المنطقة؛ حيث لم تتمكن برامج إعادة بناء المخزون وإكثار أنواع الأسماك المحلية من حل المشكلة. ومن الواضح أن زيادة حصاد الكتلة الحيوية في الجزء العلوي من السلاسل الغذائية البحرية، وتوسع مصايد الأسماك، والضغط على الجزء السفلي من السلاسل الغذائية، هي أدلة على الصيد الجائر والإدارة غير الفعّالة.
ومن المتوقع أن تزداد الضغوط المرتبطة بالسكان في العقود المقبلة مع استمرار نمو المدن الساحلية، وستكون هناك زيادة في وتيرة وحجم الظواهر الحرارية الشديدة تحت وطأة تغيُّر المناخ. ومن أجل حماية الموائل الطبيعية في الخليج العربي والحفاظ على نظمه البيئية المهمة لا بد من إجراءات مؤثرة تحدّ من الآثار التراكمية للضغوط التي يتعرض لها.
ويشمل ذلك، على سبيل المثال، تطبيق إدارة واقعية ومسؤولة لمصايد الأسماك بالتعاون مع صانعي السياسات العالميين، مثل منظمة الأغذية والزراعة (فاو) وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة (يونيب)، وتحسين أساليب وخطط الرصد لتحديد مواقع الصيد البحري غير القانوني. ويجب تعديل الضوابط التي تنظم مصايد الأسماك واستراتيجيات مقاومة المناخ، خصوصاً في المواسم شديدة الحرارة، وتقليص أذونات السماح بالصيد من حيث الكميات والأماكن والمواعيد.
ويمكن توجيه المزيد من الدعم لمصايد الأسماك الصغيرة التي تعمل عادة على نحو أكثر استدامة، وإنشاء المزيد من المناطق البحرية المحمية وحفظ الأنواع المستوطنة، بحيث تكون هناك قواعد صارمة لتعزيز سلامة المناطق الحرجة.
كما يُفترض بدول المنطقة أن تضمن أمنها الغذائي قبل إصدار تصاريح التجارة الدولية للصيد ضمن مياهها الإقليمية. وسيكون من المجدي أن تتبنى دول الخليج أهدافاً علمية متكاملة، على المستويين الوطني والإقليمي، تحقق الإدارة المستدامة للمخزون السمكي وتعكس مسار فقدان التنوُّع البيولوجي في المنطقة.


مقالات ذات صلة

«خديعة» لردع أسماك القرش عن مهاجمة ركّاب الأمواج

يوميات الشرق أمكن لعشّاق الموج «الاطمئنان» (شاترستوك)

«خديعة» لردع أسماك القرش عن مهاجمة ركّاب الأمواج

الخوف من أسماك القرش البيضاء قائم منذ فترة طويلة، وأحد أسبابه هو عدم فهمنا لهذه الحيوانات بشكل جيد...

«الشرق الأوسط» (سيدني)
بيئة السمكة الشبح (المعهد الوطني للمياه والغلاف الجوي في نيوزيلندا)

باحثون يكتشفون سمكة قرش جديدة ومذهلة في نيوزيلندا

تم اكتشاف نوع جديد من أسماك القرش الشبح في أعماق المياه بنيوزيلندا.

«الشرق الأوسط» (ويلينغتون)
يوميات الشرق السمكة الصغيرة تتميز بمظهرها الشرس وأنيابها الكبيرة (الباحث فيكتور نونيس بينيمان)

اكتشاف نوع جديد من «الأسماك الغاضبة» في البحر الأحمر

اكتشف فريق من الباحثين في جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست) بالسعودية، وجامعة واشنطن نوعاً جديداً من الأسماك يظهر بمظهر غاضب دائماً.

«الشرق الأوسط» (القاهرة)
شمال افريقيا الصيّادة التونسية سارة السويسي في قاربها (أ.ف.ب)

صيّادات تونسيات «عالقات في شباك» السيطرة الذكورية والتغيّر المناخي

تزاول تونسيات مهنة صيد السمك رغم السيطرة الذكورية على القطاع وتحدّيات يفرضها التغيّر المناخي.

«الشرق الأوسط» (تونس)
يوميات الشرق التلوّث مُسمِّم للأسماك (تعبيرية - أ.ف.ب)

أجسام الأسماك مُخترَقة بالبلاستيك وإطارات السيارات

تخترق المواد البلاستيكية الدقيقة المُنتشرة في مختلف جوانب البيئة أعماق أجسام الأسماك، وهي موجودة بكثافة في الشرائح التي يأكلها المستهلكون.

«الشرق الأوسط» (مونتريال)

دراسة: ارتفاع درجات الحرارة يزيد خطر الإصابة بالرجفان الأذيني

رجل يسكب الماء على رأسه أثناء موجة حر في هيوستن بولاية تكساس بالولايات المتحدة - 25 أغسطس 2023 (رويترز)
رجل يسكب الماء على رأسه أثناء موجة حر في هيوستن بولاية تكساس بالولايات المتحدة - 25 أغسطس 2023 (رويترز)
TT

دراسة: ارتفاع درجات الحرارة يزيد خطر الإصابة بالرجفان الأذيني

رجل يسكب الماء على رأسه أثناء موجة حر في هيوستن بولاية تكساس بالولايات المتحدة - 25 أغسطس 2023 (رويترز)
رجل يسكب الماء على رأسه أثناء موجة حر في هيوستن بولاية تكساس بالولايات المتحدة - 25 أغسطس 2023 (رويترز)

تشير دراسة جديدة إلى أن موجات الحر قد تزيد خطر الإصابة بالرجفان الأذيني، وهو اضطراب في ضربات القلب، إلى ضعفين أو 3 أضعاف، لا سيما إذا لم يكن القلب بصحة جيدة.

وتتبع الباحثون أكثر من 2000 شخص في أنحاء الولايات المتحدة، وقع الاختيار عليهم لأنهم زرعوا أجهزة تراقب نشاط القلب باستمرار. ومعظم هؤلاء يعانون من السمنة، ولديهم جميعاً ضعف في عضلة القلب، بصورة تجعلها تكافح لضخ ما يكفي من الدم إلى الجسم، وفق «وكالة رويترز للأنباء».

وعندما وصلت درجات الحرارة في الخارج إلى 39 درجة مئوية، زادت احتمالات الإصابة بنوبة من الرجفان الأذيني، بنحو 2.66 مرة مقارنةً بدرجات حرارة تتراوح بين 5 و8 درجات مئوية.

وارتفعت احتمالية الإصابة بالرجفان الأذيني لتصبح أعلى 2.87 مرة عند 40 درجة مئوية، و3.09 مرة عند 41 درجة.

ووجد الباحثون، الذين سيقدمون البيانات في اجتماعات جمعية القلب الأميركية، أن نوبات الرجفان الأذيني حدثت بمعدل أقل بين الساعة 12 صباحاً والسابعة صباحاً، مقارنة بساعات العمل الاعتيادية، من الثامنة صباحاً وحتى الخامسة مساء، وبمعدل أكبر في أيام الأسبوع مقارنةً بعطلات نهاية الأسبوع.

وتعقد جمعية القلب الأميركية جلسات علمية في مدينة شيكاغو، الفترة من 16 إلى 18 نوفمبر (تشرين الثاني).

وقال المتحدث باسم جمعية القلب الأميركية، الدكتور سانجاي راجاجوبالان من جامعة كيس وسترن ريزيرف في كليفلاند، الذي لم يشارك في الدراسة «نظراً للانتشار المتزايد للرجفان الأذيني بين عامة السكان بسبب التقدم في العمر وانتشار السمنة؛ فقد نضطر الآن أيضاً إلى التعامل مع ارتفاع درجات الحرارة».

وأضاف في بيان: «الأشخاص المهددون الذين يعيشون في مناطق معرضة لخطر الارتفاع الكبير في درجات الحرارة يجب أن يطلعوا على هذه النتائج، ويتأكدوا من اتخاذهم الاحتياطات اللازمة» للبقاء في أجواء باردة وتجنب الجفاف.