تفجير إسطنبول... إعصار داخلي وارتدادات خارجية

أعاد أجواء انتخابات 2015 وعمّق الاستقطاب قبل معركة 2023

موقع التفجير الإرهابي في إسطنبول (غيتي)
المتهمة الموقوفة أحلام البشير -  زعيم حزب «النصر» اليميني أوميت أوزداغ
موقع التفجير الإرهابي في إسطنبول (غيتي) المتهمة الموقوفة أحلام البشير - زعيم حزب «النصر» اليميني أوميت أوزداغ
TT

تفجير إسطنبول... إعصار داخلي وارتدادات خارجية

موقع التفجير الإرهابي في إسطنبول (غيتي)
المتهمة الموقوفة أحلام البشير -  زعيم حزب «النصر» اليميني أوميت أوزداغ
موقع التفجير الإرهابي في إسطنبول (غيتي) المتهمة الموقوفة أحلام البشير - زعيم حزب «النصر» اليميني أوميت أوزداغ

عاد وجه الإرهاب ليطل بوجهه القبيح مرة أخرى في قلب إسطنبول وشريانها النابض بالحياة، أي شارع الاستقلال الممتد بين ميدان تقسيم وبرج غالاطة ووصولاً إلى منطقة كاراكوي، جامعاً ملامح عصور تاريخ كبرى مدن تركيا وأعرقها في لوحة مبهرة يتدفق عليها الملايين من خارج تركيا وداخلها يومياً. تفجير شارع الاستقلال، الذي وقع الأحد الماضي مخلفاً 6 قتلى و81 مصابا، قطع في الواقع هدوءا وأمنا عاشتهما إسطنبول لما يقرب من 6 سنوات، منذ آخر حادث إرهابي في الساعات الأولى من عام 2017، وهو حادث نفذه الإرهابي الداعشي الأوزبكي عبد القادر مشاريبوف في نادي «رينا» الليلي وخلف 39 قتيلا و96 مصاباً. وكان قرار إزالة النادي المطل على البوسفور، كما لو أنه إعلان بزوال أو صمت العمليات الإرهابية المتكررة التي شهدتها تركيا خلال الفترة بين عامي 2015 و2017. لم يقطع تفجير تقسيم حالة الهدوء فقط، بل أدى أيضاً إلى تطاير الأسئلة عن أسباب تجدد الحوادث الإرهابية قبل 7 أشهر من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي ستشهدها تركيا في 18 يونيو (حزيران) المقبل. وهو ما استدعى نسج «سيناريوهات» وتوجيه اتهامات للحكومة، ليس فقط بالضعف الأمني، بل ربما بالوقوف وراء التفجير من أجل إشاعة أجواء الخوف التي شهدتها البلاد قبل الانتخابات المبكرة في أول نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، وهذه أجريت بعد أقل من 5 أشهر من انتخابات 7 يونيو من العام ذاته، وكانت أول انتخابات يخفق حزب العدالة والتنمية الحاكم بالحصول على الغالبية التي تمكنه من تشكيل الحكومة منفرداً. وأيضا، شهدت العاصمة أنقرة يوم 10 أكتوبر (تشرين الأول) تفجيراً مزدوجاً استهدف «مسيرة الديمقراطية» التي كان دعا إليها حزب الشعوب الديمقراطية المؤيد للأكراد ومنظمات مدنية عدة. ويومذاك قال رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو إن «أصواتنا في ازدياد»، وهو ما أثار الشكوك حول الجهة التي تقف وراء العملية الإرهابية، التي نسبت إلى «تنظيم داعش» الإرهابي.

أدى تفجير منطقة ميدان تقسيم في وسط مدينة إسطنبول، إلى حالة استقطاب جديدة ضاعفت من أجواء الاحتقان التي تخيم على الأجواء السياسية التركية مع اقتراب الانتخابات العامة. وأصبحت رواية الحكومة وتحميلها حزب العمال الكردستاني وذراعه السورية «وحدات حماية الشعب» الكردية في جانب، وفي جانب آخر حملة التشكيك الواسعة فيها التي تراوحت بين اتهام الحكومة بتنفيذ «مسرحية» التفجير الإرهابي، وتوظيفه في الدعاية الانتخابية.
رسمياً، أعلنت السلطات التركية أن منفذة تفجير تقسيم هي السورية أحلام البشير (23 سنة). وذكرت أن البشير تدربت في معسكرات «الوحدات» الكردية في مدينة عين العرب (كوباني) ودخلت البلاد بطريقة غير قانونية عبر عفرين، الأمر الذي دفع كمال كليتشدار أوغلو، زعيم المعارضة التركية ورئيس حزب الشعب الجمهوري، إلى اتهام الحكومة بـ«الفشل الذريع في حماية أمن البلاد».
وذهب أبعد من ذلك أوميت أوزداغ، رئيس حزب «النصر» اليميني المناهض للسوريين في تركيا، فطالب رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو، - الذي يرأس حالياً حزب «المستقبل» - بالتخلي عن صمته والكشف عن ملابسات الهجوم الإرهابي في عام 2015 الذي خلف أكثر من 100 قتيل «كي لا يموت المزيد من الناس»، على حد قوله.
وأيضاً ظهر العديد من التعليقات التي تزعم وجود محاولة لزج تركيا في نفق مظلم، كما حدث في عام 2015، إذ لفت الكاتب والمحلل السياسي يوسف كاراداش، إلى «وجود قلق لدى شرائح كبيرة من المجتمع من أن البلاد ستغرق في بيئة جديدة من الرعب والفوضى، تماما كما حدث بين انتخابات 7 يونيو و1 نوفمبر 2015»، عندما جرى الإعلان عن هدف حزب العدالة والتنمية في الحصول على 400 مقعد بالبرلمان وتأسيس النظام الرئاسي.
وحذر كاراداش من «حملة مرتقبة من جانب الكتاب ووسائل الإعلام الموالين للحكومة» تستهدف حزب الشعوب الديمقراطية، الذي ينادي بحل سلمي وديمقراطي للمشكلة الكردية تحت سقف البرلمان، واتهامه بدعم الإرهاب من خلال الإسراع بتحميل حزب العمال الكردستاني المسؤولية عن تفجير تقسيم. وهو ما نفاه الحزب، ونفته أيضا ميليشيا «قوات سوريا الديمقراطية (قسد)» - ذات الغالبية الكردية - التي ادعت أن لا صلة لمنفذته على الإطلاق بها.

- ارتدادات التفجير
المراقبون في تركيا يتوقعون ألا تقف تداعيات التفجير الإرهابي وارتداداته عند البعد الأمني أو التراشق السياسي بين الحكومة والمعارضة في إطار سعي كل طرف للتفوق على الآخر في الانتخابات المقبلة. وهم يعتبرون أن ثمة أبعاداً أخرى تمتد إلى السياسة الخارجية وإلى عمليات تركيا في شمال سوريا والعراق ضد ميليشيا «الوحدات» الكردية ومقاتلي حزب العمال الكردستاني.
ولأن الواضح، وفق رواية الحكومة التركية عن التفجير، أن التخطيط له تم في شمال سوريا، وأن العناصر التي شاركت في تنفيذه هم مجموعة مرتبطة مع قيادات من «وحدات حماية الشعب» الكردية في شمال سوريا، قفزت إلى الواجهة مرة أخرى عملية عسكرية محتملة، كانت أنقرة قد هددت بشنها في مايو (أيار) الماضي ضد مواقع «قسد» في شمال سوريا. والغاية وقف التهديدات الأمنية عبر الحدود واستيعاب اللاجئين السوريين في «المناطق الآمنة». وبالفعل، لوح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، مجددا، بإطلاق عملية عسكرية في شمال سوريا، على ضوء التحقيقات الجارية في تفجير شارع الاستقلال، وقال إن «على العالم أن يدرك أن تركيا ستقوم بما يلزم» على ضوء التحقيقات.
في المقابل، حذر نظام دمشق من إقدام تركيا «على استغلال التفجير الإرهابي في إسطنبول كذريعة للقيام بعمل عسكري في شمال سوريا». وصرح وزير الخارجية والمغتربين فيصل المقداد، يوم الأربعاء، أن «سوريا تدين الإرهاب أينما كان». وحذر في الوقت ذاته، السلطات التركية «من أي استغلال لحادثة التفجير الإرهابي». وجاء ذلك في الوقت الذي أخذت أنقرة تبدي مرونة كبيرة في التقارب مع نظام بشار الأسد في سوريا، وأعلنت بالفعل عن إمكانية رفع مستوى الاتصالات بين أجهزة الاستخبارات إلى المستوى الدبلوماسي.

- ... واتهامات لأميركا
على صعيد آخر، أعاد التفجير فتح ملف الخلاف التركي - الأميركي حول دعم واشنطن لميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية بحجة اعتبارها حليفاً في الحرب على «تنظيم داعش» الإرهابي. وحقاً، حمل إردوغان، ضمناً، خلال مؤتمر صحافي على هامش قمة «مجموعة العشرين» في إندونيسيا، يوم الأربعاء، الولايات المتحدة جانبا من المسؤولية عن «التفجير الإرهابي وعن كل نقطة دم أريقت فيه» بسبب علاقتها مع «الوحدات» الكردية ودعمها لها.
وكان لافتاً أيضا أن وزير الداخلية سليمان صويلو رفض رسالة تعزية نشرتها السفارة الأميركية في أنقرة، قائلاً: «لا نقبل التعزية المقدمة من السفارة الأميركية... نعرف من يدعم الإرهاب في شمال سوريا، ونعرف الرسالة التي أرادوا إيصالها لتركيا من خلال هذا الهجوم... إن مَن يدعم المنظمات الإرهابية في شمال سوريا هو مَن نفذ هجوم إسطنبول». وبدوره، قال رئيس دائرة الاتصال برئاسة الجمهورية التركية، فخر الدين ألطون، إنه ينبغي لمن يريد صداقة تركيا أن يقطع الدعم المباشر وغير المباشر للإرهاب. وتابع ألطون في تغريدة عبر «تويتر» يوم الاثنين «على المجتمع الدولي معرفة أن الهجمات الإرهابية التي تستهدف المدنيين إنما هي نتيجة دعم بعض الدول للإرهاب».
- مخاوف اللاجئين السوريين
في هذه الأثناء، تسبب التفجير الإرهابي في زيادة مخاوف السوريين في تركيا من تصاعد الحملة المناهضة لبقائهم في البلاد وتصاعد الدعوات لترحيلهم. وكانت هذه الدعوات قد تزايدت بشكل كبير مع اقتراب موعد الانتخابات، ثم بعد الإعلان عن أن منفذة التفجير ومن عاونوها ومن خططوا للعملية الإرهابية من السوريين. وبالفعل، ألقي القبض على 49 شخصا إلى جانب المتهمة أحلام البشير.
والحقيقة، أنه بعد التفجير صار السوريون، وأيضا بعض الأجانب في تركيا، هدفا للهجوم وحملات الكراهية على مواقع التواصل الاجتماعي. وتصدر خلال الأيام الماضية وسم «سوري» موقع «تويتر» بعد ظهور حملة واسعة تطالب بطرد اللاجئين السوريين، وكذلك الأفغان والباكستانيين من البلاد. واعتبر المغردون أن اللاجئين هم سبب زعزعة الأمن العام، وأنهم أكبر مشكلة تواجه تركيا وتعيق تقدمها.
كذلك تصدر وسم باسم أوميت أوزداغ، رئيس حزب «النصر» اليميني المناهض للوجود السوري في البلاد، بعد هجومه على وزير الداخلية سليمان صويلو لـ«عجزه عن الحفاظ على أمن وسلامة البلاد». وكان قد أدلى أخيراً بتصريحات يقول فيها إن تركيا «ستضمن الأمن لجاريها العراق وسوريا» على سبيل التفاخر بقوة الأمن في تركيا.

- العمال الكردستاني... في مرمى النيران
اتهمت أنقرة حزب العمال الكردستاني، المصنف كمنظمة إرهابية في تركيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بالوقوف وراء تفجير تقسيم الإرهابي بإسطنبول، لكن الحزب نفى أي علاقة له بالتفجير مدعياً أنه لا يستهدف المدنيين على الإطلاق.
- يخوض الحزب الكردي نزاعاً مسلحاً ضد الدولة التركية منذ العام 1984، واعتقل رئيسه عبد الله أوجلان عام 1999 ولا يزال قابعاً في سجن إيمرالي الشديد الحراسة، في بحر مرمرة، حيث يمضي عقوبة بالسجن مدى الحياة.
- دعا الحزب ذو الجذور الماركسية، في بيان سياسي أصدره عند تأسيسه عام 1978 إلى «تأسيس دولة كردية مستقلة» في مناطق جنوب شرقي تركيا ذات الغالبية الكردية. إلا أنه تراجع لاحقاً عن هذا الإعلان، وانصب تركيزه في السنوات الأخيرة على تعزيز الحكم الذاتي للأكراد.
- يستهدف مقاتلو الحزب قوات الأمن التركية. وغالباً ما يتبنى تنظيم «صقور حرية كردستان» - التابع للحزب - هجمات في داخل المدن، وسبق أن تبنى تفجيرين وقعا أمام استاد بشيكتاش في إسطنبول ومتنزه بالقرب منه أوقعا 46 قتيلا في عام 2016.
- تسبب النزاع المسلح بين الحزب والجيش التركي بمقتل أكثر من 40 ألف شخص منذ العام 1984، وتشن تركيا عمليات عسكرية منتظمة على مواقعه في شمال العراق، كما تستهدف ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية، التي تعتبرها امتدادا له في سوريا.
- دخلت الحكومة التركية برئاسة رجب طيب إردوغان مفاوضات سلام مع العمال الكردستاني عام 2013 سعيا لإيجاد حلق للقضية الكردية، بيد أن القتال استؤنف بعد انهيار اتفاق وقف إطلاق النار المعلن من جانب الحزب عام 2015، وعقب محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في تركيا عام 2016 استهدفت أنقرة، ضمن حملة واسعة النطاق، سياسيين وصحافيين وناشطين أكراد خلال عملية تطهير واسعة كانت موجهة بالأساس إلى «حركة الخدمة» التابعة للداعية فتح الله غولن، التي نسبت إليها السلطات الوقوف وراء المحاولة.
- تتهم الحكومة التركية «حزب الشعوب الديمقراطية»، المؤيد للأكراد، والذي يعد ثاني أكبر أحزاب المعارضة في البرلمان التركي (بكتلة تضم 56 نائباً) بأنه الواجهة السياسية لحزب العمال الكردستاني. ولقد رفع المدعي العام الجمهوري في أنقرة العام الماضي دعوى أمام المحكمة الدستورية لحل الحزب وتجميد النشاط السياسي لأكثر من 600 من قياداته وأعضائه البارزين لمدة 5 سنوات.
- اتهمت وسائل إعلام مقربة من الحزب خلال الشهر الماضي الجيش التركي باستخدام أسلحة كيماوية في عملياته في شمال العراق، وهو ما تنفيه تركيا. وأُوقفت رئيسة اتحاد الأطباء في تركيا شبانم كورور فنجانجي بعدما دعت إلى فتح تحقيق في هذا الشأن.
- يشكل وجود عناصر من العمال الكردستاني في السويد وفنلندا سبباً لاعتراض تركيا على طلب البلدين الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو).


مقالات ذات صلة

تركيا تقلص صفقة «إف - 16» مع أميركا وتتحدث عن تطور يخص «إف - 35»

شؤون إقليمية المقاتلة الأميركية «إف - 16 بلوك 70» (موقع شركة لوكهيد مارتن)

تركيا تقلص صفقة «إف - 16» مع أميركا وتتحدث عن تطور يخص «إف - 35»

قرَّرت تركيا تقليص صفقة شراء مقاتلات «إف - 16» الأميركية في الوقت الذي أعلنت فيه أن أميركا أعادت تقييم موقفها من حصولها على مقاتلات «إف - 35» الشبحية

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية مروحيتان حربيتان تركيتان تشاركان في قصف مواقع لـ«العمال الكردستاني» شمال العراق (أرشيفية - وزارة الدفاع التركية)

تركيا تعلن «تطهير» مناطق عراقية من «العمال الكردستاني»

أعلنت تركيا تطهير مناطق في شمال العراق من مسلحي «حزب العمال الكردستاني» المحظور، وأكدت أن علاقاتها بالعراق تحسنت في الآونة الأخيرة.

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
شؤون إقليمية رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الحليف الأقرب لإردوغان متحدثاً أمام نواب حزبه بالبرلمان الثلاثاء (حزب الحركة القومية)

حليف إردوغان يؤكد دعوة أوجلان للبرلمان ويتخلى عن إطلاق سراحه

زاد رئيس حزب الحركة القومية دولت بهشلي الجدل المثار حول دعوته زعيم حزب العمال الكردستاني السجين عبد الله أوجلان للحديث بالبرلمان وإعلان حل الحزب وانتهاء الإرهاب

سعيد عبد الرازق (أنقرة)
أوروبا جهاز مكافحة الإرهاب في ألمانيا (أرشيفية - متداولة)

ألمانيا: حملة تفتيشات جديدة بحثاً عن إرهابيين سابقين في «الجيش الأحمر»

تُعد جماعة «الجيش الأحمر»، التي تأسست في عام 1970، إحدى أبرز الجماعات اليسارية بألمانيا الغربية السابقة في فترة ما بعد الحرب حيث تم تصنيفها هناك جماعة إرهابية.

«الشرق الأوسط» (برلين)
شمال افريقيا عناصر الشرطة الألمانية في حملة مداهمات سابقة (غيتي)

ألمانيا تحيل 4 يُشتبه بانتمائهم لـ«حماس» للمحاكمة بتهمة جمع أسلحة

مكتب المدعي العام الاتحادي في ألمانيا: «(حماس) نظمت عمليات تخبئة أسلحة في دول أوروبية مختلفة لتنفيذ هجمات محتملة ضد مؤسسات يهودية وغربية في أوروبا».

«الشرق الأوسط» (برلين)

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
TT

تطوّر العلاقات السعودية ـ الصينية... شراكة استراتيجية على مختلف الأصعدة

الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)
الرئيس الصيني شي جينبينغ مستقبلاً خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في بكين في مارس 2017 (أ.ف.ب)

عقدت أخيراً في الرياض الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين وزارة الخارجية السعودية ووزارة الخارجية الصينية، وترأس الجانب السعودي نائب وزير الخارجية وليد الخريجي، وترأس الجانب الصيني نظيره نائب الوزير دنغ لي. وبحث الجانبان تطوير العلاقات الثنائية، مع مناقشة المستجدات التي تهم الرياض وبكين. يذكر أن العلاقات السعودية الصينية شهدت تطوراً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة، إذ تعززت الشراكة بين البلدين على مختلف الأصعدة الاقتصادية والسياسية والثقافية. وتعود العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية إلى عام 1990، عندما افتتحت سفارتا البلدين رسمياً في العاصمتين بكين والرياض. مع أن علاقات التعاون والتبادل التجاري بين البلدين بدأت قبل عقود. وعام 1979، وقّع أول اتفاق تجاري بينهما، واضعاً الأساس لعلاقات قوية مستمرة حتى يومنا هذا.

 

تُعدّ الصين اليوم الشريك التجاري الأكبر للمملكة العربية السعودية، وانعكست العلاقات المتنامية بين البلدين بشكل كبير على التعاون الاقتصادي والتجاري بينهما؛ إذ أسهمت في وصول حجم التبادل التجاري إلى أكثر من 100 مليار دولار أميركي في عام 2023. تستورد الصين النفط الخام من السعودية بشكل رئيسي، وتعدّ المملكة أكبر مورد للنفط إلى الصين، إذ تصدر ما يقرب من 1.7 مليون برميل يومياً. ولقد تجاوزت الاستثمارات الصينية في المملكة حاجز الـ55 مليار دولار. وبحسب تقرير لـ«edgemiddleeast»، ضخّت الصين 16.8 مليار دولار في المملكة في 2023 مقابل 1.5 مليار دولار ضختها خلال عام 2022، استناداً إلى بيانات بنك الإمارات دبي الوطني، وهي تغطي مشاريع في البنية التحتية والطاقة والصناعات البتروكيماوية. وفي المقابل، استثمرت المملكة في عدد من المشاريع داخل الصين، منها الاستثمارات في قطاعات التكنولوجيا والنقل. واستضافت الرياض أيضاً في شهر يونيو (حزيران) من هذا العام «مؤتمر الأعمال العربي الصيني» الذي استقطب أكثر من 3600 مشارك. وبعد أسبوعين فقط، أرسلت السعودية وفداً كبيراً بقيادة وزير الاقتصاد السعودي إلى مؤتمر «دافوس الصيفي» في الصين. وبالإضافة إلى هذا الزخم الحاصل، دعت الصين المملكة العربية السعودية كضيف شرف إلى «معرض لانتشو الصيني للاستثمار والتجارة» الذي أقيم من 7 إلى 10 يوليو (تموز) من هذا العام. وكانت وزارة الاستثمار السعودية حثّت الشركات على المشاركة بفاعلية في المعرض، والجناح السعودي المعنون «استثمر في السعودية». كذلك وقّعت السعودية والصين اتفاقيات متعددة لتعزيز التعاون في قطاع الطاقة، بما في ذلك مشاريع الطاقة المتجددة. وتسعى المملكة لتحقيق «رؤية 2030» التي تهدف إلى تقليص الاعتماد على النفط وتعزيز استخدام الطاقة المتجددة، في حين تسعى الصين إلى تأمين إمدادات الطاقة اللازمة لتنميتها الاقتصادية. وبالفعل، جرى أخيراً توقيع اتفاقية بين شركة «تي سي إل تشونغ هوان» لتكنولوجيا الطاقة المتجددة الصينية، وشركة توطين للطاقة المتجددة، وشركة «رؤية للصناعة» السعوديتين، لتأسيس شركة باستثمار مشترك، من شأنها دفع توطين إنتاج الرقائق الكهروضوئية في المملكة العربية السعودية. ووفقاً للاتفاقية، يبلغ إجمالي حجم الاستثمار في المشروع المشترك نحو 2.08 مليار دولار. التعاون السياسي والدبلوماسي تتعاون المملكة والصين على مستوى عالٍ في القضايا الدولية والإقليمية. وتستند العلاقات السياسية بين البلدين إلى احترام السيادة الوطنية والامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية. كذلك تتبادل الدولتان الدعم في المحافل الدولية، مثل الأمم المتحدة ومنظمة التعاون الإسلامي، ولقد لعبت الصين دوراً محوَرياً في الوساطة بين السعودية وإيران، ما أدى إلى تحقيق نوع من التوافق بين البلدين، أسهم في توطيد الاستقرار، وقلّل من حدة التوترات، وعزّز من الأمن الإقليمي. الزيارات الرسمية والقمم المعروف أنه في مارس (آذار) 2017، قام الملك سلمان بن عبد العزيز بزيارة رسمية للصين حيث التقى الرئيس الصيني شي جينبينغ. وخلال الزيارة، وُقّعت 14 اتفاقية ومذكرة تفاهم، تضمنت التعاون في مجالات الطاقة والاستثمارات والعلوم والتكنولوجيا. وفي وقت سابق، كان خادم الحرمين الشريفين الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز قد زار الصين رسمياً عام 2006، كانت تلك الزيارة بمثابة نقطة تحوّل في تعزيز العلاقات الثنائية، وشملت مباحثات مع القيادة الصينية وشهدت توقيع اتفاقيات عدة في مجالات الطاقة والتجارة والاستثمار. كما زار ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الصين في فبراير (شباط) 2019 كجزء من جولته الآسيوية. خلال هذه الزيارة، وقّعت 35 اتفاقية تعاون بين البلدين بقيمة تجاوزت 28 مليار دولار، وشملت مجالات النفط والطاقة المتجددة والبتروكيماويات والنقل. بعدها، في ديسمبر (كانون الأول) 2022، قام الرئيس الصيني شي جينبينغ بزيارة تاريخية إلى الرياض، حيث شارك في «قمة الرياض»، التي جمعت قادة دول مجلس التعاون الخليجي والصين. وتركّزت هذه القمة على تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية والأمنية بين الجانبين، وخلالها وقّع العديد من الاتفاقيات في مجالات الطاقة والبنية التحتية والتكنولوجيا. من الزيارات البارزة الأخرى، زيارة وزير الخارجية الصيني إلى السعودية في مارس (آذار) 2021، حيث نوقش التعاون في مكافحة جائحة «كوفيد 19» وتعزيز العلاقات الاقتصادية،