سطح «الترفيه» العميق

السعودية ستقتحم مجال استديوهات تطوير الألعاب فضلاً عن استضافتها للفعاليات العالمية  (الشرق الأوسط)
السعودية ستقتحم مجال استديوهات تطوير الألعاب فضلاً عن استضافتها للفعاليات العالمية (الشرق الأوسط)
TT

سطح «الترفيه» العميق

السعودية ستقتحم مجال استديوهات تطوير الألعاب فضلاً عن استضافتها للفعاليات العالمية  (الشرق الأوسط)
السعودية ستقتحم مجال استديوهات تطوير الألعاب فضلاً عن استضافتها للفعاليات العالمية (الشرق الأوسط)

الكتابة عن «الترفيه» متعة في حد ذاتها، خاصة أن عبقرية اللغة العربية تقود الأفكار بسلاسة.
المصدر «رفه» في معاجم اللغة، يشير إلى الإمتاع والتسلية واللعب والتنفيس والاستجمام والراحة والرفاهية، ويتجلى في العديد من الأنشطة التي يمارسها الإنسان – والجماعة - بكامل إرادته، في الزمان والمكان المناسبين، ويتحدى الملل والرتابة وضغوط الحياة؛ حتى يستعيد لياقته الذهنية والوجدانية والجسدية.
هذه المعاني والدلالات قلما نجدها «مجتمعة» في لغة أخرى غير لغة الضاد، التي تشير بوضوح إلى أننا كبشر نستحق «الترفيه»، أو قل: أن ننعم «بحق التمتع»، ومن ثم فإنها تأخذ «الترفيه» على محمل «الجد»، وهي أحدث صيحة في العالم اليوم.

(1)
ارتبط الترفيه باللعب منذ البداية، حيث ظهر تعبير «الإنسان اللاعب» في مقابل الإنسان العاقل، مع المؤرخ والفيلسوف الهولندي يوهان هويزنجا في دراساته المختلفة: اللعب هو «مركز» الحضارة، ويسبق الثقافة ويشكل أساسها، ولا يفارق الطفل داخلنا مهما تقدم بنا العمر، ففي اللعب تكمن حرية الإنسان وقدراته ومتعته أيضاً.
تتبع هويزنجا في كتابه «الإنسان اللاعب» – صدر عام 1949 - هذه الظاهرة بدءاً من أفلاطون وحتى أوائل العالم الحديث، بينما كشف نيتشه في كتابه «الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي»، أن هيرقليطس هو أول من ربط بين «اللعب» و«الفن» و«الترفيه» و«الحياة»، فقد فهم الوجود والعالم باعتباره ظاهرة جمالية محورها «اللعب»، وكما يلعب الطفل ويبدع أشكالاً من الرمال على شاطئ البحر، يلعب الرسام بالألوان والنحات مع الحجر.
أهمية هيرقليطس – كما يقول نيتشه – في كونه لم يسقط في شباك اللغة، على عكس من جاء بعده من الفلاسفة؛ لأنه قال في براءة ما رآه ببساطة: في «لعبة المصارعة اليونانية»، يكمن «سر» تفسير «الصراع» في الطبيعة، وفي لعبة الديمقراطية السياسية أيضاً.
هذه الشذرة العبقرية تعيش معنا إلى اليوم، ومن السهل أن نتعرف على «نظام الفكر» في أي عصر من العصور من خلال اللعب (الألعاب) الأكثر شيوعاً. وحديثاً كشف لنا بسكال بونيفاس عن الوشائج بين كرة القدم والعولمة، التي وحّدت الأذواق في العالم وحافظت في الوقت نفسه على الهويات الوطنية، فقد انتشرت في أركان العالم الأربع أكثر من شبكة الإنترنت، ناهيك عن أن قرارات منظمة «فيفا» أكثر احتراماً وإلزاماً للدول من قرارات هيئة الأمم المتحدة!

(2)
الألعاب الرقمية لا تقل جاذبية ومتعة عن الألعاب التقليدية. وخلال ثلاثة عقود اكتسبت أهمية متزايدة بفضل التطورات المذهلة للكومبيوتر الذي تفوق على الاختراعات الأخرى بالقدرة على معالجة أي شيء يمكن رقمنته، من الحروف والأرقام وحتى الأصوات والصور، وما يستجد.
وبفضل هذه الثورة الرقمية تغلغل الترفيه في كل مسام حياتنا تقريباً، من شبكات التواصل عبر الإنترنت إلى الملاهي ومن وسائل الإعلام والاتصال، إلى الميادين والشوارع والمتاجر (والمدن الحضارية الذكية) والمتنزهات العامة وقاعات الأفراح والفنادق والسفن العائمة العملاقة (كروز)، ناهيك عن أنه ألغى «الحدود» بين الفنون المختلفة والأعمال التي تشبه الفنون، والثقافة الشعبية والثقافة الرفيعة، وأزال الفوارق بين الواقع الأصلي والواقع الافتراضي، وصار «ساحة ألعاب كبيرة» محببة للناس، ناهيك عن أن الترفيه أصبح أهم «سلعة» جاذبة لأكبر عدد من المستهلكين حول العالم، استثمارات وأرباح بالمليارات سنوياً.
لقد أعاد بناء وظيفة الواقع نفسه، ووجدنا في فن «العمارة الترفيهية» على سبيل المثال، مكان واحد تتزاحم فيه: عجائب الدنيا السبع مع القلاع والقصور والكاتدرائيات والمساجد والمعابد (المنتشرة في دول العالم المختلفة).
وصارت الأماكن التي تجسد المستقبل وتلضم في خيط واحد ما هو تاريخي وفني، افتراضي وواقعي، ومادي وغير مادي، هي الأكثر إمتاعاً وجاذبية عند الجمهور.
أضف إلى ذلك، أن «المفاهيم الحديثة»، لا تمتحن مصداقيتها إلا عبر مجالات «الترفيه»، مثل، «الحوسبة في كل مكان» – إنترنت الأشياء، «الواقع المعزز» - اندماج الواقعي والافتراضي، و«الميتافيرس» كما صاغه نيل ستيفنسون في روايته الشهيرة «تحطم الثلج» عام 1992.

(3)
أحد المعاني الذهبية لكلمة «الترفيه»: «تجاوز» الروتين والرتابة والملل في الواقع الحقيقي؛ لذا سعى صناع الترفيه إلى توظيف نظام «ترانسميديوم» والألعاب الرقمية والواقع المعزز وغيره، ليس بغرض «تلطيف الواقع وتوسيع مجاله» فقط، وإنما من أجل الرغبة في تجربة «عوالم أخرى بديلة» غير «الحياة اليومية المعتادة» للفرد، بل والانغماس والتفاعل الإنساني الكامل مع هذه العوالم غير المسبوقة.
لم يعد الترفيه اليوم متعة سلبية يمارسها الإنسان عبر الفرجة خلف شاشة للعرض أو لوح زجاجي أو حتى في قاعة للمسرح أو السيرك فقط، وإنما ممارسة تفاعلية يشعر فيها بالمغامرة في الأجواء الطبيعية وربما «المخاطرة» مع انسحاب الجاذبية الأرضية تحت قدميه أو مقاومة جسده للضغط الجوي، سواء في الفضاء الخارجي أو في أعماق المحيطات.
إنها حالة مغايرة وواقع مختلف يتماهى فيه ما هو حقيقي وما هو افتراضي؛ ما جعل من الترفيه المعاصر (يوتوبيا رقمية – وربما ما بعد رقمية - لم تعهدها الحداثة).
فقد أدى انحصار اليوتوبيا في أماكن خيالية لا يمكن وطئها بالأقدام، وإخفاقها في الوقت نفسه عن أن تتحقق «هنا» و«الآن»، إلى وصول اليوتوبيا التي شيدتها «الحداثة» إلى نهايتها.
وصار الترفيه أشبه بـ«حصان طروادة» المستقبل، وأعاد «اختراع مفهوم الجغرافيا» وهو «حدث» في حد ذاته، لا يقل أهمية عن الكشوف الجغرافية قبل أكثر من 500 سنة.
التطور «ما بعد الحداثي» يعني أننا تجاوزنا «الأماكن الواقعية» الخالصة، وأصبحنا نعيش ما يسميه ديفيد تشالمرز «الواقع» وهو عنوان كتابه الجديد 2022.
في المقابل، ظهرت – بالتزامن والتوازي - انتقادات عديدة لهذا الدمج بين «ما هو واقعي» و«ما هو افتراضي»، من قبل فلاسفة كبار، مثل امبرتو إيكو الذي رأى أن هذه «الواقعية المفرطة»، حسب تعبيره - ستكون «أكثر واقعية من الواقع» وهي «الزيف المطلق».
ووصف جان بودريار ما نحياه بـ«المحاكاة» و«السيمولاكر»، حيث لم يعد هناك أي واقع حقيقي، وإنما «ديستوبيا» (على العكس تماماً من «اليوتوبيا» التي يعدنا بها البعض).
الطريف، أن هذه الانتقادات وغيرها مع ميشيل فوكو وآلان تورين وفريدريك جيمسون وكتيبة الماركسيين لم تنصب على الترفيه أو المتعة في حد ذاتها، وإنما نظرت إلى ما حدث ويحدث، من زاوية العناصر الرأسمالية والليبرالية الجديدة والنزعة الاستهلاكية لا من زاوية «الحتمية التكنولوجية».

(4)
«تعزيز الوعي الإنساني» ونشر النموذج الغربي وتعميمه من خلال «الترفيه»، تسبب أيضاً في «قلق» بعض الدول، لا سيما أن العالم يزداد ترابطاً وانكماشاً في آن معاً، وبات النقل الثقافي الأفقي، أشبه بالفيروس أو «العدوى»، التي تنتشر في لحظة عبر الميديا والإنترنت!
بعض الدول قامت بعملية «فرز» لمجالات الترفيه مثل سنغافورة، حيث قام فريق من الباحثين بمحاولة دمج «الترفيه» والفلسفة، عبر تصميم فلاسفة افتراضيين تفاعليين**؛ ما جعل نصوص الفلسفة التقليدية أكثر ملاءمة للإنسان المعاصر الذي يمتلك مستوى أعلى من المعرفة الرقمية. وأدى التفاعل المباشر بين الجمهور والفلاسفة عبر العصور، باستخدام تقنية الذكاء الصناعي والهاتف المحمول، إلى ازاحة صعوبة الفلسفة لتصبح نشاطاً ترفيهياً ممتعاً. اللافت في هذه المحاولة: أن الفلسفة ليست مثل الفيزياء أو الرياضيات، تملك إجابات محددة ودقيقة لكل تساؤلات المستخدمين، وهنا تجلت براعة الفريق السنغافوري.
على النقيض، أثار انتشار «تلفزيون الواقع» ومحتواه الليبرالي الغربي في الصين منذ عام 2015 - أعلى نسب مشاهدة حالياً - مخاوف السلطات؛ نظراً لتعارض ما يقدمه، سواء في الشكل أو المضمون مع التقاليد الشرقية وقيم النظام الاشتراكي. لذا؛ خضعت منصات «الترفيه» الصينية للرقابة بالتزامن مع تنامي النزعة القومية داخل المجتمع الصيني.
على الضفة الأخرى، نشط بعض الباحثين في الغرب لرصد وقياس مدى تأثير «المحتوى الليبرالي» على علاقات القوى في الوضعين السياسي والاجتماعي الصينيَين، من خلال تحليل: التفاعلات والانفعالات والمشاعر بين الجمهور والمتسابقين والمشاهير.
لقد جرت مياه كثيرة ما بين رواية نيل ستيفنسون «تحطم الثلج» عام 1992، وكتاب ديفيد تشالمرز «الواقع» عام 2022، وأصبح التنافس والصراع على أشده في تطوير مجالات الترفيه - لا سيما تطبيقات «ميتافيرس» - بين شركات التكنولوجيا الرقمية في العالم.
لم تعد «الأفكار» قاصرة على المتعة داخل كوكب الأرض، وإنما امتدت إلى الكواكب الأخرى التي يمكن أن تصل الحياة إليها، فهل يقودنا «الترفيه» إلى مغامرة يوتوبية كونية جديدة؟

* باحث مصري
**https://dl.ifip.org/db/conf/iwec/icec2012/WangTSIN12.pdf



فشل القوة وثلاثة إخفاقات عالمية

سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
TT

فشل القوة وثلاثة إخفاقات عالمية

سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)
سقوط جدار برلين كَسر القواعد التي كانت تنظّم التنافس بين القوى القديمة (غيتي)

لعلّه من المغري لكل جيل أن يظن أنه يعيش تغيّراً حادّاً، وأنه يقف عند نقطة تحول في تاريخ البشرية. ومع ذلك، فإن قول ذلك اليوم هو بالتأكيد أكثر صحة من أي وقت مضى. والدليل -لا جدال فيه- أن أبناء جيلي (جيل طفرة المواليد) في فترة ما بعد الحرب العالمية يعيشون تجربة غير عادية؛ لقد وُلدوا في عالم واحد، بين الدول الأوروبية والأميركية، وسوف يختفون في عالم آخر، معولم، لا مركزي، ومن دون أي حدود مكانية.

في لغة العلاقات الدولية يعني ذلك تحولاً وحشياً وانتقالاً غير منضبط من نظام مشترك بين الدول ومهيمن، عمره نحو 4 قرون، إلى عولمة متكاملة لم يعد لها مركز، ولا قيادة واضحة أو حاسمة، التي تتشكّل من خلال عدد من الجهات الفاعلة التي تخضع لأوضاع مختلفة (سياسية، واقتصادية، ودينية... إلخ) وقبل كل شيء من خلال التواصل المعمم.

من السهل تخمين العوامل التي تقف وراء هذا التمزق. إنها بالتأكيد مسألة التقدم التكنولوجي الذي ألغى المسافات، وزاد بشكل خيالي من التبادلات، ورؤية الجميع للجميع، مثل الأحداث الكبرى، بطرق لم يكن من الممكن تصوّرها في العالم من قبل.

تحوّل جدار برلين إلى رمز لانقسام أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية إلى مجالَيْن سوفياتي وغربي (أ.ف.ب)

يُضاف إلى ذلك مزيد من الأسباب السياسية: إنهاء الاستعمار شبه الكامل الذي شهد ولادة الجنوب العالمي، بدءاً من الانتصار المنهجي للضعفاء على الأقوياء، وسقوط جدار برلين، الذي كَسر القواعد التي تنظّم التنافس بين القوى القديمة، لقد تم إضفاء الطابع الرسمي عليها في أعقاب عام 1945، وكان البناء التجريبي للعولمة أكثر تعقيداً بكثير من مجرد ازدهار الليبرالية الجديدة التي كانت تُشير بسذاجة إلى «نهاية التاريخ». وتحقيق الهيمنة الأميركية، ولكنه أكثر إثارة للجدل من أي وقت مضى.

لفترة طويلة، لم نرغب في رؤية الآثار الهائلة لمثل هذه الطفرات. كان انتصار المعسكر الغربي على المعسكر السوفياتي بمثابة نهاية للثنائية القطبية، من خلال خلق وهم السلام الأميركي الذي حافظ حتى على وهم نهاية التاريخ وانتصار النموذج الغربي.

تم الحفاظ على الـ«ناتو»؛ حيث كان يعتقد أنه لا ينبغي المساس بالفريق الفائز. وكانت خيبة الأمل قوية: فقد هُزمت الولايات المتحدة في الصومال، والعراق، ثم في أفغانستان، وسرعان ما ظهرت الصين باعتبارها المستفيد الأكبر من العولمة التي كانت تُحرر نفسها من المجال الأميركي. كان هذا الإحباط الشديد هو السبب وراء التراجع الترمبي والقومي والهويتي والحمائي، الذي سرعان ما سيطر على أوروبا، التي كان عليها أن تعاني من النكسات التي جلبها العالم الجديد، خصوصاً في أفريقيا.

هذا في الواقع خرق يُبطل القواعد القديمة، ولكنه أيضاً يُبطل ممارسات ورؤى وحتى مفاهيم «جغرافيتنا السياسية» القديمة: لن يتعافى حتى تصبح اللعبة العالمية الجديدة، المكونة من الاعتماد المتبادل والتنقل والديناميكيات الاجتماعية، أكثر كفاءة بشكل لا نهائي.

ثلاثة إخفاقات

من استراتيجيات القوة القديمة هو كتابة تاريخ جديد. أولئك الذين يعرفون كيفية القيام بذلك سوف يفوزون، أما الآخرون، الراسخون في حنينهم، فسيخاطرون بأن يجدوا أنفسهم معزولين ومهمشين بشكل تدريجي. وهكذا شهدت العقود الأولى من هذه الألفية الجديدة ثلاثة إخفاقات على الأقل: إخفاق القوة الكلاسيكية، وإخفاق التحالفات التقليدية، وإخفاق التراجع الوطني. الأمر متروك للجميع لاستخلاص العواقب.

إن فشل القوة يُشير إلى تقادم الاستراتيجية التي استلهمها كلوزفيتز، فلم تعد الحرب قادرة على حل المشكلات التي تخلّت عنها السياسة في السابق، وذلك بسبب افتقارها إلى الفاعلية التي كانت تنسب إليها بالأمس. لم تعد هناك حرب تحمل هذه «المعركة الحاسمة»، التي أشار إليها الاستراتيجي البروسي، التي حدّدت الفائز بوضوح.

وبعيداً عن كونها علامة القوة، فإن الحرب اليوم ترتدي ثياب الضعف: حرب الأقوياء، الذين أصبحوا عاجزين في الصراعات الأفريقية والآسيوية والأوروبية اليوم، حرب الأطراف الذين يذهبون في أغلب الأحيان إلى الصراع، ولم يعودوا في صراعات. باسم السلطة، ولكن تحت تأثير التحلل المؤسسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي. لهذه الأسباب تتتابع اتفاقات السلام، ولكن بقدر متزايد من عدم الفاعلية، في حين تستنزف القوى الإقليمية والعالمية نفسها دون أن تكسب شيئاً.

أدى إنهاء الاستعمار إلى تعزيز الاستقلال الاستراتيجي للدول (أ.ب)

إن عجز القوة، المرتبط بالعولمة القائمة على الاعتماد المتبادل والشمول المعمم، لا يدمّر فكرة الهيمنة القديمة فحسب، بل أيضاً فكرة التحالف أو الكتلة أو المعسكر. لقد أدى إنهاء الاستعمار، والفرص التي أتاحها مؤتمر باندونغ، ثم سقوط جدار برلين، إلى تعزيز الاستقلال الاستراتيجي للدول، التي أدركت تدريجياً أن التأثيرات غير المتوقعة كانت أكثر ربحية بكثير من التحالفات المبرمجة مسبقاً. وعلى هذا، فإن العالم القائم على تحالفات تواجه بعضها بعضاً قد نجح في عالم مجزّأ ومرن؛ حيث أصبحت «التحالفات المتعددة» أو الشراكات المرنة والمتغيرة هي القانون الآن. ويجد العالم الغربي نفسه معزولاً، وهو محاصر في حصن حلف شمال الأطلسي (ناتو)، ينضح بجو من الثقة بالنفس يُحافظ على عدم الثقة بأولئك الذين هم خارجه، خصوصاً في الجنوب العالمي.

هناك إغراء كبير لتصفية الحسابات، بإحياء القومية والسيادة والانغلاق على الذات، وغالباً ما يذهب الأمر إلى حدّ الدلالات العنصرية، أو على أي حال هرمية. ومع ذلك، فإن هذا الموقف لا يسفر عن شيء؛ كما قال الفيلسوف تزفيتان تودوروف: «ليس لدى القوميين ما يبيعونه». وهذا التأكيد واضح في عالم تحكمه العولمة؛ حيث يتعيّن علينا أن نتعلّم كيف نعيش في نظام دولي يتسم بالتبادل. وتخاطر الشعبوية الوطنية بتعزيز قوتها تحت تأثير الخوف، في حين تظل عالقة في موقف احتجاجي حصري. إنها علامة من علامات زمن التحولات؛ حيث يبدو خيار الاحتجاج أفضل من تحمُّل مسؤولية الحكم.

* خبير فرنسي في العلاقات الدولية