كورسيهات تشد الخصر بصرامة لتحدده، كعوب عالية وفساتين فخمة. هذه هي الصورة التي طالعتنا بها دار «ديور» في حدائق التويلريز خلال أسبوع باريس الأخير لربيع وصيف 2023. كل شيء كان جديداً من اختيار المكان إلى التصاميم نفسها. عوض متحف «لو رودان» الذي ظل مسرحاً لعروضها لسنوات، إن لم نقل عقوداً، اختيرت حدائق التويلريز القريبة من قصر بنفس الاسم تم إحراقه في ثورة 1871. وعوض الرسائل التي تحتفل بتحرر أو تحرير المرأة ظهرت أزياء تعود بها إلى قرون مضت، أو على الأقل هذا ما أوحت به للوهلة الأولى. فمع أول إطلالة خرجت بها العارضة بدأت التساؤلات وسط دهشة عارمة.
التجديد بالنسبة للمصممة ماريا غراتزيا يمكن أن يولد من رحم الماضي والتقاليد الحرفية
فكيف لمصممة رفعت منذ دخولها الدار الفرنسية شعارات تحتفل بالحركات النسوية المطالبة بتحريرها من كل القيود تركز فيما يشبه الاحتفال بالكورسيهات والكعوب العالية جداً؟. فهي بهذا تنسف ما استغرق المرأة عموماً، وغابرييل شانيل خصوصاً قرناً للتخلص من هذه القطع المقيّدة للحركة؟. يأتي الجواب على لسان ماريا غراتزيا مختلفاً ومُطمئناً في الوقت ذاته. تقول إن هذه الأزياء تعزز قوة المرأة وليس العكس، مستشهدة بالإمبراطورة كاثرين ديميتشي التي كانت مُلهمة هذه التشكيلة. كانت أقوى امرأة في فرنسا في القرن الـ16. بحيث أثرت على عصرها في مجالات كثيرة تتعدى الأناقة إلى رعاية الفنون بأشكالها. العكوب العالية كانت من بنات أفكارها. هي من طالبت بتصميمها خصيصاً لها لكي تبدو أطول. من ناحية تقف شامخة أمام رجال الدولة، ومن ناحية أخرى تُموِه عن قصر قامتها. الأزياء الفخمة التي تُبرز تضاريس الجسد الأنثوية، كانت أيضاً بتحريض منها. استعملتها ضمن الأسلحة الناعمة لتعزيز مكانتها وسطوتها. تقول ماريا غراتزيا: «كانت امرأة تفهم جيداً قوة تأثير الموضة واستعملتها بذكاء لبسط قوتها في البلاط الفرنسي». حتى اللون الأسود الذي غلب على التشكيلة كان لفتة إلى تميزها. قبل الملكة فيكتوريا بزمن طويل، استعملته للتميز عن باقي نساء عصرها، لأن الأزياء المصبوغة بالأسود آنذاك، كانت غالية وغير متاحة لأي كان. مظهرها المتفرد منحها هيبة وثقة بالنفس حسب تأكيد تشيوري.
حتى اللون الأسود الذي حضر في التشكيلة كان مستلهماً من رغبة كاثرين ديميتشي في التميّز
قصة ماريا غراتزيا تشيوري مع نساء أثرن على حياتنا بتفردهن وقوتهن ليست جديدة. فمنذ أن دخلت دار «ديور» كأول امرأة تتولى إدارة التصميم فيها، وهي تحاول أن تبتكر فكرة أو تخلق صورة تضمن للدار مكانة تليق باسمها وتاريخها. هذه النزعة ظهرت بقوة في عام 2017 عندما افتتحت عرضها بـ«تي - شيرت» كُتب عليه «لماذا لا تكن هناك فنانات عظيمات؟»، سؤال اقتبسته من مقال نشرته المؤرخة الأميركية ليندا نوخلين في عام 1971 وجعل المصممة تطرح السؤال نفسه في معظم عروضها. أصبح شعاراً تستخدمه لتسليط الضوء على قضايا نسوية وإنسانية وفنية كثيرة. كان أيضاً بداية تعاون مستمر مع فنانات متخصصات في مجالات متنوعة. تتعاون معهن حيناً لتجديد حقائب يد، وحيناً لتطريز تشكيلة معينة وما شابه. لم يختلف هذا الموسم عن غيره. فقد تعاونت مع الفنانة إيفا جوسبين، وهي نحاتة تستعمل الورق المُقوى، الكرتون، لتشكيل أعمالها، في تصميم المغارة التي كانت مركز جذب تُطل منه العارضات على الحضور. في هذه المغارة جمعت الفنانة بين النحت والهندسة المعمارية بتكديس طبقات من الورق، حتى يأتي العمل بصورة ثلاثية الأبعاد، تعكس زخرفات باروكية تناسب فكرة العرض وتعكس شغف المصممة بكل ما له علاقة بعصر النهضة من فنون.