جان إيف لودريان وزير دفاع سعيد

لا يحب الأضواء وتغلب عليه نزعة التكتم والتواضع.. وحقق ما لم يحققه سابقوه في هذا المنصب

جان إيف لودريان  وزير دفاع سعيد
TT

جان إيف لودريان وزير دفاع سعيد

جان إيف لودريان  وزير دفاع سعيد

قد يكون من الصعب العثور على مسؤول حكومي رفيع المستوى في فرنسا ينعم بالسعادة بدءا برئيس الجمهورية فرنسوا هولاند ورئيس الحكومة مانويل فالس إذ إن الأول حطم الأرقام القياسية في انعدام الشعبية بينما الثاني ما زال يجرجر وراءه تبعات «الغلطة» السياسية التي ارتكبها مؤخرا.

فقد استخدم فالس طائرة حكومية من طراز فالكون للانتقال ذهابا وإيابا في التاسع من يونيو (حزيران) من مدينة بواتيه (وسط) إلى مدينة برلين وبالعكس لحضور مباراة كرة القدم لنادي برشلونة، المدينة التي ولد وترعرع فيها رئيس الحكومة الفرنسية. وما فاقم من صدى الغلطة أن فالس اصطحب ابنيه لرؤية المباراة، وبالنظر إلى الضجة التي أثارتها هذه الرحلة في زمن التقشف العمومي، فإن فالس اضطر ليدفع من جيبه قيمة بطاقتي السفر لابنيه ما لم يحل دون تدهور شعبيته إلى مستويات لم يعرفها سابقا.
ووضع الوزراء ليس أفضل حالا. فما بين وزير داخلية يتخبط في تبرير العجز عن وضع حد للاعتداءات الإرهابية المتكررة على الأراضي الفرنسية ووزيري الاقتصاد والعمل اللذين استنفذا كل التبريرات «المقنعة» لتفسير استمرار ارتفاع وتيرة البطالة وتأخر تحقيق الوعود الانتخابية التي أغدقت على الفرنسيين، ناهيك بوزير للمالية غارق في الأزمة اليونانية، كل ذلك يرسم صورة سريعة لمعنويات الوزراء الأساسيين في الحكومة الفرنسية. لكن وسط هذا المشهد السوداوي، تبرز صورة وزير لا يحب الأضواء وتغلب عليه نزعة التكتم والتواضع. ومع ذلك، هو وزير سعيد. ومبرر سعادته أنه حقق ما لم يحققه سابقوه في هذا المنصب ولأنه يعتبر أن إنجازاته لا تساعد فقط على تعزيز صورة بلاده وحضورها في الخارج بل تساهم كذلك في دعم الاقتصاد الوطني والتجارة الخارجية وخلق فرص عمل وتمكين الصناعات الدفاعية في بلاده من التنافس في الأسواق الخارجية. إنه وزير الدفاع جان إيف لودريان الذي بان الارتياح عليه وهو يتنقل بين أجنحة معرض باريس للطيران ويتوقف طويلا في الجناح المخصص لشركة داسو للصناعات الجوية.

وزير الدفاع الفرنسي رجل سعيد

خلال السنوات الثلاث التي أمضاها لودريان في وزارة الدفاع أتيحت الفرصة لـ«الشرق الأوسط»، أن تعايشه عن قرب خصوصا في بعض الرحلات التي يقوم بها بشكل شبه دوري إلى منطقة الخليج. والكثير من هذه الزيارات كان سريعا ويتم بعيدا عن الأضواء الإعلامية. ذلك أن الرجل ذا الأصول الاجتماعية المتواضعة للغاية يحب العمل بصمت ويكره التصريحات الرنانة التي تتردد أصداؤها في الفراغ. وأثبت ذلك بأنه نجح في إعادة فرنسا إلى مصاف اللاعبين الأساسيين في المبيعات الدفاعية. ولعل أبرز نجاحات لودريان هو تحقيق أولى الإنجازات الخارجية لطائرة رافال الفرنسية المقاتلة التي لم تجد بعد ما يزيد على عشرين عاما على إطلاق برنامجها زبونا خارجيا. والحال، أن عام 2015 حمل للشركة المصنعة «شركة داسو للصناعات الجوية» المن والسلوى مع توقيع ثلاثة عقود في زمن قياسي؛ حيث كانت الفاتحة مع مصر ثم جاء دور الهند وأخيرا قطر. ويبدو أن المفاوضات مع الإمارات العربية المتحدة تسير في الاتجاه السليم ولا تستبعد الأوساط الدفاعية الفرنسية أن يتم الإعلان عن عقد جديد «في الأسابيع المقبلة».
كثيرون يتساءلون عن «سر» نجاح لودريان حيث فشل الآخرون. وكثيرون يرون أنه مهيأ لوظائف أخرى مع نهاية العام الحالي؛ إذ إن اسمه مطروح في دوائر القرار وزيرا للخارجية خلفا للوزير الحالي لوران فابيوس الذي يبدو أنه سيترك الخارجية للالتحاق بالمجلس الدستوري رئيسا. لكن آخرين يرون العكس ويؤكدون أن لودريان يرنو إلى العودة إلى ما كان يقوم بع في السابق أي العمل المحلي في مقاطعة بروتاني (غرب فرنسا) التي يتحدر منها. لكن الأكيد أن لودريان سيستجيب لما يطلبه منه الرئيس هولاند وهو الوزير الأقرب إليه من بين كافة وزرائه. وفيما المناخ السياسي العام في فرنسا يدفع إلى الاعتقاد بأن حظوظ هولاند للترشح لولاية جديدة والفوز بها ستكون ضعيفة للغاية بالنظر لشعبيته المتدنية وصعوبة الأوضاع الاقتصادية وغياب النتائج الملموسة للعمل الحكومي على جبهة البطالة، فإن لودريان يرى العكس ويؤكد أن الرئيس الحالي سيكون أفضل مرشح لليسار في الانتخابات الرئاسية القادمة التي ستجرى ربيع عام 2017.
يعود أول لقاء بين لودريان وهولاند لعام 1979. ومنذ 36 عاما، لم يبتعد الأول قيد أنملة عن الثاني. وعندما أعلن هولاند عن عزمه خوض الانتخابات الداخلية للحزب الاشتراكي لتعيين مرشح الحزب للانتخابات الرئاسية ومواجهة الرئيس ساركوزي الراغب في ولاية جديدة، كان لودريان من أوائل المسؤولين الاشتراكيين الذين أعلنوا تأييدهم لهولاند. وقبل ذلك بخمس سنوات، وقف لودريان إلى جانب سيغولين رويال، رفيقة درب هولاند ووزيرة البيئة في الحكومة الحالية ودعمها في مواجهة مسؤولين من «الوزن الثقيل» في الحزب الاشتراكي وهما وزير الخارجية الحالي فابيوس ومدير صندوق النقد الدولي والوزير السابق دومينيك شتروس خان الذي أخرجته فضائحه الجنسية من ميدان السباق السياسي. ويبين كل ذلك ولاء سياسيا مطلقا لهولاند الذي كلفه بالشق الدفاعي والعسكري خلال حملته الرئاسية. ولهذا الغرض، عمد لودريان الذي كان عضوا في لجنة الدفاع في مجلس النواب الفرنسي ومهتما منذ زمن بعيد بالشؤون العسكرية والتسليح إلى تشكيل «مجموعة عمل» حضرت الجانب الدفاعي في برنامج المرشح الاشتراكي الأمر الذي أهله بطبيعة الحال ليكون وزيرا للدفاع منذ حكومة هولاند الأولى. وبقي في منصبه في الحكومات المتتالية. وبما أن الرئيس الفرنسي بحسب دستور الجمهورية الخامسة هو القائد الأعلى للجيوش الفرنسية وهو حامل حقيبة السلاح النووي، فإنه بحاجة إلى وزير دفاع مقرب منه ويستطيع الاعتماد على ولائه المطلق. وبالطبع، هذه الصفات تنطبق كلها على لودريان.
عندما يقال في فرنسا إن «مدرسة الجمهورية» هي بمثابة «المصعد» الذي يوفر لجميع المتمتعين بالكفاءة وسائل النجاح والتحليق، فإن هذا الحكم ينطبق بشكل كامل على جان إيف لودريان المولود في عائلة متواضعة (والده كان تاجر قطع سيارات وأمه عاملة في مصنع للخياطة) في الثلاثين من يونيو عام 1947 في مدينة لوريان، الواقعة على المحيط الأطلسي غرب فرنسا والتي يبلغ تعداد سكانها نحو ستين ألف نسمة تزداد أعداهم كثيرا في موسم الصيف. ولوريان معروفة بأحواضها لصناعة البوارج الحربية بما فيها الغواصات والسفن التجارية. وقد عرفت هذه الصناعات أزمات متلاحقة بسبب تراجع دفتر الطلبيات الخارجية وتناقص الميزاينة الدفاعية في الداخل. وبما أن لودريان شغل منصب رئيس بلدية لوريان بلا انقطاع من عام 1981 إلى عام 1998، فإنه يعرف تماما أهمية أن تكون للصناعات الحربية الفرنسية على أنواعها أبواب للأسواق الخارجية الأمر الذي أفاده، بلا أدني شك، في مهمته وزيرا للدفاع في حكومة اشتراكية لا تجد غضاضة في التسويق للأسلحة الفرنسية في الشرق الأوسط والهند وباكستان وأفريقيا وأماكن أخرى في العالم. ومن الواضح أن «النظرية الاشتراكية» لحقها الكثير من التغير منذ وصول أول رئيس اشتراكي إلى قصر الإليزيه (فرنسوا ميتران) في عام 1981. ويروى أن ميتران طلب من معاونيه، لدى أول زيارة قام بها لمعرض الطيران في لوبورجيه ألا تعرض أسلحة خلال زيارته للمعرض.
قبل أن «يصعد» لودريان إلى باريس ويحتل أول مركز وزاري في عام 1991، كان اسمه قد برز في لوريان ومقاطعة بروتاني على صعيد الحزب الاشتراكي واليسار بشكل عام. لودريان انضم إلى هذا الحزب في عام 1974 بعد أن استمع لخطاب ناري لأمينه العام فرنسوا ميتران. وفي سن الثلاثين انتخب نائبا عن مدينة لوريان التي أصبح رئيسا لبلديتها في عام 1981. ونجح في الاحتفاظ بمنصبه النيابي 13 سنة متواصلة. وبعد ذلك رأس مجلس مقاطعة بروتاني وكان أول سياسي اشتراكي يحتل هذا الموقع الاستراتيجي على الصعيدين السياسي والانتخابي.
يروي لودريان أن الرئيس ساركوزي اتصل به عقب انتخابه في عام 2007 وعرض عليه، في إطار سياسة الانفتاح على اليسار التي اتبعها، أن يعينه وزيرا للدفاع في أولى حكوماته. لكن الوزير الحالي رفض العرض. وبعد خمس سنوات، تسلم هذه الحقيبة من «صديقه» فرنسوا هولاند ليجد الكثير من الملفات بانتظاره.
تكمن مشكلة أي وزير دفاع في فرنسا في قدرته على أن يكون مسموع الصوت لدى رئيس الجمهورية ووزير المالية، خصوصا في زمن ضغط النفقات وخفض الميزانيات الدفاعية. ومنذ احتلاله مكتبه القائم فيما يسمى «هوتيل دو بريين» الواقع في شارع سان دومينيك في الدائرة السابعة من باريس، وجد لودريان أمامه ملفات ساخنة أولها تحقيق انسحاب القوات الفرنسية من أفغانستان قبل نهاية عام 2012 مستبقا بذلك مواعيد انسحاب قوات الحلف الأطلسي والقوات الحليفة الأخرى. وعلى المستوى الداخلي، كان عليه أن يتنكب لإصدار «الكتاب الأبيض» الجديد الخاص بالنظرية الدفاعية الفرنسية وأهداف العمل العسكري ثم قانون البرمجة العسكرية للفترة الممتدة من عام 2014 إلى عام 2019. ومما كان عليه أن يتولى إدارته التدخل العسكري الفرنسي في مالي بداية عام 2013 ثم التدخل العسكري الفرنسي في أفريقيا الوسطى نهاية العام نفسه. وما بين التاريخين، طلب من لو دريان أن يحضر القوات الجوية الفرنسية للقيام بعمليات عسكرية ضد قوات النظام السوري عقب استخدامها الأسلحة الكيماوية في شهر أغسطس (آب) في الغوطتين الشرقية والغربية الأمر الذي أسفر عن مقتل 1400 شخص. لكن تراجع الولايات المتحدة الأميركية والرئيس أوباما في اللحظات الأخيرة ألغى التحضيرات الفرنسية. كذلك كان لودريان مهندس عملية إعادة انتشار القوات الفرنسية وتموضعها في أفريقيا وتوجيهها لمحاربة المنظمات الإرهابية فيما يسمى بلدان الساحل ثم إرسال الطائرات الفرنسية للمشاركة في التحالف الدولي الذي ظهر في شهر سبتمبر (أيلول) من العام الماضي لضرب تنظيم داعش. لكن عمل الطائرات الفرنسية بقي محصورا في الأهداف العراقية.
في هذه المهمات الصعبة، أصاب لودريان النجاح كما تمكن من إقناع الرئيس هولاند بالمحافظة على ميزانية القوات المسلحة الفرنسية التي تكاثرت مهامها بما فيها نشر نحو عشرة آلاف جندي في إطار عمليات مكافحة الإرهاب داخل الأراضي الفرنسية. بموازاة ذلك، عمد لودريان لدفع المبيعات الدفاعية الفرنسية إلى الأمام. وبحسب الأرقام التي تم الكشف عنها، فإن قيمة الطلبات المؤكدة التي حصلت عليها فرنسا لعام 2014 بلغت 8.2 مليار يورو ما يمثل ارتفاعا نسبته 16 في المائة قياسا بعام 2013 الذي كان بدوره قد شهد ارتفاعا بنسبة 43 في المائة. أما بالنسبة للعام الحالي، فإن دفتر الطلبات يسجل أرقاما نادرا ما عرفتها الصناعات الدفاعية الفرنسية بفضل ثلاثة عقود رئيسية لتصدير طائرات رافال المقاتلة: 24 طائرة وفرقاطة حديثة لمصر، 36 طائرة رافال للهند و24 طائرة لقطر فضلا عن مبيعات دفاعية للبنان بقيمة 3 مليارات دولار هي قيمة الهبة السعودية للبنان ليشتري بها أسلحة فرنسية.
لماذا نجح هولاند ولودريان حيث أخفق الآخرون؟ الأسباب كثيرة، منها على علاقة بـ«المنهج» الذي اختطه الرجلان البعيد كل البعد عن الإعلانات المتسرعة والقائم على توفير أرضية سياسية للبناء عليها في مجال المبيعات الدفاعية. وفي هذا السياق، لا شك أن سياسة باريس إزاء الملفات الإيرانية والسورية واليمنية والحرب على الإرهاب كان لها دور في «تسهيل» حصولها على عقود دفاعية لا تنحصر فقط بالرافال. وبذلك تكون باريس قد استفادت من «تراجع» الدور الأميركي وسعي دول الخليج لتوفير شركاء آخرين. ومن الأسباب أيضا أن هولاند ولودريان وزعا المهمات حيث الجانب السياسي تتولاه الحكومة (وزارة الدفاع) فيما الجانب الإجرائي والفني يعود التفاوض بشأنه للشركات المعنية. وبعد أن كان ساركوزي قد أنشأ في قصر الإليزيه خلية مسماة «war room» مهمتها الاهتمام بالمبيعات الدفاعية، أرجع هولاند الصلاحيات إلى المستوى الحكومي ولكن من غير تخليه عن متابعتها. ثم إن لودريان اعتمد طريقة بناء الثقة مع نظرائه والطريق إلى ذلك القيام بزيارات متلاحقة والعودة إلى الملف عينه كلما حانت الفرص.



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.