جان إيف لودريان وزير دفاع سعيد

لا يحب الأضواء وتغلب عليه نزعة التكتم والتواضع.. وحقق ما لم يحققه سابقوه في هذا المنصب

جان إيف لودريان  وزير دفاع سعيد
TT

جان إيف لودريان وزير دفاع سعيد

جان إيف لودريان  وزير دفاع سعيد

قد يكون من الصعب العثور على مسؤول حكومي رفيع المستوى في فرنسا ينعم بالسعادة بدءا برئيس الجمهورية فرنسوا هولاند ورئيس الحكومة مانويل فالس إذ إن الأول حطم الأرقام القياسية في انعدام الشعبية بينما الثاني ما زال يجرجر وراءه تبعات «الغلطة» السياسية التي ارتكبها مؤخرا.

فقد استخدم فالس طائرة حكومية من طراز فالكون للانتقال ذهابا وإيابا في التاسع من يونيو (حزيران) من مدينة بواتيه (وسط) إلى مدينة برلين وبالعكس لحضور مباراة كرة القدم لنادي برشلونة، المدينة التي ولد وترعرع فيها رئيس الحكومة الفرنسية. وما فاقم من صدى الغلطة أن فالس اصطحب ابنيه لرؤية المباراة، وبالنظر إلى الضجة التي أثارتها هذه الرحلة في زمن التقشف العمومي، فإن فالس اضطر ليدفع من جيبه قيمة بطاقتي السفر لابنيه ما لم يحل دون تدهور شعبيته إلى مستويات لم يعرفها سابقا.
ووضع الوزراء ليس أفضل حالا. فما بين وزير داخلية يتخبط في تبرير العجز عن وضع حد للاعتداءات الإرهابية المتكررة على الأراضي الفرنسية ووزيري الاقتصاد والعمل اللذين استنفذا كل التبريرات «المقنعة» لتفسير استمرار ارتفاع وتيرة البطالة وتأخر تحقيق الوعود الانتخابية التي أغدقت على الفرنسيين، ناهيك بوزير للمالية غارق في الأزمة اليونانية، كل ذلك يرسم صورة سريعة لمعنويات الوزراء الأساسيين في الحكومة الفرنسية. لكن وسط هذا المشهد السوداوي، تبرز صورة وزير لا يحب الأضواء وتغلب عليه نزعة التكتم والتواضع. ومع ذلك، هو وزير سعيد. ومبرر سعادته أنه حقق ما لم يحققه سابقوه في هذا المنصب ولأنه يعتبر أن إنجازاته لا تساعد فقط على تعزيز صورة بلاده وحضورها في الخارج بل تساهم كذلك في دعم الاقتصاد الوطني والتجارة الخارجية وخلق فرص عمل وتمكين الصناعات الدفاعية في بلاده من التنافس في الأسواق الخارجية. إنه وزير الدفاع جان إيف لودريان الذي بان الارتياح عليه وهو يتنقل بين أجنحة معرض باريس للطيران ويتوقف طويلا في الجناح المخصص لشركة داسو للصناعات الجوية.

وزير الدفاع الفرنسي رجل سعيد

خلال السنوات الثلاث التي أمضاها لودريان في وزارة الدفاع أتيحت الفرصة لـ«الشرق الأوسط»، أن تعايشه عن قرب خصوصا في بعض الرحلات التي يقوم بها بشكل شبه دوري إلى منطقة الخليج. والكثير من هذه الزيارات كان سريعا ويتم بعيدا عن الأضواء الإعلامية. ذلك أن الرجل ذا الأصول الاجتماعية المتواضعة للغاية يحب العمل بصمت ويكره التصريحات الرنانة التي تتردد أصداؤها في الفراغ. وأثبت ذلك بأنه نجح في إعادة فرنسا إلى مصاف اللاعبين الأساسيين في المبيعات الدفاعية. ولعل أبرز نجاحات لودريان هو تحقيق أولى الإنجازات الخارجية لطائرة رافال الفرنسية المقاتلة التي لم تجد بعد ما يزيد على عشرين عاما على إطلاق برنامجها زبونا خارجيا. والحال، أن عام 2015 حمل للشركة المصنعة «شركة داسو للصناعات الجوية» المن والسلوى مع توقيع ثلاثة عقود في زمن قياسي؛ حيث كانت الفاتحة مع مصر ثم جاء دور الهند وأخيرا قطر. ويبدو أن المفاوضات مع الإمارات العربية المتحدة تسير في الاتجاه السليم ولا تستبعد الأوساط الدفاعية الفرنسية أن يتم الإعلان عن عقد جديد «في الأسابيع المقبلة».
كثيرون يتساءلون عن «سر» نجاح لودريان حيث فشل الآخرون. وكثيرون يرون أنه مهيأ لوظائف أخرى مع نهاية العام الحالي؛ إذ إن اسمه مطروح في دوائر القرار وزيرا للخارجية خلفا للوزير الحالي لوران فابيوس الذي يبدو أنه سيترك الخارجية للالتحاق بالمجلس الدستوري رئيسا. لكن آخرين يرون العكس ويؤكدون أن لودريان يرنو إلى العودة إلى ما كان يقوم بع في السابق أي العمل المحلي في مقاطعة بروتاني (غرب فرنسا) التي يتحدر منها. لكن الأكيد أن لودريان سيستجيب لما يطلبه منه الرئيس هولاند وهو الوزير الأقرب إليه من بين كافة وزرائه. وفيما المناخ السياسي العام في فرنسا يدفع إلى الاعتقاد بأن حظوظ هولاند للترشح لولاية جديدة والفوز بها ستكون ضعيفة للغاية بالنظر لشعبيته المتدنية وصعوبة الأوضاع الاقتصادية وغياب النتائج الملموسة للعمل الحكومي على جبهة البطالة، فإن لودريان يرى العكس ويؤكد أن الرئيس الحالي سيكون أفضل مرشح لليسار في الانتخابات الرئاسية القادمة التي ستجرى ربيع عام 2017.
يعود أول لقاء بين لودريان وهولاند لعام 1979. ومنذ 36 عاما، لم يبتعد الأول قيد أنملة عن الثاني. وعندما أعلن هولاند عن عزمه خوض الانتخابات الداخلية للحزب الاشتراكي لتعيين مرشح الحزب للانتخابات الرئاسية ومواجهة الرئيس ساركوزي الراغب في ولاية جديدة، كان لودريان من أوائل المسؤولين الاشتراكيين الذين أعلنوا تأييدهم لهولاند. وقبل ذلك بخمس سنوات، وقف لودريان إلى جانب سيغولين رويال، رفيقة درب هولاند ووزيرة البيئة في الحكومة الحالية ودعمها في مواجهة مسؤولين من «الوزن الثقيل» في الحزب الاشتراكي وهما وزير الخارجية الحالي فابيوس ومدير صندوق النقد الدولي والوزير السابق دومينيك شتروس خان الذي أخرجته فضائحه الجنسية من ميدان السباق السياسي. ويبين كل ذلك ولاء سياسيا مطلقا لهولاند الذي كلفه بالشق الدفاعي والعسكري خلال حملته الرئاسية. ولهذا الغرض، عمد لودريان الذي كان عضوا في لجنة الدفاع في مجلس النواب الفرنسي ومهتما منذ زمن بعيد بالشؤون العسكرية والتسليح إلى تشكيل «مجموعة عمل» حضرت الجانب الدفاعي في برنامج المرشح الاشتراكي الأمر الذي أهله بطبيعة الحال ليكون وزيرا للدفاع منذ حكومة هولاند الأولى. وبقي في منصبه في الحكومات المتتالية. وبما أن الرئيس الفرنسي بحسب دستور الجمهورية الخامسة هو القائد الأعلى للجيوش الفرنسية وهو حامل حقيبة السلاح النووي، فإنه بحاجة إلى وزير دفاع مقرب منه ويستطيع الاعتماد على ولائه المطلق. وبالطبع، هذه الصفات تنطبق كلها على لودريان.
عندما يقال في فرنسا إن «مدرسة الجمهورية» هي بمثابة «المصعد» الذي يوفر لجميع المتمتعين بالكفاءة وسائل النجاح والتحليق، فإن هذا الحكم ينطبق بشكل كامل على جان إيف لودريان المولود في عائلة متواضعة (والده كان تاجر قطع سيارات وأمه عاملة في مصنع للخياطة) في الثلاثين من يونيو عام 1947 في مدينة لوريان، الواقعة على المحيط الأطلسي غرب فرنسا والتي يبلغ تعداد سكانها نحو ستين ألف نسمة تزداد أعداهم كثيرا في موسم الصيف. ولوريان معروفة بأحواضها لصناعة البوارج الحربية بما فيها الغواصات والسفن التجارية. وقد عرفت هذه الصناعات أزمات متلاحقة بسبب تراجع دفتر الطلبيات الخارجية وتناقص الميزاينة الدفاعية في الداخل. وبما أن لودريان شغل منصب رئيس بلدية لوريان بلا انقطاع من عام 1981 إلى عام 1998، فإنه يعرف تماما أهمية أن تكون للصناعات الحربية الفرنسية على أنواعها أبواب للأسواق الخارجية الأمر الذي أفاده، بلا أدني شك، في مهمته وزيرا للدفاع في حكومة اشتراكية لا تجد غضاضة في التسويق للأسلحة الفرنسية في الشرق الأوسط والهند وباكستان وأفريقيا وأماكن أخرى في العالم. ومن الواضح أن «النظرية الاشتراكية» لحقها الكثير من التغير منذ وصول أول رئيس اشتراكي إلى قصر الإليزيه (فرنسوا ميتران) في عام 1981. ويروى أن ميتران طلب من معاونيه، لدى أول زيارة قام بها لمعرض الطيران في لوبورجيه ألا تعرض أسلحة خلال زيارته للمعرض.
قبل أن «يصعد» لودريان إلى باريس ويحتل أول مركز وزاري في عام 1991، كان اسمه قد برز في لوريان ومقاطعة بروتاني على صعيد الحزب الاشتراكي واليسار بشكل عام. لودريان انضم إلى هذا الحزب في عام 1974 بعد أن استمع لخطاب ناري لأمينه العام فرنسوا ميتران. وفي سن الثلاثين انتخب نائبا عن مدينة لوريان التي أصبح رئيسا لبلديتها في عام 1981. ونجح في الاحتفاظ بمنصبه النيابي 13 سنة متواصلة. وبعد ذلك رأس مجلس مقاطعة بروتاني وكان أول سياسي اشتراكي يحتل هذا الموقع الاستراتيجي على الصعيدين السياسي والانتخابي.
يروي لودريان أن الرئيس ساركوزي اتصل به عقب انتخابه في عام 2007 وعرض عليه، في إطار سياسة الانفتاح على اليسار التي اتبعها، أن يعينه وزيرا للدفاع في أولى حكوماته. لكن الوزير الحالي رفض العرض. وبعد خمس سنوات، تسلم هذه الحقيبة من «صديقه» فرنسوا هولاند ليجد الكثير من الملفات بانتظاره.
تكمن مشكلة أي وزير دفاع في فرنسا في قدرته على أن يكون مسموع الصوت لدى رئيس الجمهورية ووزير المالية، خصوصا في زمن ضغط النفقات وخفض الميزانيات الدفاعية. ومنذ احتلاله مكتبه القائم فيما يسمى «هوتيل دو بريين» الواقع في شارع سان دومينيك في الدائرة السابعة من باريس، وجد لودريان أمامه ملفات ساخنة أولها تحقيق انسحاب القوات الفرنسية من أفغانستان قبل نهاية عام 2012 مستبقا بذلك مواعيد انسحاب قوات الحلف الأطلسي والقوات الحليفة الأخرى. وعلى المستوى الداخلي، كان عليه أن يتنكب لإصدار «الكتاب الأبيض» الجديد الخاص بالنظرية الدفاعية الفرنسية وأهداف العمل العسكري ثم قانون البرمجة العسكرية للفترة الممتدة من عام 2014 إلى عام 2019. ومما كان عليه أن يتولى إدارته التدخل العسكري الفرنسي في مالي بداية عام 2013 ثم التدخل العسكري الفرنسي في أفريقيا الوسطى نهاية العام نفسه. وما بين التاريخين، طلب من لو دريان أن يحضر القوات الجوية الفرنسية للقيام بعمليات عسكرية ضد قوات النظام السوري عقب استخدامها الأسلحة الكيماوية في شهر أغسطس (آب) في الغوطتين الشرقية والغربية الأمر الذي أسفر عن مقتل 1400 شخص. لكن تراجع الولايات المتحدة الأميركية والرئيس أوباما في اللحظات الأخيرة ألغى التحضيرات الفرنسية. كذلك كان لودريان مهندس عملية إعادة انتشار القوات الفرنسية وتموضعها في أفريقيا وتوجيهها لمحاربة المنظمات الإرهابية فيما يسمى بلدان الساحل ثم إرسال الطائرات الفرنسية للمشاركة في التحالف الدولي الذي ظهر في شهر سبتمبر (أيلول) من العام الماضي لضرب تنظيم داعش. لكن عمل الطائرات الفرنسية بقي محصورا في الأهداف العراقية.
في هذه المهمات الصعبة، أصاب لودريان النجاح كما تمكن من إقناع الرئيس هولاند بالمحافظة على ميزانية القوات المسلحة الفرنسية التي تكاثرت مهامها بما فيها نشر نحو عشرة آلاف جندي في إطار عمليات مكافحة الإرهاب داخل الأراضي الفرنسية. بموازاة ذلك، عمد لودريان لدفع المبيعات الدفاعية الفرنسية إلى الأمام. وبحسب الأرقام التي تم الكشف عنها، فإن قيمة الطلبات المؤكدة التي حصلت عليها فرنسا لعام 2014 بلغت 8.2 مليار يورو ما يمثل ارتفاعا نسبته 16 في المائة قياسا بعام 2013 الذي كان بدوره قد شهد ارتفاعا بنسبة 43 في المائة. أما بالنسبة للعام الحالي، فإن دفتر الطلبات يسجل أرقاما نادرا ما عرفتها الصناعات الدفاعية الفرنسية بفضل ثلاثة عقود رئيسية لتصدير طائرات رافال المقاتلة: 24 طائرة وفرقاطة حديثة لمصر، 36 طائرة رافال للهند و24 طائرة لقطر فضلا عن مبيعات دفاعية للبنان بقيمة 3 مليارات دولار هي قيمة الهبة السعودية للبنان ليشتري بها أسلحة فرنسية.
لماذا نجح هولاند ولودريان حيث أخفق الآخرون؟ الأسباب كثيرة، منها على علاقة بـ«المنهج» الذي اختطه الرجلان البعيد كل البعد عن الإعلانات المتسرعة والقائم على توفير أرضية سياسية للبناء عليها في مجال المبيعات الدفاعية. وفي هذا السياق، لا شك أن سياسة باريس إزاء الملفات الإيرانية والسورية واليمنية والحرب على الإرهاب كان لها دور في «تسهيل» حصولها على عقود دفاعية لا تنحصر فقط بالرافال. وبذلك تكون باريس قد استفادت من «تراجع» الدور الأميركي وسعي دول الخليج لتوفير شركاء آخرين. ومن الأسباب أيضا أن هولاند ولودريان وزعا المهمات حيث الجانب السياسي تتولاه الحكومة (وزارة الدفاع) فيما الجانب الإجرائي والفني يعود التفاوض بشأنه للشركات المعنية. وبعد أن كان ساركوزي قد أنشأ في قصر الإليزيه خلية مسماة «war room» مهمتها الاهتمام بالمبيعات الدفاعية، أرجع هولاند الصلاحيات إلى المستوى الحكومي ولكن من غير تخليه عن متابعتها. ثم إن لودريان اعتمد طريقة بناء الثقة مع نظرائه والطريق إلى ذلك القيام بزيارات متلاحقة والعودة إلى الملف عينه كلما حانت الفرص.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.