أتيلا الجبار

«أتيلا» ملك قبائل «الهان»
«أتيلا» ملك قبائل «الهان»
TT

أتيلا الجبار

«أتيلا» ملك قبائل «الهان»
«أتيلا» ملك قبائل «الهان»

أينما ذهب «أتيلا الجبار» قالت عنه الشعوب إنه «وباء الله على الأرض»، بينما انتشرت مقولة أخرى أن الأخضر لا ينمو مرة أخرى تحت أقدام فرس هذا الطاغية، وهكذا استقبلت منطقة وسط أوروبا سيرة هذا الملك الشاب والذي أصبح أحد أسوأ الظواهر الإنسانية على الأرض حتى ذلك التاريخ، فهذا هو «أتيلا» ملك قبائل «الهان Hun»، الذي سيطرت قواته على وسط وجنوب وسط أوروبا خلال منتصف القرن الخامس الميلادي في أحد أسوأ صفحات التاريخ الإنساني المعروف، فهو الرجل الذي كانت أوروبا كلها تخشاه، ومعها أقوى إمبراطوريتين عرفتها أوروبا وهي الإمبراطورية الرومانية والبيزنطية، واللتان وقفتا مكتوفة الأيدي أمام قواته والدمار الشامل الذي كان يلحق بالأرض والشعوب التي مر بها.
واقع الأمر أن أصول قبائل «الهان» يرجع إلى وسط آسيا بالأخص قرب منغوليا وأتت إلى أوروبا ضمن موجات الهجرة المتتالية لكثير من القبائل في هذه المناطق بهدف استيطان وسط وجنوب شرقي أوروبا، بينما ترجع بعض المصادر التاريخية الأخرى أصول الهان إلى قبائل الـScythians والتي اختلطت بكثير من القبائل الإيرانية الشمالية في القرن الثاني الميلادي، وعلى كل الأحوال، فإن قبائل «الهان» لم تلعب دورًا فاعلاً وكبيرًا في التاريخ الأوروبي مثل باقي القبائل الهندية / الأوروبية التي كانت منتشرة إلا في القرن الخامس الميلادي، فأمة «الهان» كان شأنها شأن باقي هذه القبائل تمثل قوة متحركة قوية إلى أن استقرت فيما هو معروف اليوم بالمجر، وعلى الرغم من قوتها فهي كانت محلية الطابع بدرجة كبيرة، ولم تسع مثل قبائل «الجوثس» و«الفيزجوثس» والقبائل «الفراكنية» الأخرى إلى توسيع قاعدتها السياسية بشكل كبير، ولكن هذا كان ليتغير بمجرد أن اعتلى أتيلا الحكم وهو في الأربعين من عمره بعدما توفي عمه، تاركًا الحكم له ولأخيه «بليدا»، وهو ما لم يكن ليستمر طويلاً، فالشاب أتيلا لم يكن على استعداد لتقاسم السلطة لمدة طويلة، فتخلص من أخيه بدس السم له، وخلا له الحكم.
لقد كان هذا الملك الطموح يعرف جيدًا أهمية توسيع رقعة مملكته ليستطيع أن يتغلب على الظروف الصعبة وشظف العيش، فكان سلاحه في ذلك الأمر هو جيشه القوي، الذي وصل إلى قرابة نصف مليون جندي بعد فترة وجيزة، وكان سلاحه الآخر هو الخوف، فلقد أدرك الرجل أن الخوف هو الحل لمواجهة أعدائه، فعمد إلى اتباع سياسة جعلته في التقدير «أول مجرم حرب أوروبي» على مستوى كبير، فلقد قتل وحرق ودمر من المدن ما لا يمكن حصره، فسياسته كانت القضاء المبرم على عدوه حتى يكون عبرة لعدوه التالي، فأينما ذهبت جيوشه كان الدم والخراب والحرق هو النتاج الطبيعي لوجودها، وبهذا ضمن ولاء وخوف كل أعدائه، وقد ساعده في فتوحاته قيامه بتطوير النظام العسكري الذي كانت قبائل الهان تتبعه، فلقد كان عماد هذه القبائل هو الفرس والذي أعطي لجيوشه الحركة السريعة، وكان القوس هو السلاح الفتاك الذي أتقنه هذا الجيش، فيقال إن الفارس منهم كان يستطيع أن يقنص عدوه من على مسافة تصل إلى مائة متر أو أكثر، فالحركة كانت مفتاح سر هذا الجيش الجبار إلى جانب تنظيمه الدقيق.
لقد كانت أوروبا في ذلك الوقت مقسمة سياسيًا ما بين الإمبراطورية الرومانية في الغرب، والإمبراطورية البيزنطية في الشرق، بينما كانت وسط أوروبا تنتشر فيها القبائل القوية التي كانت تهدد هاتين الإمبراطوريتين، وواقع الأمر أن أتيلا بدأ توسيع قاعدة انطلاقاته نحو الإمبراطورية البيزنطية في الجنوب والتي كانت دولة غنية ولكنها لم تعد تملك نفس قوتها السابقة، وهو ما جعلها فريسة سهلة لهذا الرجل الدموي، فهاجم أراضيها بكل قوة وعنف جاعلاً منها صيدًا سهلاً للغاية، فتوغل في ممتلكاتها إلى أن أصبح على مقربة من العاصمة وهو ما دفع الإمبراطور البيزنطي إلى طلب الصلح معه بعدما حرق مدنًا بالكامل وأبيد قاطنيها عن بكرة أبيهم، فأصبحت هذه الدولة تدفع له جزية سنوية متضاعفة تخطت سبعمائة كيلوغرام من الذهب سنويًا، وهو ما سمح له بالمزيد من الوفرة والتي طور بها جيوشه خلال فترة حكمه القصير والتي دامت ثمانية سنوات فقط.
اتبع أتيلا نفس سياسات جدوده من حيث رفضه الكامل لعوامل التغريب، فلقد رفض المسيحية ورفض التحضر على النحو الروماني أو البيزنطي، فحافظ على الطبيعة البدوية لقبائله على عكس كثير من القبائل القوية الأخرى في وسط أوروبا والتي سرعان ما تأثرت بثقافة ومدنية هاتين الإمبراطوريتين، وقد وضع الرجل نظامًا قويًا لضمان توفير الجيوش اللازمة لفتوحاته المنتظرة، وبالتالي كانت انتصاراته أحد الأسباب الرئيسية لاستقرار فترة حكمه داخليًا بعد انتصاره على البيزنطيين، خصوصا وأنه كان يعاقب بقوة كل من يخرج عليه ويعدمه في تجمع عام ليكون عبرة لكل من تساوره نفسه للخروج عليه.
صار أتيلا على قناعة بأنه استخلص من البيزنطيين أقصى ما يمكن أن يحصل عليه من ذهب وأموال، فوجه جهده نحو الإمبراطورية الرومانية وعاصمتها روما، وكان الرجل في انتظار الفرصة السانحة لفتح جبهته الغربية، وهي الفرصة التي سنحت له بسبب فضيحة لأخت الإمبراطور الروماني والتي أدت لقرار الإمبراطور تزويجها من أحد رجال الساسة، فاستنجدت الأميرة بالملك «أتيلا» حيث عرضت عليه الزواج وتقاسم الإمبراطورية، فاستغل الرجل الفرصة وأرسل لأخيها الإمبراطور يطالب بالممالك الغربية للإمبراطورية كمهر لزواجه المرتقب من أخته، وأرسل جيوشه إلى الغرب في بلاد «الغال» أي فرنسا، ولكن أتيلا لم يكن يتوقع أن القدر سيقف ضده متمثلاً في شخصية رومانية عبقرية هي «فلافيوس أييتس»، ذلك الروماني الفذ والذي عاش صباه صديقًا لأتيلا عندما كان رهينة رومانية لدى قبائل «الهان» ضمانًا لمعاهدة السلام التي وُقعت بين الطرفين، فلقد كان «فلايوس» مدركًا لقوة خصمه وطريقة حياة هذه القبائل وطرق حروبهم، بل يقال إنه كان يمتطي جواده على نفس شاكلتهم، وكان يعرف تكتيكاتهم العسكرية معرفة كاملة، فتحالف هذا القائد الروماني مع بعض القبائل «الجيرمانية» التي كانت تخشى تفشي قوة «الهان» في وسط أوروبا.
في عام 452 شهدت أوروبا بالقرب من نهر «المارن» في فرنسا معركة «شارلونز» الشهيرة، وفي هذه المعركة الدموية التي راح ضحيتها ما يقدر بنحو مائة وخمسين ألفًا، استطاع فلافيوس بتكتيكاته العسكرية أن يوقف هجوم «أتيلا» بعدما كاد قلب جيشه يُهزم، ولكن الإمدادات التي دفع بها «فلافيوس» من الجناحين استطاعت أن تصد جيش أتيلا الجبار بكل قوة، وهو ما دفعه للتقهقر على وجه السرعة، وهكذا أُنقذت أوروبا من دمار محقق، ولكنها لم تكن نهاية الحرب مع هذا الرجل الجبار، فانسحابه كان تكتيكًا إلى حد كبير، إذ سرعان ما استطاع أن يُجمع جيوشه مرة أخرى في العام التالي واستغل فترة الصيف ليصب غضبه على روما ذاتها، فهذه المرة لم يوجه جيوشه إلى الغرب، بل خرج من قاعدته إلى الجنوب مباشرة قاصدًا روما، تاركًا خيطًا من الدمار والقتل والدم لم تشهده أوروبا من قبل، وأصبح قاب قوسين أو أدنى من أن يدخل روما، وهو ما اضطر الإمبراطور إلى إرسال البابا «ليو» ليتفاوض معه لينسحب.
واقع الأمر أن المصادر التاريخية لم تأت إلينا بما دار في هذا اللقاء التاريخي، ولكن نتيجته كان قرار أتيلا الانسحاب من شبه الجزيرة الإيطالية والعودة مرة أخرى إلى قواعده، ولكن التحليلات التاريخية تقدم لنا رؤية واقعية للأسباب التي دفعت هذا الملك الجبار إلى التخلي عن أهدافه، فحقيقة الأمر أن الرجل كان بعيدًا عن مركزه في المجر، وكانت إمداداته قد بدأت تتأثر كثيرًا بسبب البعد الجغرافي، إضافة إلى أن جبهته الشرقية ممثلة في الإمبراطورية البيزنطية كانت في خطر حقيقي، فلو انكسر الصلح مع البيزنطيين كما كان متوقعًا، فإن هذا معناه أنه سيواجه الإمبراطوريتين معًا، ويضاف إلى ذلك أن جيوش الرجل قد تفشى فيها مرض الجدري، وهو ما يعني ضرورة الانسحاب، وبالتأكيد فإن الذهب الروماني كان سببًا آخر في الانسحاب، حيث عرضت عليه الكنيسة والإمبراطور على حد سواء صناديق من الذهب ملأت شهيته مؤقتًا، وهو ما أدى لقراره بالانسحاب من شبه الجزيرة الإيطالية والعودة مرة أخرى للمجر.
حقيقة الأمر أن الدبلوماسية البابوية قد أنقذت الحضارة الأوروبية بكل تأكيد، فلو أن أتيلا قد استمر في حملته واستطاع تصفية الإمبراطورية الرومانية فإن هذا كان معناه نهاية الحضارة الغربية المعروفة اليوم، فالرجل كان سيهدم كل ما هو روماني من الكنيسة إلى القوانين الرومانية، وكان مصير روما هو الحرق شأنها شأن باقي المدن الأخرى، وقد أدى هذا الصلح أيضا إلى علو شأن الكنيسة والتي نظرت لها الرعية على اعتبارها وسيلة السماء المباركة والتي أجبرت هذا الرجل السفاح على التراجع، وهو ما أعطى الكنيسة دفعة قوية للغاية في أعين الرعية والتي رأت أن الرب راض عنها وبالتالي زاد نفوذها السياسي بشكل ملحوظ بعد ذلك.
لقد كان من الممكن أن يكون مصير أوروبا في العام التالي هو نفس ما حدث وكان من الممكن أن يهدم أتيلا روما والحضارة الغربية تمامًا هذه المرة، لولا أن القدر تدخل مرة أخرى في عام 453، حيث مات الرجل في ليلة زفافه، ومن سخرية القدر أن الرجل مات مخنوقًا بدمائه بعدما تعرض لنزيف خارجي وداخلي في آن واحد أجهز على رئتيه، فمات الرجل في دمائه مثلما أراق دماء الآخرين، ولكن ليس قبل أن يترك لنا بسيرته عددًا من الحقائق أهمها أن الدولة التي تحاصرها الأعداء عندما يضعف جيشها فهي حتمًا إلى زوال.



الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
TT

الحدود العراقية ــ السورية... وذكريات صيف 2014

شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)
شاحنات ومعدّات عسكرية عراقية تتحرك عند الحدود مع سوريا (آ ف ب)

شأن معظم دول المنطقة والإقليم، تسببت الأزمة السورية المتصاعدة في تراجع الاهتمام الرسمي والشعبي العراقي بالحرب التي تشنّها إسرائيل على غزة ولبنان، بعد أن كانت تحظى بأولوية قصوى، خصوصاً بعد التهديدات الإسرائيلية بتوجيه ضربات عسكرية ضد الفصائل المسلحة العراقية التي استهدفتها بأكثر من 200 هجمة صاروخية خلال الأشهر الماضية. وأظهر رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني، موقفاً داعماً للحكومة السورية في ظروفها الحالية منذ اليوم الأول للهجوم الذي شنَّته الفصائل السورية المسلحة وتمكّنت من السيطرة على محافظة حلب ومدن أخرى، إذ أجرى اتصالاً بالرئيس السوري بشار الأسد وكذلك الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، وأكد دعمه لدمشق.

أعلن رئيس الحكومة العراقي محمد شيّاع السوداني، يوم الثلاثاء الماضي، موقفاً أكثر وضوحاً بالنسبة لدعم نظام دمشق، وذلك خلال اتصال - مماثل لاتصاليه مع القيادتين السورية والإيرانية - أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.

ومما قاله السوداني إن «العراق لن يقف متفرجاً على التداعيات الخطيرة الحاصلة في سوريا، خصوصاً عمليات التطهير العرقي للمكوّنات والمذاهب هناك»، طبقاً لبيان حكومي.

كذلك شدّد الزعيم العراقي على أنه سبق لبلاده أن «تضرّرت من الإرهاب ونتائج سيطرة التنظيمات المتطرّفة على مناطق في سوريا، ولن يُسمَح بتكرار ذلك»، مؤكداً «أهمية احترام وحدة سوريا وسيادتها، وأن العراق سيبذل كل الجهود من أجل الحفاظ على أمنه وأمن سوريا».

محمد شياع السوداني (آ ف ب)

السوداني كان قد انهمك بسلسلة اتصالات خلال الأيام القليلة الماضية مع عدد من قادة الدول، بخصوص الوضع في سوريا؛ من «أجل دعم الاستقرار في المنطقة، وعدم حصول أي تداعيات فيها، خصوصاً مع ما تشهده من حرب إجرامية صهيونية مستمرة منذ أكثر من عام» بحسب بيان حكومي.

وأظهرت قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية موقفاً مماثلاً وداعماً لحكومة السوداني في مواقفها حيال سوريا، لكنها أعربت خلال اجتماع، الثلاثاء الماضي أيضاً، عن قلقها جراء الأوضاع في سوريا بعد «احتلال الإرهابيين مناطق مهمة» طبقاً لبيان صدر عن الاجتماع. وعدّت «أمن سوريا امتداداً للأمن القومي العراقي للجوار الجغرافي بين البلدين، والامتدادات المختلفة لذلك الجوار».

الحدود المشتركة مؤمّنة

للعلم، مع الشرارة الأولى لاندلاع الأزمة السورية، اتخذت السلطات العراقية على المستوى الأمني إجراءات عديدة «لتأمين» حدودها الممتدة لأكثر من 600 كيلومتر مع سوريا. وصدرت بيانات كثيرة حول جاهزية القوات العراقية وقدرتها على التصدّي لأي محاولة توغّل داخل الأراضي العراقية من قبل الفصائل المسلحة من الجانب السوري، مثلما حدث صيف عام 2014، حين تمكَّنت تلك الجماعات من كسر الحدود المشتركة والسيطرة على مساحات واسعة من العراق.

اللواء يحيى رسول، الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة العراقية، أوضح (الثلاثاء) أبرز الإجراءات المُتَّخذة لتحصين الحدود مع سوريا. وقال في تصريحات صحافية إن «الحدود مؤمَنة ومُحكمة بشكل كبير من تحكيمات وتحصينات، وهناك وجود لقوات الحدود على خط الصفر الذي يربطنا مع الجارة سوريا مدعومة بالأسلحة الساندة والجهد الفني، المتمثل بالكاميرات الحرارية وأبراج المراقبة المحصّنة». وأضاف رسول: «لا خوف على الحدود العراقية، فهي مؤمّنة ومحكمة ومحصّنة، وأبطالنا منتشرون على طولها»، مشيراً إلى أنه «تم تعزيز الحدود بقطاعات من الألوية المدرعة وهي موجودة أيضاً عند الحدود».

أيضاً، وصل وفد أمني برئاسة الفريق أول قوات خاصة الركن عبد الأمير رشيد يارالله، رئيس أركان الجيش، يوم الأربعاء، إلى الشريط الحدودي العراقي - السوري. وذكر بيان عسكري أن «هدف الزيارة جاء لمتابعة انتشار القطعات الأمنية وانفتاح خطوط الصد».

غموض في الموقف

إلا أنه حتى مع المواقف الحكومية الداعمة لدمشق في أزمتها الراهنة، يبدو جلياً «الالتباس» بالنسبة لكثرة من المراقبين، وبالأخص لجهة شكل ذلك الدعم وطبيعته، وما إذا كانت السلطات الحكومية العراقية ستنخرط بقوة لمساعدة نظام الأسد عسكرياً، أم أنها ستبقى عند منطقة الدعم السياسي والدبلوماسي، تاركة أمر الانخراط والمساعدة الميدانية للفصائل المسلحة.

وهنا يلاحظ إياد العنبر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، وجود «التباس واضح حيال الموقف من الحدث السوري، وهذا الالتباس نختبره منذ سنوات، وليس هناك تمييز واضح بين العراق الرسمي وغير الرسمي». وتابع العنبر لـ«الشرق الأوسط» أن «مستويات تفعيل المساهمة العراقية في الحرب غير واضحة، وإذا ما قررت الحكومة البقاء على المستوى الدبلوماسي بالنسبة لقضة دعم سوريا، أم أن هناك مشاركة عسكرية».

غير أن إحسان الشمري، أستاذ الدراسات الاستراتيجية والدولية في جامعة بغداد، يعتقد بأن «العراق الرسمي عبَر عتبة التردّد، وبات منخرطاً في الأزمة السورية». وفي لقاء مع «الشرق الأوسط» بنى الشمري فرضيته على مجمل المواقف الرسمية التي صدرت عن رئيس الوزراء، والناطق الرسمي، وزعماء «الإطار التنسيقي»، وشرح قائلاً إن «هذه المواقف بمجملها كسرت مبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى الذي يتمسّك به العراق، إلى جانب كونها انخراطاً رسمياً عراقياً بالأزمة السورية».

نتنياهو غير مضمون

ولكن، بعيداً عن الانشغال الراهن بالأزمة السورية، ما زالت التهديدات الإسرائيلية بين أهم القضايا التي تشغل الرأي العام ببعدَيه السياسي والشعبي. وحتى مع الترحيب العراقي بقرار وقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حزب الله»، ما زالت مخاوف البلاد من ضربة إسرائيلية محتملة قائمةً.

ولقد قال الناطق باسم الحكومة باسم العوادي، الأربعاء قبل الماضي، في تصريحات صحافية، إنه «مع عملية وقف إطلاق النار في لبنان، نحن أنهينا الجزء الأسهل، فالمعركة انتهت والحرب لم تنتهِ، فالأصعب أنك ستدخل بالمخططات غير المعلومة. ونحن (العراق) واقعون في المنطقة الحرام، لكن السياسة العقلانية المتوازنة استطاعت أن تجنبنا الضرر».

وأجاب، من ثم، عن طبيعة الرد العراقي إذا ما هاجمت إسرائيل أراضيه، بالقول: «إلى حد أيام قليلة كانت تأتي نتائج جيدة من المعادلات التي اشتغل عليها رئيس الوزراء، لكن رغم ذلك فلا أحد يضمن ما الذي يدور في بال حكومة نتنياهو، وما هو القادم مع الإدارة الأميركية الجديدة، وكيف سيتصرف نتنياهو».

وتابع العوادي، أن «الإسرائيليين عملوا على تفكيك الساحات، وتوجيه ضربات إلى اليمن وسوريا، لكن الطرف العراقي هو الوحيد الذي لم يستطيعوا الوصول إليه بفضل المعادلة... وقد يكونون وضعونا للحظات الأخيرة أو الأيام الأخيرة بنوع ما، وهذا وارد جداً، وتتعامل الحكومة العراقية مع ذلك».

شبح هجوم إسرائيلي

وحقاً، لا يزال شبح هجوم إسرائيلي واسع يخيم على بغداد، إذ تناقلت أوساط حزبية تحذيرات جدية من شنِّ ضربات جوية على العراق. وفي وقت سابق، قال مصدر مقرّب من قوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، لـ«الشرق الأوسط»، إنَّ «مخاوف الأحزاب الشيعية من جدية التهديد دفعتها إلى مطالبة رئيس الحكومة للقيام بما يلزم لمنع الهجمات». وأكَّد المصدر أنَّ «فصائل عراقية مسلّحة لجأت أخيراً إلى التحرك في أجواء من التكتم والسرية، وقد جرى بشكل مؤكد إبدال معظم المواقع العسكرية التابعة لها».

وفي سياق متصل، تتحدَّث مصادر صحافية عمَّا وصفتها بـ«التقديرات الحكومية» التي تشير إلى إمكانية تعرّض البلاد لـ«300 هجوم إسرائيلي». وفي مطلع الأسبوع الماضي، شدَّدت وزارة الخارجية العراقية، في رسالة إلى مجلس الأمن، على أهمية «تدخل المجتمع الدولي لوقف هذه السلوكيات العدوانية لإسرائيل».

كما أنَّه حيال التهديدات الجدية والخشية الحقيقية من عمل عسكري إسرائيل ضد البلاد، اهتدت بعض الشخصيات والأجواء المقرّبة من الحكومة والفصائل إلى «رمي الكرة» في الملعب الأميركي، مستندين بذلك إلى اتفاقية «الإطار الاستراتيجي» المُوقَّعة منذ عام 2011، بين بغداد وواشنطن، وهو العام الذي خرجت فيه القوات الأميركية من العراق.

التهديدات الإسرائيلية من أهم القضايا التي تشغل الرأي العام العراقي

هادي العامري (رووداو)

العامري يلوم واشنطن

أيضاً، وجد هادي العامري، زعيم منظمة «بدر»، بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الفرصة ليحمّل واشنطن مسؤولية حماية الأجواء العراقية، بعدما شنَّت إسرائيل هجوماً عسكرياً ضد إيران، مستخدمةً الأجواء العراقية في هجماتها. ويومذاك، حمّل العامري الجانب الأميركي «المسؤولية الكاملة» على انتهاك إسرائيل سيادة الأجواء العراقية في طريقها لضرب إيران. وقال، إن «الجانب الأميركي أثبت مجدّداً إصراره على الهيمنة على الأجواء العراقية، وعمله بالضد من مصالح العراق وشعبه وسيادته، بل سعيه لخدمة الكيان الصهيوني وإمداده بكل ما يحتاج إليه لممارسة أساليبه العدوانية، وتهديده للسلام والاستقرار في المنطقة».

وأضاف العامري: «لهذا باتت الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق بأشكاله كافة». وللعلم، فإن منظمة «بدر» - التي يقودها العامري - وردت ضمن لائحة المنظمات التي اتهمتها إسرائيل بشنِّ هجمات ضدها خلال الشكوى التي قدمتها إلى مجلس الأمن في 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

وبناءً على تصريحات العامري السالفة، وتصريحات أخرى لشخصيات مقرّبة من الفصائل المسلحة وقوى «الإطار التنسيقي» الشيعية، تبلورت خلال الأسبوع الأخير، قناعة داخل أوساط هذه القوى مفادها، بأن واشنطن «ملزمة وبشكل مباشر بحماية الأجواء العراقية» من أي هجوم محتمل من إسرائيل أو غيرها، أخذاً في الاعتبار الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة و«سيطرتها على الأجواء العراقية».

وبالتوازي، سبق أن حمّل فادي الشمري، المستشار السياسي لرئيس الوزراء، الولايات المتحدة، أيضاً وفقاً لـ«اتفاقية الإطار الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية»، مسؤولية «الردع، والرد على أي هجمات خارجية تمسّ الأمن الداخلي العراقي».

الرد الأميركي قاطع

في المقابل، تخلي واشنطن مسؤوليتها حيال هذا الأمر. ورداً على المزاعم العراقية المتعلقة بـ«الحماية الأميركية»، قالت ألينا رومانوسكي، السفيرة الأميركية في بغداد، صراحةً إن بلادها غير معنية بذلك. وأردفت رومانوسكي، خلال مقابلة تلفزيونية سابقة، أن التحالف الدولي دُعي إلى العراق لـ«محاربة (داعش) قبل 10 سنوات، وقد حققنا إنجازات على مستوى هزيمة هذا التنظيم، لكنه ما زال يمثل بعض التهديد، ودعوة الحكومة العراقية لنا تتعلق بهذا الجانب حصراً. أما اتفاقية الإطار الاستراتيجي فتلزمنا ببناء القدرات العسكرية العراقية، لكنها لا تتطرق لمسألة حماية الأجواء والدفاع بالنيابة». ونفت السفيرة أن تكون بلادها قد «فرضت سيطرتها على سماء العراق».

والاثنين قبل الماضي، قالت رومانوسكي، خلال لقاء «طاولة مستديرة» لعدد من وسائل الإعلام: «أود أن أكون واضحة جداً، ومنذ البداية، بأن الإسرائيليين وجّهوا تحذيرات ردع للميليشيات المدعومة إيرانياً والموجودة هنا في العراق، التي تعتدي على إسرائيل». وأضافت: «هذه الميليشيات هي التي بدأت الاعتداء على إسرائيل. ولأكون واضحة جداً في هذه النقطة، فإن الإسرائيليين حذّروا حكومة العراق بأن يوقف هذه الميليشيات عن اعتداءاتها المتكررة والمستمرة على إسرائيل... إن رسالتنا إلى حكومة العراق هي أن تسيطر على هذه الميليشيات المنفلتة، والتي لا تعتد بأوامر الحكومة وأوامر القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء. إن إسرائيل دولة لها سيادتها، وهي سترد على أي اعتداء من أي مكان ضدها».

جدعون ساعر (آ ف ب)

 

حقائق

قلق عراقي جدّي من التهديدات الإسرائيلية مع مطالبة واشنطن بالتدخّل

خلال الأسبوع قبل الماضي، بعث وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر رسالةً إلى مجلس الأمن تكلّم فيها عمّا أسماه بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحمّل فيها الحكومة العراقية المسؤولية عن الهجمات التي تشنها الفصائل العراقية عليها، داعياً مجلس الأمن للتحرك والتأكد من أن الحكومة العراقية تفي بالتزاماتها. ساعر اتّهم بالتحديد «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله» و«ألوية بدر» وحركة «النُّجباء» و«أنصار الله الأوفياء» و«كتائب سيد الشهداء»، بمهاجمة إسرائيل، ومعظم هذه الفصائل مشاركة في الحكومة العراقية الحالية ولها نفوذ كبير داخلها. هنا، تجدر الإشارة إلى أنه سبق لرئاسة الوزراء العراقية توجيه وزارة الخارجية لمتابعة ملف التهديدات الإسرائيلية في المحافل الأممية والدولية وأمام هيئات منظمة الأمم المتحدة، واتخاذ كل الخطوات اللازمة، وفق مبادئ القانون الدولي، لحفظ حقوق العراق وردع تهديدات إسرائيل العدوانية. كذلك طالبت رئاسة الوزراء بـ«دعوة جامعة الدول العربية إلى اتخاذ موقف حازم وموحّد ضد تهديدات سلطات الكيان المحتل، يتضمن إجراءات عملية تستند إلى وحدة المصير والدفاع المشترك». وهذا بجانب «مطالبة مجلس الأمن الدولي بالنظر في الشكاوى المقدمة من جمهورية العراق ضد سلطات الكيان المحتل، واتخاذ إجراءات رادعة تكفل تحقيق الاستقرار والسِّلم الإقليمي والدولي»، وباتخاذ الولايات المتحدة مع العراق، من خلال الحوارات الأمنية والعسكرية ضمن إطار القسم الثالث من «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، خطوات فعالة «لردع سلطات الكيان المحتل» مع دعوة «التحالف الدولي والدول الأعضاء فيه إلى كبح هذه التهديدات والحدّ من اتساع رقعة الحرب».