صالونات ثقافية داخل شريحة موبايل

بين النقاشات الجدية والترفيه عن النفس

ملتقيات إلكترونية غيرت مفهوم الصالونات الثقافية
ملتقيات إلكترونية غيرت مفهوم الصالونات الثقافية
TT

صالونات ثقافية داخل شريحة موبايل

ملتقيات إلكترونية غيرت مفهوم الصالونات الثقافية
ملتقيات إلكترونية غيرت مفهوم الصالونات الثقافية

في مساحة لا تتجاوز السنتيمترات داخل شريحة في الهاتف الجوال، تلتقي مجموعات بشرية يصل عددها إلى المئات أحيانا، ذات توجهات ثقافية وفكرية ومن جنسيات مختلفة.
في هذه المساحة تستطيع أن تناقش وتطرح وجهة نظرك المخالفة للآخرين المنتمين إلى المجموعة نفسها، دون أن ترى انفعالات وجوههم، أو أن يرشقك خصمك في النقاش بكأس ماء أو بالأوراق التي بين يديه كما في البرامج الحوارية الاستفزازية أو التي قد تحصل على أرض الواقع، فأقصى ما يمكن أن يصل إليك من انفعالات الآخر هي رسومات لوجوه غاضبة أو ضاحكة أو ساخرة.
ولكنها في كل الأحوال هي نقلة نوعية وقفزة هائلة فرضتها حتمية تطور وسائل الاتصالات الحديثة، لتغير مسار مفهوم الصالونات الثقافية التي كانت سائدة في عهد مي زيادة بحيث انتشرت فجأة وبكثرة «صالونات» وملتقيات ثقافية عبر برامج الاتصالات في الهاتف الجوال، وخصوصًا الـ«واتساب».
كثير من الأشخاص المنتمين إلى هذه الملتقيات «الموبايلية» لديهم على أرض الواقع ملتقيات حقيقية، فمثلاً في الكويت نجد أن أعضاء رابطة الأدباء لديهم على أرض الواقع ملتقياتهم وندواتهم وحتى ديوانياتهم الثقافية في مقر الرابطة، ولكنهم لم يكتفوا بذلك، فأنشأوا أيضا مجموعة على الـ«واتساب» سموها «ملتقى الأدباء»، وتضم أعضاء من الرابطة ومن خارجها ممن هم أصدقاء الرابطة، وهناك ملتقى ضخم جدًا له جذور على أرض الواقع هو ملتقى الناشطة الثقافية نجلاء النقي، التي بدورها أيضا أسست مجموعة على الموبايل يضم أعدادًا هائلة من الأشخاص من مختلف الجنسيات الخليجية والعربية، وهناك أيضا ملتقى سينمائي له نشاطه الأسبوعي على أرض الواقع، يدعى ملتقى «سين» السينمائي، ولكنه أيضا يمارس نشاطه عبر ملتقى في الهاتف الجوال، بل له فرعان، واحد تحت اسم «دعوات ملتقى سين»، وآخر تحت اسم «ديوانية سين»، في الأول يقدم الملتقى برنامجه الأسبوعي للأفلام التي سوف يناقشها على أرض الواقع، والثاني هو بمثابة دردشات عامة ونقاشات متنوعة، ويضع مؤسس الملتقى خلف العصيمي ضوابط صارمة لعدم الخلط بين الأحاديث التي تدور على كلتا المجموعتين. ويوجد أيضا ملتقى أدب الطفل، وغيره كثير من الملتقيات ذات التوجهات الثقافية.
لكن اللافت في هذه الملتقيات أن المنتسبين إليها يناقشون أحيانا قضايا جادة، أو مواضيع إشكالية، مثل الاختلاف حول أحداث تاريخية، أو قضايا في اللغة العربية، وينشرون قصائد وقصصا قصيرة ومقالات، ولا يخلو الأمر من نقاشات حادة أحيانا حول الحروب الدائرة في المنطقة العربية حاليًا. وفي أحيان أخرى يكون الأمر مجرد ترفيه عن النفس بنشر نكات ساخرة ومقاطع فيديو ضاحكة، وتهانٍ وتبريكات شخصية لمناسبات خاصة ينشرها الأعضاء.
«الشرق الأوسط» توجهت إلى أعضاء في «غروبات» ثقافية في الكويت، لتطلع من خلالهم على آرائهم في هذه الملتقيات، وهل حققت فائدة للم الشمل الثقافي، ومدى إمكانية أن تصبح هذه الملتقيات كبديل عن ملتقيات الواقع يومًا ما.
الدكتور عدنان الدوسري كاتب قصة ومتخصص بالتنمية البشرية، له رأي صارم في هذا الموضوع، فيرى أن الذي دفع الناس إلى عمل هذه التجمعات عبر الهاتف الجوال يعود لسببين، أولهما هو اتجاه أغلب الناس للتعبير عن وجهة نظره بالكتابة وكأننا رجعنا إلى العصور القديمة حيث كان التعامل بالرموز والكتابة، والسبب الثاني في قناعة الدوسري ضعف الحوار بشكله المنطقي، فأصبح الحوار عبارة عن 70 في المائة سطحيا و30 في المائة كلمات لا معنى لها بالحوار المباشر، «ولهذا أصبحت الغروبات هي محطات للثرثرة المكبوتة في داخلنا»، ويضيف: «من الطبيعي أن الغروبات لا تغني عن الملتقيات المباشرة والمرئية».
الروائية عائشة الفجري ليست منحازة كليًا للنقاشات عبر المجموعات الافتراضية، وتقول: «مهما كانت المحاورات والمناقشات عن طريق الـ(واتساب) مفيدة لكن حين نتناقش ونتحاور على أرض الواقع فإن الأفكار والأرواح تتقارب وتتآلف وتتضح المفاهيم بصورة أشمل والنقاشات بيننا تتنفس، أي يكون فيها حياة وليست أحاديث أو مناقشات خلف الشاشات بأصابع تكتب وعين تلتقط ربع الجملة وعقل يستوعب النص الثاني فتتضارب الأفكار ولا تصل بنا إلى أي نتيجة، ثم إن الملتقيات في الـ(واتساب) عمرها قصير».
ويرى الناشط الثقافي عبر أحد هذه الملتقيات محمود الأصهب أن الملتقيات الإلكترونية قد تجانبها المصداقية لبعدها عن المناقشة الواقعية، وقد يشوبها التعصب بجميع تسمياته أحيانا كالذي يسود الشبكات الاجتماعية، والتعصب أصبح سمة هذا العصر.
عضو في رابطة الأدباء، ومن أنشط المتحدثين عبر هذه الملتقيات الإلكترونية، واشتهر بكتابة مقالات مطولة وأفكار تثير النقاشات، موجود على «ملتقى الأدباء»، أرسل لي إجابته على موقع الملتقى نفسه ولكنه طلب مني عدم ذكر اسمه، يقول: «لي بهذا الصدد آراء خاصة، فبكل تأكيد لا يمكن أن يكون التواصل عبر الـ(واتساب) بديلا عن الملتقيات الثقافية شكلا وموضوعا وهدفا، ولكن هذه الملتقيات الافتراضية حققت عبر الـ(واتساب) التعارف ما بين أدباء وشعراء ومفكرين وباحثين في الوطن العربي، وبالنسبة لي شخصيا تعرفت على نخبة لم أرَها في يوم من الأيام، ولكن من خلال هذه النافذة توطدت العلاقة وأصبحنا أصدقاء وأخذنا نتبادل المطبوعات والمؤلفات. ومتى ما كانت المجموعة متجانسة فكريًا وأدبيًا فإنها تحقق الهدف المطلوب والتواصل يكون جيدًا وممتعًا، وإن احترام الفكر عامل هام جدًا في التواصل، وعندما تستدعي الضرورة تصويب الآراء يستوجب أن يكون ذلك بأدب وأخلاق مع ذكر المبررات ومقارعة الحجة بالحجة وعدم المساس بالشخص نفسه، فالأهم هو كسب من تحاوره لا أن تكسب القضية والنقاش».
ويضيف: «لاحظت في الغروبات وجود أعضاء صامتين ولا نعلم ما يدور بفكرهم ولا حتى أدنى حد من المشاركات، كما لاحظت نسبة التفاعل متفاوتة ما بين الغروبات، فعلى سبيل المثال هناك غروبات يرسل الأديب أو الشاعر أو الباحث موضوعا خاصًا به، فيثريه أعضاء الغروب في النقاش والتعليق والمداخلات المفيدة، ولا شك أن لهذا العمل تأثيرا ممتعا لا يشعر فيه إلا صاحب الموضوع نفسه، وتجد في غروبات أخرى سواء أرسلت أو لم ترسل شيئًا، فالأمر سيان».
ويصف بعض الكتابات المشاركة بأنها أشبه ما تكون بالطلاسم والألغاز. ويقول: «كشفت رسائل التواصل عبر الـ(واتسب) المحسوبين على الأدب والثقافة، وبينت حقيقة المستوى المتدني من ناحية الأسلوب والتعبير كذلك عن ضحالة التفكير وافتقار المعلومات وارتباك في الشخصية».
وترى رنا محمود، وهي عضو في ملتقى ثقافي على أرض الواقع اسمه «أوركيد»، وفي الوقت نفسه هي عضو في ملتقى «سين السينمائي» على الموبايل، أن هذه الملتقيات الإلكترونية هي مكملة للملتقيات التي على أرض الواقع، ولكن تتميز بأنها ليس لها توقيت معين، وبإمكان الشخص المشاركة طوال اليوم، «ما يجعلنا نفهم طبيعة الآخر أكثر»، وهو برأيها يجعل العلاقات بين المثقفين إما أكثر قربًا وإما أكثر ابتعادًا، ولذلك فهي ترفض فكرة استخدام الملتقيات الثقافية لأجل المعايدات، وتطمح إلى أن تتحول إلى ساحات حقيقية للنقاش وطرح الأفكار.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!