على هامش «الاستشراق»

إدورد سعيد... مؤسس الدراسات ما بعد «الكولونيالية» لا يمكن اختزاله في كتاب واحد

إدوارد سعيد
إدوارد سعيد
TT

على هامش «الاستشراق»

إدوارد سعيد
إدوارد سعيد

سيظلُّ إدوارد سعيد (مالئ الدنيا وشاغل الناس) حتى بعد ما يقرب من عقدين على رحيله. ليس في الأمر من مفارقة؛ فالرجل كان متعدد الاهتمامات، وكان يعوم في محيط تصبُّ فيه تيارات معرفية متعددة، فضلاً عن أنّه مؤسس - أو لنقُل المؤسس الأكبر إذا شئنا الدقة - لحقل الدراسات ما بعد الكولونيالية. الأهم من كل ذلك أنه كان يكتب بلغة الكولونياليين السابقين، ويخاطب العالم من قلب جامعة كولومبيا الأميركية التي هي أحد معاقل النخبوية الأكاديمية الأميركية. يمكن القول إن سعيد كان 10 رؤوس في جسد واحد. إن حياته وطفولته وشبابه ودراسته الأكاديمية، وعلى الشاكلة التي حكى عنها في كتاب مذكراته (خارج المكان)، كل ذلك يكشف عن حياة مكافحة أراد لها صاحبها اختراق الآفاق وعدم الركون إلى نموذج واحد مسبق.

نشرت دار الآداب اللبنانية، قبل أشهر قليلة، الترجمة الرابعة لكتاب «الاستشراق» (Orientalism) للراحل إدوارد سعيد، وهذا الكتاب هو بالتأكيد أيقونة سعيد التي نشرها أول مرة عام 1978، ثم أضاف لها فصلاً إضافياً (يسمّونه تذييلاً) في طبعات لاحقة. كان الإعلان عن الترجمة الجديدة - التي أنجزها الدكتور محمّد عصفور وقدّم لها تقديماً مطوّلاً الدكتور محمّد شاهين - مشوباً بنبرة احتفائية يُفهَمُ منها تحقيقُ انتصارٍ ساحق على المترجمين السابقين بالضربة القاضية، وواقع الأمر ينبئ بغير هذا. كان ممّا كتبه الدكتور شاهين في مقدّمته الاستقصائية للترجمة الجديدة: «لا بد في يومٍ من الأيام أن يحظى الاستشراق بترجمة ميسّرة تختزل كثيراً من الصعوبات التي يمكنُ أن يواجهها القارئ العربي...». سيعرف القارئ من هذه النبرة التبشيرية أنّ الترجمة الجديدة هي الوافية والكافية بموجبات تيسير وإشاعة مفاهيم «الاستشراق» بين القرّاء العرب كما أرادها سعيد. نعرف تماماً أن الدكتور كمال أبو ديب جعل من الترجمة الأولى للكتاب عام 1981 ميداناً تطبيقياً لبعض المناورات اللغوية البنيوية الثقيلة التي لا يستسيغها القارئ ولا موجب لها أصلاً، ثم جاءت ترجمة الدكتور محمد عناني عام 2006 وكانت مقبولة إلى حد كبير وتقدّم خريطة لأفكار الكتاب. قدّم كثيرون قراءات مهمّة وجديرة بالنظر بشأن الترجمة الجديدة، وأشيرُ على وجه التخصيص إلى المراجعة المهمّة التي قدّمها الدكتور حمزة بن قبلان المزيني، أستاذ اللسانيات في جامعة الملك سعود بالرياض، وجاءت بعنوان «ترجمة جديدة لكتاب الاستشراق»، ويمكن للقارئ أن يراجعها في مواقع عديدة منها موقع العربية الذي نشرها بتاريخ 1 أكتوبر (تشرين الأول) 2022. تزامن نشر الترجمة الجديدة لكتاب «الاستشراق» مع نشر سيرة سعيد التي كتبها تلميذه في كولومبيا تيموثي برينان بعنوان «أماكن العقل»، الذي ارتأى عصفور أن يجعله «أماكن الفكر». نُشِرت الترجمة الجديدة موقّعة بإمضاء الدكتور محمد عصفور أيضاً. كنتُ آمل شخصياً، ولأسباب كثيرة تعزّزت لديّ بعد قراءتي المادة الثمينة التي كتبها الدكتور المزيني، أن أقرأ الترجمة الجديدة لكتاب «الاستشراق» بترجمة أنجزها الدكتور المزيني، ولم يتسنّ له نشرها لأسباب (لوجيستية) تتعلّق بحقوق الترجمة، وقد أفاض الرجل في شرح حيثيات هذا الأمر في موضوعه المشار إليه أعلاه.
سأتناول في فقرات تالية مساءلات تخصُّ شخصية سعيد مثلما تخص ترجمات كتابه «الاستشراق»، وهي مساءلات غير تقنية لا تختص بمعاينات أو تدقيقات ترجمية أو مفاهيمية عامة بقدر ما تتناول طبيعة الحراك الترجمي والفاعلية التي على أساسها نختار ما نترجمُ من كتب دون غيرها، ومن أجل كل هذا اخترت عنوان «على هامش الاستشراق» لهذه المادة:

1- لماذا لم يعمل سعيد على رعاية مشروع ترجمة عربية لكتابه «الاستشراق» عندما كان حياً؟ نعرف من قراءتنا التقديم المسهب الذي قدّمه فوّاز طرابلسي لترجمة مذكّرات سعيد الموسومة «خارج المكان» (Out of Place)، أن الترجمة نالت مباركة سعيد. لماذا لم يفعل سعيد الأمر ذاته مع كتاب «الاستشراق» مع علمنا بأن الطبعة الأولى منه كانت عام 1978؛ أي أن ربع قرن فصل بين نشر «الاستشراق» ووفاة سعيد؟ لو أنّ ترجمة عربية لكتاب «الاستشراق» نُشِرت بمباركة سعيد لبطُلت حمى التسابق في نشر ترجمات عربية جديدة له.
2 - هل من المُجدي - كسياسة ترجمية - أن نعيد ترجمة كتاب تُرجِم ثلاث مرات من قبلُ؟ يروّجُ الإعلان للترجمة الجديدة للكتاب أنّ هذه الترجمة تذلّلُ كثيراً من الصعوبات المفاهيمية المرتبطة بفهم إدوارد سعيد ومقاربته لموضوع الاستشراق ودراسات ما بعد الكولونيالية بعامة، وهنا أتساءل بصوت عالٍ: هل تستحقُّ بعض التوضيحات المطلوبة من جانب المترجم (سواء جاءت كهامش أسفل المتن، أم جاءت كمسرد تعريفي إضافي للكتاب) إعادة ترجمته؟ ألم يكن من الأجدى ترجمة كتاب (جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية) الذي أصدره الراحل عام 1966 وبقي غير مترجم حتى اليوم؟
3- كثيرٌ من المترجمين يستمدّ طاقة فعله والقوة الدافعة لعمله الترجمي من الطاقة المكنوزة في اسم من يترجمُ له. كثير من المترجمين يسعى لأن يقترن اسمه بترجمة إحدى الكلاسيكيات المشهودة في الثقافة العالمية. أخشى أن يكون إدوارد سعيد اسماً جاذباً تدورُ في أفلاكه الجهود الترجمية التي تسعى لاستمداد طاقتها التأثيرية من جاذبية اسمه، وهي جاذبية لا يمكن إغفالها.
4- كل كاتب أصيل له بصمته، وبصمة إدوارد سعيد لا أظنّ أن بوسع مترجم عربي مجاراتها من غير الوقوع في «مطبات هوائية» مشتبكة، وربما كانت مذكراته المترجمة «خارج المكان» مصداقاً على ما أقول. إدوارد سعيد عقلٌ لا يكف عن التفكير في الجزئيات الصغيرة: انظروا له وهو يتحدّثُ بضع ثوانٍ في فيلم «الآخر»، سترون أنّ الكلمات تتدفق من فمه مثل شلالات نياغارا. حتى الغربيون المتمرّسون في تفاصيل اللغة الإنجليزية كانوا يرون في سعيد موضوعاً يستحق مزيداً من البحث وليس من اليسير مجاراته أو تفنيد أطروحاته أو مضاهاة إنجليزيته الديناميكية المتدفقة.
5- قد يجد بعضنا أحياناً من خطأ صغير هنا أو هناك من ترجمة سابقة مسوّغاً لترجمة جديدة للعمل، وبخاصة إذا كان العمل يُصنّفُ في فئة الكلاسيكيات الفكرية. هنا أقولُ إنّ تلك الهفوات الترجمية الصغرى، ومتى ما ظلّت في نطاق المثالب الترجمية ولم تتجاوزها إلى الفضاء المفاهيمي، ليست حُجّة تتطلبُ إعادة ترجمة الكتاب. يمكنُ نشر موضوع يشيرُ إلى تلك «المثالب» الترجمية لكي يكون القارئ الشغوف على دراية بها. لن يكون في مستطاع الأكاديمي المتخصص سوى الرجوع إلى أصل العمل وقراءته بلغته الأصلية إذا شاء تحصيل المعرفة من منابعها الأصلية.
6 - نعرف أنّ كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد تناول نماذج من الكتابات الاستشراقية التي تدور في مدارات الثقافة الإنجلوفونية والفرنكوفونية والجرمانية (الألمانية). ماذا بشأن المدارس الاستشراقية الجديدة ومنها - مثلاً - المدرسة السويدية؟ أخشى أن يكون التركيز على الخطاب الاستشراقي بنسخة (إدوارد سعيد) دافعاً لتعضيد اللغة اليسارية الجديدة (الراديكالية) التي تغضُّ الطرف عن المستشرقين المنصفين من ذوي الضمائر النزيهة في العالم. علينا ألا ننسى أبداً أنّ سعيد تناسى كثيراً من الأسماء المهمّة التي لم تكن أدواتٍ في تعضيد أطروحته الاستشراقية التي جوهرها «أسطرة الشرق والشرقي عبر تعميم مظاهر فردية أو فئوية تبتكر صورة متخلفة عنه تسمحُ بترويج خطاب عن الشرق يهدف إلى الهيمنة عليه ...».
7- ليس من السياسة الترجمية الناجحة أن نغضّ الطرف عن عشرات آلاف الكتب الجديدة في شتى الحقول المعرفية المهمّة، ثمّ نترجمُ كتاباً للمرة الرابعة حتى لو كان إحدى كلاسيكيات المعرفة الممهورة بتوقيع الراحل الكبير إدوارد سعيد.
سأقولُ من واقع خبرة شخصية: إدوارد سعيد أكبر من كتاب «الاستشراق»، وليس في مستطاع أي ترجمة عربية أن تنقل لنا ثراء عقله وتخومه المعرفية، ومن أراد اللحاق بهذه التخوم فليس له سوى أن يقرأ سعيد بلغته الإنجليزية الدفّاقة. «لا يوجد طريق ملكي إلى الهندسة»؛ هكذا أخبَرَنا إقليدس، وعلى الشاكلة ذاتها يمكننا القول ليس ثمة من طريق يسير إلى عقل سعيد وإلى عقل كلّ منتج أصيل لأعمال صارت كلاسيكيات معتمدة في عصرنا. الترجمة المتقنة قد تكون مفتاحاً لمن يريد الاستزادة ومعاينة الأصول الفكرية في مثاباتها العليا؛ لكنها لن تكون خاتمة الطريق بل معالم استرشادية على جانبيه.



أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة
TT

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية، من كتب وتحف وصور فردية وعائلية عبر مراحل حياتها. قدمت إيزابيل الليندي عبر أربع ساعات ونصف الساعة نصائح إلى الكُتاب الناشئين أو مشروع الروائيين الجدد، من خلاصة تجربتها الشخصية في كتابة ونشر 28 كتاباً، تمّت ترجمتها لعشرات اللغات عبر العالم وبِيعت منها ملايين النسخ. يضم الكورس عشرين نصيحة أو درساً مع أمثلة من تجربتها الشخصية أو تجارب كتاب تعدّهم أعلاماً في الأدب اللاتيني والعالمي، مثل غابرييل غارسيا ماركيز.

بدأت الليندي بنقطة أساسية في مقدمة الكورس، وهي أهمية «الصدق والأصالة» في أي حكاية، ثم انتقلت مباشرة إلى الحديث بإسهاب عن صنعة الكتابة بوصفها مهنة تحتاج إلى الكثير من التمرين والانضباط وتحديداً فترة البداية. كما تتطلّب طقوساً مهمة، وتنصح هنا بعدة أمور؛ من أهمها: اختيار يوم محدد يقرّر فيه الكاتب الالتزام بالكتابة. بالنسبة إليها شخصياً، فهو اليوم الذي تلقت فيه رسالة من ناشرتها الإسبانية التي تحدّتها بكتابة كتاب ثانٍ ناجح، بعد «بيت الأرواح»، ففعلت وكان ذلك يوم الثامن من يناير (كانون الثاني)، وهو اليوم الذي لم تغيّره بعد إنجاز عشرات الكتب. تشبه الليندي بداية الكتابة بعملية زراعة بذرة، قد تبدو في بداية نموها نبتة ضعيفة، إلا أنها ستصبح شجرة قوية هي «الكتاب الأول». ركزت أيضاً على ضرورة إبقاء الكاتب مسافة ضرورية من المادة الأساسية، مستعيرة مثال الإعصار فتقول: «حين تكون داخل الإعصار لا يمكنك الكتابة عنه»، وكذلك في الكتابة يجب أن تكون لديك «غرفة توفّر لك الصمت الداخلي والعزلة». بهذا المعنى تتوفر للكاتب تصوراته ومسافته اللازمة؛ ليكتب عن الشخصيات والحدث في أي عمل.

أما عن أهمية القراءة على طول الخط فتقول: «لا يمكن أن تكتب أدباً إن لم تقرأ وتقرأ كثيراً. ربما لكاتبك المفضل، أو غيره، فبذلك تتقن السرد دون انتباه إلى ما تتعلّمه». تنتقل الكاتبة إلى الحديث في أحد الدروس عن صوت الراوي، فتعده موضوعاً بسيطاً للغاية: «إنه الشخص الذي يروي الحكاية بكل تفاصيلها، وقد يكون الحديث بصيغة المتكلم، وهو أسهل بكثير من الحديث بلغة الأنا». ثم تنتقل بنا الليندي إلى موضوع النبرة في السرد، معرفة إياها بالمزاج الذي يأخذ طابعه من الحبكة، فإما أن يكون مستفزاً، مشوقاً، مثيراً... حسب التيمة الأساسية للعمل، سواء كان تاريخياً، رومانسياً أو تراجيدياً إلخ... وهنا تحث الكاتب على التخلي عن إحساس الخوف من عيوب الكتابة مثل ارتكاب الأخطاء، قليلة أو كثيرة. فهي تعدّ ذلك أمراً طبيعياً في عملية الكتابة وتحديداً كتابة الرواية.

وأولت الليندي اهتماماً كبيراً بالبحث عن المزيد، خصوصاً في الروايات التاريخية. فالتفاصيل هي ما يبعث الحياة في القصص. وهنا قدمت مثالاً عن كيفية بحثها قبيل كتابتها لرواية «ابنة الحظ». فتقول: «لقد بحثت في موضوع الرسائل التي كان يرسلها عمال مناجم الذهب، ويدفعون أونصة منه، مقابل إيصال رسالة إلى عائلاتهم. لقد كانت مهنة ساعي البريد خطيرة وتستغرق مخاطرة السفر لمدة قد تستغرق شهرين لعبور مسافة وعرة من الجبال إلى مكان إرسال الرسائل»، قرأت الليندي مثل هذه المعلومات في رسائل من أرشيف المكتبة الوطنية في تشيلي.

في منتصف هذه الدورة التعليمية، وتحديداً في الدرس التاسع، ركزت الليندي على تفصيل رسم شخصيات مقنعة: «ليس مهماً أن تحب الشرير في الرواية أو المشهد المسرحي، المهم أن تفهم شره». وكما في مجمل أجزاء الكورس، أعطت الكاتبة أمثلة من تجربتها الروائية وطريقتها في رسم ملامح شخصياتها، فهي تتجنّب الوصف الشكلي إن لم يكن ضرورياً، وإن اضطرت تحرص أن يكون مختلفاً وبعيداً عن المعتاد والكليشيهات.

احتلّت الحبكة والبنية موضوع الدرس الثاني عشر، وفيه عدّت إيزابيل أن أهم نصيحة يمكن إعطاؤها هي تشكيل بداية بسيطة للحبكة، فذلك يفسح مجالاً للشخصية أو الشخصيات كي تتجول بحرية في الزمان والمكان. أما الجملة الأولى فكانت موضوع الدرس الثالث عشر، وتعدّه الليندي مهماً جداً، فهي «الباب الذي يفتحه الكاتب لقارئه كي يدخل في الحكاية». أما المقطع الأول فهو يهيئ للصوت الأساسي في الرواية. مع ضرورة تجنب الكليشيهات، خصوصاً في الاستعارات التي قد تنقلب وتصبح فخاً مملاً.

خصصت الكاتبة درساً أيضاً عن الروتين والانضباط وعملية خلق عادة للكتابة، فهي بمثابة تكوين «عضلات لجسد الكتابة»، يتطلّب التمرين والتكرار. يلاحظ المستمع في هذا الدرس نقاطاً طُرحت في الدروس الأولى عن طقوس الكتابة. وهنا كما في «سن الأربعين، وأنا أعمل في وظيفتين، استلزم مني ذلك العمل منذ الساعة السابعة صباحاً والعودة في السابعة مساء». لم أكن أفوّت وقتاً لتدوين ملاحظاتي في دفتر أحمله معي أينما ذهبت «كطفلي الصغير»، وخلال عام كتبت 560 صفحة شكلت مسودة «بيت الأرواح». لقد صممت الليندي على كتابة ما تراكم في داخلها خلال السنوات الماضية، بعد مغادرتها القسرية لتشيلي، بسبب انقلاب بينوشيه الذي أطاح بسلفادور الليندي. استخدمت الكاتبة هذه الاستعارة أكثر من مرة؛ لتؤكد أهمية الشغف «إن كنت تود الكتابة، يمكنك فعل ذلك في أي مكان، فالكتابة كممارسة الحب، إن أردتها من أعماقك فستجد دوماً الوقت والمكان لفعلها».

في الدرس السادس عشر، تشبه الكاتبة تفاصيل الرواية بخصلات الشعر التي يمكن ضفرها بإتقان خصوصاً الخصلة الوسطى، فهي التي تجمع طرفي الحكاية بجزالة. يمكن للكاتب أن يضيف خصلات إضافية لجديلة الحكاية، ويجعل الشخصيات أكثر عدداً وقصصها أكثر تعقيداً. استخدمت الليندي مثال أي مسرحية من مسرحيات شكسبير، مشبهة إياها بعشرات الخصل المعقدة التي تتضافر معاً وتخلق نصاً مذهلاً.

أما عن التعاطي مع أصوات الرواية والانتباه لأصالة المكان الذي قد يتطلّب استخداماً معيناً بثقافة أو جغرافية ما، فقد خصّصت له الكاتبة أيضاً درساً مستقلاً أتبعته مباشرة بالحديث عن أهمية الحوار بين الشخصيات. وهنا أشارت الليندي إلى إمكانية تجريب أي كاتب للقراءة الشخصية بصوت عالٍ. مخطوط روايته مثلاً، قد يضطره الأمر إلى تعديل الحوار أو اختصاره.

بالاقتراب من نهاية تلك الدورة التعليمية المصغرة، تطرّقت الليندي إلى موضوع التصعيد، مستعيرة مثال نقاط الصمت بين العلامات الموسيقية ومدى أهميتها. وكذلك مثال من يلقون النكت الساخرة أو المزحات، حين يؤجلون جوهر المزحة تقريباً للنهاية، مما يجعل المستمع متشوقاً.

أربع ساعات ونصف الساعة أطلّت خلالها الكاتبة الشهيرة عبر منصة «مايسترو» في «هيئة الإذاعة البريطانية»، قدّمت خلالها إلى قرّائها ومحبيها خلاصة تجربتها في محبة الكتابة وطرائق صناعتها

أما عن نهاية القصة أو الرواية التي صمّمت على أن تكون نهاية النصائح، في آخر الكورس، فتكثفها بالقول: «في سياق الكتابة وتطوير الحبكة وتصعيدها، ليس مستغرباً أن يفهم الكاتب جميع شخصياته ويحدّد نبرات أصواتهم، وكذلك منتهى الحكاية ومآل الشخصية الأساسية أحياناً أو الشخصيات. قد تغيّر جملة أو حركة مسار الحكاية كلها، وتُعطي للنهاية لمسة لا تُنسى». استعارت الكاتبة كلمة واحدة من المشهد الأخير في رواية «الحب في زمن الكوليرا» لماركيز، عن العاشقين الأبديين في لقائهما المتأخر بعد خمسين عاماً من الفراق: «لقد أبحرا، أبحرا إلى الأبد». فتعلّق بالقول: «لو اكتفى الكاتب بجملة (أبحرا)، لن يكون لتلك النهاية ذات التأثير. حين أضاف لهما (إلى الأبد) منح الخلود لتلك النهاية، وأعطى القارئ مشهداً لا يُنسى».

اختتمت الليندي نصائحها المهمة بخلاصة شخصية وعامة عن النشر، مركزة على ضرورة الكتابة من أجل المتعة، لأنها بصفتها مهنة لن تمنح الشهرة أو المال بسهولة أو بسرعة. ومع ذلك حثت المستمع والمشاهد على الكتابة بكل الأحوال. وهنا نبهت الكاتبة على أهمية العلاقات الاجتماعية والمهنية لجميع الكتاب الناشئين، وحتى المشهورين. وكذلك على حضور مؤتمرات ومهرجانات تساعد جميعها على توسيع دائرة المعارف.

نصائح إيزابيل العشرون، أشبه بحكاية حب حقيقية عن تجربة الروائية الثمانينية التي لم يوقفها شيء عن الكتابة، لا المنفى ولا إخفاقات الزواج والطلاق لأكثر من مرة، ولا خسارة ابنتها الوحيدة... بل جعلت من كل محنة نقطة انطلاق، أو سبباً للكتابة، وهذا ما ذكرته في لقطة الدعاية للكورس: «إن الأدب العظيم غالباً ما ينطلق من المحن الشخصية أو العامة».

يُذكر أن هذه الدورة التعليمية وشبيهاتها غير مجانية، إلا أنها بالقياس لقيمتها وأهميتها تُعدّ رمزية، بل متواضعة وقد استقطبت «هيئة الإذاعة البريطانية» قبل إيزابيل الليندي كتاباً آخرين؛ مثل: مارغريت أتوود وسلمان رشدي وغيرهما؛ لتقديم محتويات مشابهة.