نادراً ما اهتمت الصحافة الفرنسية بزيارة مستشار ألماني إلى باريس، لكون الزيارات المتبادلة مع رئيس الجمهورية شبه أسبوعية. لكن مجيء أولاف شولتس إلى باريس ظهر أمس إلى قصر الإليزيه، بناء على رغبته، للقاء الرئيس إيمانويل ماكرون حول مائدة غداء، اعتبر حدثاً استثنائياً نظراً للصعوبات التي تعرفها راهناً العلاقات الفرنسية - الألمانية.
وجاء إلغاء الاجتماع الوزاري الدوري المشترك برئاسة المسؤولين المذكورين ليبيّن الفجوة التي أصابت العلاقات بين باريس وبرلين اللتين شكلتا، منذ إطلاق المشروع الأوروبي، المحرك الرئيسي. يضاف إلى ذلك أن أيّاً من المسؤولين لم يدلِ بأي تصريح، قبل اللقاء أو عقب انتهائه.
ومنذ أن أعلن عن تأجيل الاجتماع الوزاري المشترك، دأبت الوسائل الإعلامية الفرنسية بأنواعها على تشريح واقع العلاقات بين البلدين الشريكين وإبراز نقاط الخلاف.
وثمة توافق بين المحللين على أن التصدع مصدره الأول الحرب الأوكرانية وتبعاتها في ملفين أساسيين؛ مستقبل الأمن والدفاع في أوروبا، وكيفية التعامل مع أزمة الطاقة التي لها تأثيرها المباشر على التضخم وغلاء الأسعار وانخفاض القدرة الشرائية للمواطن. وكان قد تبين أن الحجة التي تلطى خلفها الطرفان لتبرير تأجيل الاجتماع والقائلة إنها تعود لأجندتهما، كانت واهية، وأن السبب الحقيقي هو اختلاف الرؤى حول 4 ملفات رئيسية يحتاج التوافق بشأنها إلى مزيد من المشاورات والتنسيق.
لم تتسرب تفاصيل عن مجريات الاجتماع، وخصوصاً عن نتائجه. إلا أن قصر الإليزيه وصف الاجتماع بأنه كان «بناءً جداً»، وأنه أفضى إلى تشكيل مجموعات عمل في مجالات الطاقة والدفاع والتطوير.
ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن مصدر رئاسي قوله إن المسؤولين «بحثا العلاقة الفرنسية - الألمانية بروح من العمل الوثيق جداً على المديين المتوسط والبعيد».
وكانت الرئاسة الفرنسية أصدرت بياناً ليل أول من أمس عدّدت فيه المحاور التي سيدور حولها الاجتماع. وأشار البيان إلى أن الطرفين «سيناقشان مسائل الدفاع والاقتصاد والطاقة من أجل تعزيز التعاون الفرنسي – الألماني، كما سيتناولان بشكل خاص التحديات المشتركة التي يواجهانها وأفضل وسيلة للتعامل معها متحدين ومتضامنين».
كذلك أوضح البيان أن المسؤولَين سيتناولان آخر تطورات الحرب الروسية على أوكرانيا، متوقعاً أن يعرض شولتس على مضيفه نتائج مؤتمر برلين الذي عقد الثلاثاء الماضي من أجل إعادة إعمار أوكرانيا.
وأمس، اعترف الوزير أوليفيه فيران، الناطق باسم الحكومة، عقب اجتماع مجلس الوزراء الفرنسي صباحاً برئاسة ماكرون، بوجود «صعوبات يتعين تخطيها» بين الطرفين، معتبراً أن أولويات أحد البلدين «لا تتوافق بالضرورة مع أولويات البلد الآخر». إلا أنه استدرك بالقول إن «قوة الثنائي الفرنسي - الألماني أنه قادر على التفاهم من أجل دفع أوروبا إلى الأعلى»، وإن فرنسا وألمانيا عازمتان على «إدامة عمل» المحرك الفرنسي - الألماني بفضل الصداقة الحية بينهما، التي سمحت بتحقيق تقدم كبير على الصعيد الأوروبي. وعلى الرغم من الابتسامات المتبادلة بين ماكرون وضيفه الألماني، فإن طبيعة علاقاتهما، الشخصية أو بين بلديهما، تعاني من اختلاف المقاربات بشأن كثير من القضايا. ويعني ذلك عملياً أن «الهيمنة» الفرنسية - الألمانية التقليدية على القرارات والسياسات الأوروبية في حال استمرار التجاذب بينهما ربما أصبحت من الماضي.
وتتخوف المصادر الفرنسية من أن تكون ألمانيا، في ظل شولتس وبسبب الحرب في أوكرانيا، آخذة بالتيمم نحو وسط وشرق أوروبا، وأن تشكل برلين واسطة العقد لهذا التجمع الجديد الذي برز مع مشروع «الدرع الفضائي الأوروبي».
وقال رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق، دومينيك دو فيلبان، إن الثنائي الفرنسي - الألماني «مصاب بالشلل»، مضيفاً أنه «لا يمكن في اللحظة الراهنة (أي فيما الحرب مشتعلة على التراب الأوروبي) قبول ألا تكون أوروبا قوية ومتحدة، وهذا يبدأ بحوار فرنسي - ألماني مثمر».
ويشكل استبعاد فرنسا من المشروع الألماني لبناء دفاع صاروخي مشترك (الدرع الفضائي) الذي تحلقت حوله 14 دولة أوروبية، بما فيها بريطانيا، إضافة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل، أحد الأسباب الرئيسية للتباعد بين العاصمتين. باريس اعتبرت أن برلين لم تأخذ في الاعتبار مبدأ «الأفضلية الأوروبية» لتحقيق الاستقلالية الاستراتيجية ودفع الصناعة الدفاعية الأوروبية إلى الأمام. ذلك أن هذا المشروع سيعتمد أساساً على منظومة «باتريوت» الأميركية و«آرو» الإسرائيلية وعناصر أخرى ألمانية، فيما يدير ظهره لفرنسا وإيطاليا، اللتين طوّرتا معاً منظومة للدفاع الجوي. ومنذ انتخابه رئيساً للمرة الأولى في العام 2017، سعى ماكرون لتعزيز الشراكات الدفاعية الأوروبية وبناء جيش أوروبي قادر على حماية المصالح الأوروبية. والحال أن مشروعين للتعاون في الصناعة الدفاعية بين باريس وبرلين لم يحققا تقدماً يذكر، ويتناولان تصنيعاً مشتركاً لطائرة المستقبل التي يفترض أن تحل محل «الرافال» الفرنسية و«التايفون» الأوروبية التي تشارك ألمانيا في إنتاجها. لكن برلين استدارت نحو الولايات المتحدة لشراء طائرة «إف 35». كما أن العمل على المشروعين الدفاعيين المشتركين يراوح مكانه، ما يعني أن مبلغ الـ100 مليار يورو التي خصصتها ألمانيا لتحديث سلاح قواتها لن يذهب إلى الشركات الأوروبية.
أصبح واضحاً اليوم أن الرؤية الألمانية لمستقبل أوروبا تختلف عن الرؤية الفرنسية. إذ استدارة برلين نحو وسط وشرق أوروبا ورغبتها الشديدة في ضم بلدان غرب البلقان وتوسيع الاتحاد الأوروبي إلى 30 حتى 36 عضواً لا تحظيان بحماسة فرنسية. فباريس تشدد على الحاجة لإنشاء نواة أوروبية صلبة أكثر اندماجاً، ولا تستعجل توسيع الاتحاد، على الرغم من قبول أوكرانيا ومولدافيا مرشحتين رسميتين للانضمام إليه. وعُدّ قرار برلين حقن 200 مليار يورو في الاقتصاد الألماني، وتوفير دعم للشركات والأفراد بسبب ارتفاع أسعار الطاقة من غير التشاور مع فرنسا أو أي طرف أوروبي آخر «أحادياً»، ومن شأنه زعزعة السوق الأوروبية الداخلية ونسف المنافسة العادلة بين الشركات.
أخيراً، يتباعد البلدان بخصوص كيفية التعامل مع أزمة ارتفاع أسعار الطاقة، خصوصاً الغاز. وقلب الخلاف رفض برلين مقترحاً تسير به عدة دول أوروبية، بينها فرنسا، لوضع سقف لأسعار مشتريات الغاز، ما من شأنه إلزام الدول المصدرة بخفض أسعارها حتى لا تخسر السوق الأوروبية. إلا أن برلين تعارض، بعد أن خسرت الغاز الروسي الذي كانت تعتمد عليه بنسبة 40 في المائة (بعكس فرنسا). فهي تتخوف من أن فرض حد أقصى للأسعار سيدفع المصدرين للتوجه للأسواق التي توفر لها مردوداً أعلى. كما أنها تحذر من أن إجراء كهذا سيشجع على مزيد من استهلاك الغاز، بينما المطلوب تخفيف الاعتماد عليه.
حقيقة الأمر أن الحرب الروسية على أوكرانيا بيّنت للدول الأوروبية، وخصوصاً القريبة من روسيا، والتي كانت سابقاً جزءاً من الاتحاد السوفياتي، أن المظلة الأميركية - الأطلسية هي الضامن الوحيد للحماية من روسيا. وبالتالي، فإن السعي لاستقلالية استراتيجية أوروبية، تدفع إليها فرنسا، لا معنى له في الوقت الحاضر.
إنه فصل جديد في تاريخ العلاقات بين دولتين قد فتح بسبب تضارب المصالح والرؤى. إلا أن حالة الفتور ليست مستجدة، وسبق أن اعترت علاقاتهما، وقد نجحا في تخطيها. وقمة الأمس بين شولتس وماكرون تندرج في سياق السعي لاستعادة روح التعاون والتكامل السابقة. لكن من المبكر الحكم المسبق على إمكانية النجاح أو الفشل.
ماكرون وشولتس يسعيان لتخطي خلافاتهما
تشكيل لجان عمل مشتركة في مجالات الطاقة والدفاع والتطوير
ماكرون وشولتس يسعيان لتخطي خلافاتهما
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة