من أجل اكتشاف «مناطق القوة» في السرد العربي الحديث

من أجل اكتشاف «مناطق القوة» في السرد العربي الحديث
TT

من أجل اكتشاف «مناطق القوة» في السرد العربي الحديث

من أجل اكتشاف «مناطق القوة» في السرد العربي الحديث

صدر حديثاً عن مؤسسة «أبجد» للترجمة والنشر والتوزيع ببغداد الجزء الثاني من كتاب الدكتورة نادية هناوي «علم السرد ما بعد الكلاسيكي» بعنوان «السرد غير الواقعي» وبواقع أربعمائة وأربع عشرة صفحة. وكان الجزء الأول من الكتاب قد اهتم بما قدَّمه منظّرو السرد غير الطبيعي من كشوفات وتصورات تجديدية، أما الجزء الثاني فاختص بالبحث فيما كانت الدكتورة هناوي قد مضت في اختباره منذ سنوات في تجربتها البحثية حتى اختمر مشروعاً نقدياً خاصاً بها، رسمت أبعاده وخططت له في شكل نظرية في السرد العربي، تتمثل في «السرد غير الواقعي» كأطروحة سعت فيها إلى التحرر من موالاة المدرسة الفرنسية مع عدم الانحياز إلى المدرسة الانجلو أميركية.
وتؤكد المؤلفة، أن السرد غير الواقعي ليس هو السرد الخيالي الذي يطلق على مرويات الأزمان الغابرة، ولا هو مضاد أو معارض للسرد الواقعي أياً كانت صورته الواقعية، بل هو سرد يعاد إنتاجه على وفق راهنية الواقع وفي الوقت نفسه التحرر منها عبر المكوث خارجها والانشداد إلى مجاهيل الواقع. إنه سرد الواقع اللاواقعي الذي فيه للكاتب كل الحق في أن يسلك أي مسلك من مسالك التخييل وينتهج أي صورة من صور الواقعية صانعاً عالماً سردياً يوصف بأنه غير واقعي.
وترى المؤلفة في أطروحتها عن السرد غير الواقعي، أن مفردة «الواقعي» تعني كل فاعل له وجود مادي أو حضور عياني حقيقي غير خيالي، أما مفردة «غير الواقعي» فتعني كل ما هو خيالي لا قدرة له على ما يختص به الواقعي، ومع ذلك يتركز الفعل السردي عليه ويكون له منظور محدد مما نجده في سردنا العربي قديماً وحديثاً. ومما ذهبت إليه أيضاً، أن السرد علم دائم التبدل مثل سائر العلوم الإنسانية الأخرى. وإذا كان هذا العلم قد خضع قبل عقود للنظر البنيوي وما بعد البنيوي، فإن راهنية هذا العلم تجعله مستمراً في البحث عن نظريات يتلافى بها ما لحقه من نقص مفاهيمي وقصور اصطلاحي. وكل علم جديد لا بد من أن يضيف إلى سابقه ما ليس فيه، والهدف تطوير حركة العلم باتجاهات جديدة ومغايرة... ومن دونها لا يكون سوى الركود والتراجع مهما كانت أبعاد العلم رحبة وفرضياته دقيقة وسياقاته قابلة لأن تستمر طويلاً.
وتجد هناوي في «السرد غير الواقعي» دليلاً من الدلائل التي تكشف عما في العقل الروائي والقصصي العربي من احترام لتقاليد أسلافه السردية التي أرضيتها في الأساس غير واقعية ومنها اغتنى الأوروبيون وبنوا عليها نهضتهم الأدبية الحديثة. وإذا كان مؤرخو الأدب القصصي قد شطبوا على تلك التقاليد الأصلية واتخذوا من تقاليد السرد الغربي، وأغلبها واقعية، معايير للريادة فإنهم بذلك قد قللوا من أهمية اللاواقعية وعدّوا الواقعية هي الأساس. وتؤكد المؤلفة، أنه على الرغم من هذا اللهاث نحو الواقعية في القصص والروايات العربية على سعته، فإنه لم يمسك بعشر هذا الواقع في متغيراته ومخبوءاته ليظل كثير من تفاصيله وأسراره مخبّأ، لا يمكن بلوغه إلا باللاواقعية مما كان السرد العربي القديم قد تحلى به وتمرس فيه.
أما الغاية من وراء وضع نظرية «السرد غير الواقعي» فهي اكتشاف ما في سردنا العربي الحديث منه والقديم من مناطق قوة ومكامن غنى، تفتح أمام النقد العربي المعاصر مسارات جديدة في الوصف والتحليل والتأويل المحايث واللامحايث، وبالشكل الذي يعطي لنقدنا العربي هويته العلمية التي بها يساهم في تطوير النقد العالمي وإغنائه بالجديد والنافع من خلال الوقوف على أهم تقاليد السرد العربي واكتشاف ما يختفي في داخله من منظورات ومفاهيم غاب كثير منها عن أعين النقاد بسبب عدم مبالاتهم بالمعاينة في أهميتها الأبستمولوجية وما يمكن أن يستخلص منها من قيم واعتبارات.
هذا، واشتمل الكتاب في جزئه الثاني على فصول أربعة؛ اهتم الفصل الأول بتقعيد مفاهيم الواقع واللاواقع والخيالية والإدراك الواعي ودواعي اللاواقعي، وجاء الفصل الثاني مخصوصاً بتحديد بروتوكولات السرد غير الواقعي وبمباحث أربعة، اتبعه الفصل الثالث بكشف إشكاليات السرد غير الواقعي وبمباحث أربعة أيضاً، وتناول الفصل الرابع قضايا السرد غير الواقعي من قبيل العواطف واللامحاكاة والطفولة والمناورة والأتوبوغرافية والبيئية، وغيرها. وكشفت المؤلفة عن أن للكتاب جزءاً ثالثاً قيد الطبع.


مقالات ذات صلة

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
TT

أسامة مسلم وسارة ريفنس وبيت الطاعة الأدبي!

توافد  العشرات في معرض الجزائر للحصول على  نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم
توافد العشرات في معرض الجزائر للحصول على نسخة موقعة من رواية" خوف" لأسامة مسلم

أراقب باهتمام كبير عالمنا المتغير هذا. لعلك أنت أيضاً تفعل ذلك. تتمعن فيه وهو يعيد تشكيل ذاته مثل وحش أسطوري، في زمن إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ وما لهما وما عليهما... في زمن الروبوتات المؤنسنة والعقول الذكية الاصطناعية وما لها وما عليها، تحدُث من حين لآخر هزات عنيفة تحلج بعض العقول الهانئة، ذات القناعات القانعة، فتستيقظ بغتة على أسئلة طارئة. مدوِّخة بلْ مكهرِبة.

- ما هذا الذي يحدث؟

تماماً كما حدث في المعرض الدولي للكتاب في الجزائر، حدث ذلك منذ طبعتين في الصالون الدولي للكتاب في باريس، إذ حضر كتاب كبار ذوو شهرة عالمية، كل واحد منهم يركب أعلى ما في خيله، وحطّت رحالَها دورُ نشرٍ لا يشقّ لها غبار. لكن المنظمين والمشاركين والملاحظين والمراقبين والذين يعجبهم العجب، والذين لا يعجبهم العجب، على حين غرة وفي غفلة من أمرهم، فوجئوا بآلاف القادمين من الزوار شباباً وبالغين، كلهم يتجهون صوب طاولة، تجلس خلفها كاتبة في العشرينات، لا تعرفها السجلات العتيقة للجوائز، ولا مصاطب نقاش المؤلفين في الجامعات، أو في القنوات الشهيرة المرئية منها والمسموعة. الكاتبة تلك شابة جزائرية تفضّل أن تظلَّ حياتها الخاصة في الظِّل، اسمها سارة ريفنس، وتُعد مبيعات نسخ رواياتها بعشرات الملايين، أما عدد قرائها فبعدد كتّاب العالم أجمعين.

وكالعادة، وكما حدث منذ سنوات مع الروائية الجزائرية الشابة سارة ريفنس، أثار القدوم الضاج للكاتب السعودي أسامة مسلم ذهول جل المهتمين بالشأن الثقافي والأدبي، حين حضر إلى المعرض الدولي للكتاب في الجزائر 2024. وقبله معرض الكتاب بالمغرب ومعارض كتب عربية أخرى، وفاجأ المنظمين والزوار والكتاب فيضانُ نهر هادر من الجموع الغفيرة الشابة من «قرائه وقارئاته». اكتظ بهم المكان. جاءوا من العاصمة ومن مدن أخرى أبعد. أتوا خصيصاً للقائه هو... هو وحده من بين الكتاب الآخرين الكثر المدعوين للمعرض، الذين يجلسون خلف طاولاتهم أمام مؤلفاتهم، في انتظار أصدقاء ومعارف وربما قراء، للتوقيع لهم بقلم سائل براق حبرُه، بسعادة وتأنٍّ وتؤدة. بخط جميل مستقيم، وجمل مجنّحة منتقاة من تلافيف الذاكرة، ومما تحفظه من شذرات ذهبية لجبران خليل جبران، أو المنفلوطي أو بودلير، أو كلمة مستقاة من بيت جميل من المعلقات السبع، ظلّ عالقاً تحت اللسان منذ قرون.

لا لا... إنهم جاءوا من أجله هو... لم تأتِ تلك الجموع الغفيرة من أجل أحد منهم، بل ربما لم ترَ أحداً منهم، وأكاد أجزم أنها لم تتعرف على أحد منهم... تلك الجموع الشابة التي ملأت على حين غرة أجنحة المعرض، ومسالكَه، وسلالمَه، وبواباتِه، ومدارجَه، واكتظت بهم مساحاته الخارجية، وامتدت حتى مداخله البعيدة الشاسعة. يتدافعون ويهتفون باسم كاتبهم ومعشوقهم، هتافات مضفورة بصرخات الفرح:

- أووو... أووو... أووو أسامة...!!

يحلمون بالظفر برؤيته أخيراً عن قرب، وبلقائه هذه المرة بلحمه وعظمه، وليس شبحاً وصورة وصوتاً وإشارات خلف الشاشات الباردة لأجهزتهم الإلكترونية. يأملون بتوقيعه على الصفحة الأولى من إحدى رواياته، ولتكن روايته «خوف» مثلاً.

هكذا إذن... الأدبُ بدوْره، أضحى يرفض بيت الطاعة، بل يهدمه ويِؤسس قلعته الخاصة، التي تتماهى مع هندسة ذائقة العصر الجديدة، القابلة للنقاش. إنها الإشارة مرة أخرى ومنذ ظهور الكائن البشري من نحو ثلاثة مليارات سنة، على أن الزمن يعدو بالبشر بسرعة مدوخة، بينما هم يشاهدون - بأسف غالباً - حتف الأشياء التي تعوّدوا عليها، وهي تتلاشى نحو الخلف.

من البديهي أن الكتابة على الصخور لم تعد تستهوي أحداً منذ أمد بعيد، سوى علماء الأركيولوجيا الذين لهم الصبر والأناة، وقدرة السِّحر على إنطاقها، وقد أثبتوا ذلك بمنحنا نص جلجامش، أول نص بشري كتب على الأرض، وأما نظام الكتابة فقد تجاوز معطى الشفهية إلى الطباعة، ثم إلى الرقمية، وتكنولوجيا المعلومات، والذكاء الاصطناعي و...!

على ذِكر الذكاء، فليس من الذكاء ولا الفطنة التغاضي عن الواقع المستجد، أو التعنت أمام فكرة أن العالم في تغير مدوّ وسريع، وقد مسّ سحره كل جوانبه ومنها سوق الأدب، ولا بد من الاعتراف أن المنتِج للأدب كما المستهلك له، لم يعودا خاضعين في العرض والطلب لشروط أسواقه القديمة، وإن لم تنقرض جميعها، في ظل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي وتوفر الـ«بلاتفورم» و«يوتيوب» و«إنستغرام» و«تيك توك» و«فيسبوك» وهاشتاغ وما جاورها.

لكن الأمر الذي لا بد من توضيحه والتأكيد عليه، أن دمغة الأدب الجيد وسمة خلود الإبداع، لا تكْمنا دوماً وبالضرورة في انتشاره السريع، مثل النار في الهشيم، وقت صدوره مباشرة، وإلا لما امتد شغف القراء عبر العالم، بالبحث عن روايات وملاحم وقصص عبرت الأزمنة، بينما لم تحظَ في وقتها باهتمام كبير، والأمثلة على ذلك عديدة ومثيرة للتساؤل. أسامة مسلم، وسارة ريفنس وآخرون، كتّاب بوهج ونفَس جديدين، على علاقة دائمة ووطيدة وحميمية ومباشرة مع قرائهم عبر وسائط التواصل الاجتماعي، فلا يحتاجون إلى وسيط. مؤلفون وأدباء شباب كثر عبر العالم، من فرنسا وأميركا وإنجلترا وكندا وغيرها مثل Mélissa Da Costa - Guillaume Musso - Laura Swan - Morgane Moncomble - Collen Hoover - Ana Huang وآخرين وأخريات ينتمون إلى عالم رقمي، تسيطر فيه عناصر جديدة تشكل صلصال الكتابة وجسر الشهرة... لم يمروا كما مر الذين من قبلهم على معابر الأدب، وتراتبية مدارسه المختلفة التي وسمت مراحل أدبية متوهجة سابقة لهم، ولم يهتموا كثيراً بالنّسَب الجيني لأجدادهم من الروائيين من القارات الخمس بمختلف لغاتهم، ولم يتخذوا منهم ملهمين، ولا مِن مقامهم هوى. كتابٌ شباب، أضحت مبيعات رواياتهم تتصدر أرقام السوق، فتسجل عشرات الملايين من النسخ، وتجتاح الترجمات عشرات اللغات العالمية، ودون سعي منهم ترصد ذلك متابعات صحافية وإعلامية جادة، وتدبج عنهم مقالات على صفحات أكبر الجرائد والمجلات العالمية، وتوجه لهم دعوات إلى معارض الكتب الدولية. كتاب لم يلجئوا في بداية طريقهم ومغامرتهم الإبداعية إلى دور النشر، كما فعلت الأجيال السابقة من الأدباء، بل إن دور النشر الكبيرة الشهيرة لجأت بنفسها إليهم، طالبة منهم نشر أعمالهم في طباعة ورقية، بعد أن تحقق نجاحهم من خلال منصات النشر العالمية وانجذب إليهم ملايين القراء. فرص سانحة في سياق طبيعي يتماهى مع أدوات العصر مثل: Wattpad - After Dark - nouvelle app - Creative Commons وغيرها.

ولأن التفاؤل الفكري يرى فرصة في كل عقبة، وليس في كل فرصة عقبة كما جاء على لسان وينستون تشرشل، ولأن الوعي بالحداثة يأتي متأخراً زمنياً، فإن ما يحدثه الكتّاب الروائيون الشباب Bests eller البستسيللر في العالم، من هزات مؤْذنة بالتغيير، ومن توهج استثنائي في عالم الكتابة، ومن حضور مُربك في معارض الكتاب، تجعلنا نطرح السؤال الوجودي التالي: هل ستتغير شروط الكتابة وتتبدل مقاييسها التقليدية، وهل ستنتفي معارض الكتاب أم تتغير. وكيف ستكون عليه إذن في الأزمنة المقبلة؟