في دراسة الطبيعة والمجتمع... للعلم معان مختلفة

فرنسي يحمل لافتة كتب عليها «إن الإضراب أفضل من التقاعد البائس» خلال مظاهرة في باريس قبل أيام (أ.ف.ب)
فرنسي يحمل لافتة كتب عليها «إن الإضراب أفضل من التقاعد البائس» خلال مظاهرة في باريس قبل أيام (أ.ف.ب)
TT

في دراسة الطبيعة والمجتمع... للعلم معان مختلفة

فرنسي يحمل لافتة كتب عليها «إن الإضراب أفضل من التقاعد البائس» خلال مظاهرة في باريس قبل أيام (أ.ف.ب)
فرنسي يحمل لافتة كتب عليها «إن الإضراب أفضل من التقاعد البائس» خلال مظاهرة في باريس قبل أيام (أ.ف.ب)

القرن السابع عشر، قرن حاسم في تاريخ البشرية، ففيه حدثت ثورة معرفية غير مسبوقة. في القرن السابع عشر نشر إسحاق نيوتن نظريات وقوانين المادة والحركة التي فتحت مساراً جديداً تماماً لمعرفتنا بالكون. غير أن وصف هذه الثورة المعرفية بـ«العلم» لم يحدث إلا في القرن التاسع عشر، عندما ميز الفرنسي أوغيست كومت لأول مرة بين الفلسفة الطبيعية (natural philosophy) والعلم، فحتى ذلك الوقت كان إنتاج المعرفة العلمية امتداداً لتقاليد الفلسفة الطبيعية المعروفة منذ زمن أرسطو. المفارقة هي أن كومت لم يكن من منتجي المعارف الفيزيائية، ولكنه كان الداعية الأول، أو على الأقل الأشهر والأهم، لتأسيس «علم الاجتماع (sociology)».
كان كومت مفتوناً بالتطور الحادث في العلوم الطبيعية، فدعا إلى تأسيس علم يدرس المجتمع، مسترشداً بالمنهج المتبع في العلوم للطبيعة، حتى إنه سمى العلم الاجتماعي الذي دعا إليه بـ«الفيزياء الاجتماعية».
وضع كومت أسس الفلسفة/ الوضعية وروج لها باعتبارها المنهج العلمي لدراسة المجتمع، فنشر في ثلاثينات القرن التاسع عشر كتابه «منهج الفلسفة الوضعية» في خمسة أجزاء، خصص الأجزاء الثلاثة الأولى منها لاستعراض التقدم الحادث في علوم الطبيعة ومناهجها المتبعة، فيما خصص الجزأين الأخيرين لشرح تصوراته عن علم الاجتماع الذي تبنى الدعوة إليه.
لتعزيز دعوته لتأسيس علم الاجتماع، قال كومت إن العلم الجديد سيعالج المشكلات التي يعاني منها المجتمع.
كان هذا في أعقاب الثورة الفرنسية، بكل ما جلبته من تحديات لبلده فرنسا. ربما كان هذا أحد الفروق المبكرة بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، فبينما لعب الفضول والرغبة في الاكتشاف والمعرفة الدور الرئيس في تطوير العلوم الطبيعية، فإن المنفعة الاجتماعية كانت وراء الدعوات المبكرة لتأسيس العلم الاجتماعي، في مفارقة كبرى مع المآل التاريخي لنوعي المعرفة بعد قرنين من الزمان، حيث تضاعفت القيمة النفعية للعلوم الطبيعية آلاف المرات، فيما تحوم شكوك حول المنفعة التي تجلبها العلوم الاجتماعية. صحيح، إن بعض مؤسسي العلم الطبيعي الحديث - فرنسيس بيكون نموذجاً - دعوا العلماء لتركيز جهودهم على المعرفة المفيدة، إلا أن هذا لم يكن سوى رأي الأقلية الذي لم يتوقف عنده أحد، حتى إن العلم الحديث لم يسهم مباشرة في تطوير المخترعات وزيادة الثروة إلا بعد فرنسيس بيكون بأربعة قرون.
فالمخترعات الحديثة، التي غيرت شكل العالم خلال الثورة الصناعية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لم تتم على يد علماء، إنما تمت على يد فئة جديدة من المبادرين المبتكرين، الذين امتلكوا معارف تقنية، وقدراً مناسباً من الثروة، واتبعوا أساليب التجربة والخطأ لتطوير مخترعات عظيمة مثل النول الميكانيكي والقاطرة البخارية والمصباح الكهربائي ومحرك الاحتراق والسيارة.
لقد تم تطوير كل هذه المخترعات بعيداً عن الأكاديميات العلمية، وعلى يد مستثمرين طموحين. «المستثمر المخترع» هو الفئة التي قادت الثورة الصناعية، وكان على العالم أن ينتظر حتى القرن العشرين لتتكون الرابطة الأقوى بين العلم والتكنولوجيا والصناعة في عصر اقتصاد المعرفة الراهن.
العلوم الطبيعية تدرس الثبات والاستمرارية، بينما العلوم الاجتماعية تدرس التغير والانقطاع، وهذا فارق شديد الأهمية بين نوعي المعرفة.
المادة بأشكالها وأحوالها هي موضوع دراسة العلوم الطبيعية، بكل ما تتسم به المادة والقوانين الحاكمة لها من ثبات منذ الانفجار الكبير. على العكس من ذلك فقد ولد العلم الاجتماعي في القرنين الثامن عشر والتاسع، عندما أخذ المجتمع في التغير بسرعة بسبب المطبعة، وانتشار التعليم، والصناعة، وسهولة السفر، وتراكم الثروات، وظهور طبقات اجتماعية جديدة، ونشوب ثورات كاسحة قلبت النظام الاجتماعي رأساً على عقب.
هذه التغيرات السريعة هي ما لفت نظر علماء الاجتماع، وهي السبب الذي من أجل دراسته تأسس العلم الاجتماعي، فهل درس الآباء المؤسسون لعلم الاجتماع، ماركس ودوركايم وفيبر، شيئاً سوى التغير الاجتماعي؟
العلم الطبيعي يدرس الظاهرة الطبيعة الثابتة فيشرحها (explain)، فيما العلم الاجتماعي يدرس الظاهرة الاجتماعية المتغيرة، فيزيد معدلات تغيرها سرعة.
عندما يقول الماركسيون إن الرأسمالية نظام محكوم عليه بالسقوط بفعل تناقضاته، وإن الثورة هي طريق خلاص البروليتاريا المعذبة، فهم يحرضون العمال لتنظيم أنفسهم، بينما تأخذ الحكومات والرأسماليون حذرهم، فيقدمون تنازلات للعمال، ويجتهدون لاختراق تنظيماتهم النقابية والحزبية، فتكف الطبقة العاملة عن أن تكون معذبة، ولا تحدث الثورة، ويستمر النظام الرأسمالي باقياً.
الماركسية، ومثلها كل النماذج المعرفية راديكالية الطابع، تخلط بين تفسير الظاهرة الاجتماعية والعمل بنشاط لتغيير الواقع الاجتماعي.
الحركية الأكاديمية (academic activism) المنتشرة في جامعات غربية كثيرة ترفع الحواجز بين قاعات الدرس والميدان، فيجري تسييس العلم الاجتماعي، وتختلط وظائف الشرح والتفسير والتعبئة والتحريض والتغيير.
علوم الطبيعة تراكمية، تتراكم فيها المعرفة طبقة فوق أخرى بشكل تدريجي، فيبحث العلماء كل في مجال اهتمامه، انطلاقاً من الافتراضات نفسها المستمدة من النموذج المعرفي paradigm، الذي يتوافق العلماء على صلاحيته كنموذج تفسيري للكون وظواهر الطبيعة، والذي يعد العمل في إطاره شرطاً للتمتع بالشرعية والاعتراف من الجماعة العلمية.
غير أن المشكلات تتراكم، ويتزايد عدد الأسئلة التي يعجز النموذج المعرفي السائد عن الإجابة عنها بشكل مقنع، فيظهر نموذج جديد يقدم إجابة عن الأسئلة التي وقف النموذج السابق أمامها عاجزاً.
هذه هي لحظة حدوث الثورة العلمية، التي يحدث فيها ما أسماه توماس كون «استبدال النموذج (paradigm shift)»، فيحل النموذج الجديد محل النموذج القديم، وتنتقل الممارسة العلمية كلياً إلى الإطار والنموذج الجديد.
لقد مثل النموذج المعرفي الذي طوره إسحاق نيوتن في نهايات القرن السابع عشر، النموذج المتوافق عليه بين كل العلماء لأكثر من قرنين من الزمان، حتى جاء ألبرت أينشتاين في مطلع القرن العشرين ليضع نظرية النسبية، لتصبح هي النموذج والإطار الجديد الذي تتم الممارسة العلمية في داخله، وفقط في داخله.
تتطور العلوم الاجتماعية وفقاً لمنطق مختلف، فهناك قدر أقل من التراكم وقدر أكبر من التوازي والتجاور. دارس العلوم الاجتماعية لا يمكنه التقدم إلى الأمام دون أن يقرأ الأصول الكلاسيكية بنفسه، والعلماء الاجتماعيون ما زلوا يقرأون ماركس وفيبر وميكيافيللي وأرسطو.
على العالم الاجتماعي الجيد أن يبدأ القصة من بدايتها في كل مرة؛ لأن التراكم محدود، ولأن كل قراءة طازجة للكلاسيكيات تخلق فرصة لتأسيس جديد تماماً. أمر كهذا لا يعد ضرورياً بالمرة لدى علماء الطبيعة، فالمرء بإمكانه أن يصبح عالم فيزياء متميزاً دون أن يقرأ النصوص التي كتبها كوبرنيكس وجاليلي ولا حتى نيوتن، فهو يصدق ما نقله له عنهم من سبقه من العلماء؛ لأنهم جميعاً يعملون ضمن النموذج المعرفي نفسه، ويفهمون النصوص العلمية بالشكل نفسه.
النماذج المعرفية في العلوم الاجتماعية لا تزيح بعضها، أو تحل محل بعضها البعض. النماذج الجديدة تظهر، فتزاحم النماذج القديمة، لكن لا تحل محلها. الماركسية والحركات الاجتماعية والبنائية الوظيفية والنسوية وما بعد الكولونيالية، هي قائمة جزئية بنماذج معرفية شائعة في العلوم الاجتماعية في الوقت الراهن. تعدد النماذج المعرفية، وما يأتي معها من تعدد البرامج والتقاليد البحثية يصيب العلم الاجتماعي بالتفتت، ويجعله فاقداً لبؤرة التركيز، له هويات متعددة، فنبدو أحياناً كما لو كنا نتحدث عن علم اجتماعي متعدد، وليس علم اجتماعي واحد.
لكن ماذا يبقى من العلوم الاجتماعية لو فقدت التعددية الراهنة؟ هل ستصبح العلوم الاجتماعية أفضل حالاً لو انضبط العلماء جميعاً في إطار نموذج معرفي واحد، الماركسي أو الوظيفي أو النسوي؟
الإجابة هي بوضوح لا.
يبدو أن تشتت الهوية هو الثمن المتعين على العلم الاجتماعي دفعه للحفاظ على التعدد الضروري لفهم ظاهرة اجتماعية معقدة تستعصي على التبسيط والاختزال.
ربما كانت المشكلة ليست في تعدد النماذج المعرفية، وإنما في حروب القبائل التي تنشب بين جماعات العلماء والباحثين من المدارس العلمية المختلفة، والتي تمنع تعظيم الاستفادة من تعدد النماذج والمدارس، فتدفع المعرفة لتعدديتها ثمناً أعلى بكثير مما يمكن أن تدفعه لو أن هناك درجة أعلى من التعايش والتعاون العابر للنماذج المعرفية.
* باحث مصري



خط الفقر يلتهم السوريين ولا انفراجات اقتصادية بلا مسار سياسي

عروض على المواد الغذائية وليس هناك من يشتري (الشرق الأوسط)
عروض على المواد الغذائية وليس هناك من يشتري (الشرق الأوسط)
TT

خط الفقر يلتهم السوريين ولا انفراجات اقتصادية بلا مسار سياسي

عروض على المواد الغذائية وليس هناك من يشتري (الشرق الأوسط)
عروض على المواد الغذائية وليس هناك من يشتري (الشرق الأوسط)

مع تشكيل الحكومة السورية الجديدة برئاسة محمد الجلالي، تصدرت مسألة تحسين الأوضاع المعيشية مطالب المواطنين الذين أنهك الفقر غالبيتهم العظمى. وبينما لم يكسر التطور الحاصل، حالة اليأس من حدوث انفراجة، بسبب معاناة الأسر مع الحكومات السابقة، خصوصاً الأخيرة التي وُصفت بـ«حكومة التجويع»، استبعدت مصادر متابعة أن تستطيع الحكومة الجديدة انتشال البلاد من التدهور الاقتصادي الحاد، لأن الأمر مرهون بحصول تقدم على المسار السياسي المجمد، ولأن رئيس الحكومة وأعضاءها «ليسوا أصحاب قرار»، بل مجرد «موظفين» ينفّذون قرارات السلطات العليا.

مهمة مستحيلة

يأتي تشكيل الحكومة الجديدة في وقت تعاني فيه كل القطاعات في مناطق الحكومة السورية من تدهور ينحدر بشكل يومي إلى قعر جديد، ومن تفاقم الفساد، وتعمق الفقر والجوع وازدياد نسبتهما.

وتقول مهندسة تقطن وسط دمشق: «فقدنا القدرة على التحمل. وأحياناً تفوق وجبة البيض قدراتنا».

وتشهد الأسواق حالة انكماش غير مسبوقة رغم حصول تخفيضات بنسبة 20 إلى 50 في المائة على كثير من المواد الأساسية والغذائية منذ نحو أسبوعين أو أكثر حسبما رصدت «الشرق الأوسط».

لكنَّ صاحب بقالية في منطقة الزاهرة جنوبي دمشق، يؤكد أنه «لا يوجد إقبال على الشراء، لأنه لا توجد سيولة بين الناس التي تسعى لتأمين الخبز».

طفلان يفترشان الشارع في أحد أحياء جنوب دمشق (الشرق الأوسط)

محمد، وهو من سكان حي «دف الشوك» شرقي دمشق، يقول: «لا كهرباء، وتأمين الماء يحتاج إلى مرتب موظفَين اثنين، وأسطوانة الغاز باتت تصل كل 90 يوماً... هذه ليست عيشة. يجب تأمين الحد الأدنى من الخدمات الأساسية».

وما زاد الأوضاع سوءاً، تجدُّد أزمة المواصلات منذ ثلاثة أسابيع، بسبب توقف محطات الوقود عن تزويد حافلات النقل الخاصة بمادة المازوت نتيجة النقص الحاد.

ويؤشر إلى ذلك مشهد تجمع الحشود في مواقف الحافلات، وانتشار أعداد كبيرة في الشوارع الرئيسية عائدين إلى منازلهم سيراً على الأقدام.

«الحكومة مشكورة أوصلتنا إلى هذا الحال»، يقول موظف لـ«الشرق الأوسط» وهو عائد مشياً من مكان عمله في وسط دمشق. ويوضح: «عدا عن الانتظار الطويل، الركوب في حافلة يحتاج إلى خوض معركة بسبب الازدحام». ويلفت إلى انقطاع كثير من زملائه عن العمل بسبب ندرة المواصلات، وبعضهم لعدم توفر أجور النقل لديهم، بينما يؤكد سائق حافلة توقف غالبية أصحاب حافلات النقل عن العمل لعدم توفر المازوت.

أول رئيس حكومة من الجولان

وبعد عشرة أيام من تكليف الجلالي، خلفاً لرئيس الوزراء السابق حسن عرنوس، صدر مرسوم رئاسي بتشكيلة الحكومة الجديدة. ومن أبرز التغييرات تعيين نائب وزير الخارجية والمغتربين بسام الصباغ وزيراً للخارجية، خلفاً للوزير فيصل المقداد الذي أصبح نائباً لرئيس الجمهورية، ومفوضاً بمتابعة تنفيذ السياسة الخارجية والإعلامية في إطار توجيهات رئيس الجمهورية.

رئيس الوزراء السوري الجديد محمد غازي الجلالي (الإخبارية السورية)

والجلالي، وفق معلومات «الشرق الأوسط»، يتحدر من قرية «راوية» إحدى قرى هضبة الجولان السورية المحتل، وتنتمي عائلته إلى عشيرة «الهوادجة» العربية، وهو أول شخصية تنحدر من الجولان يتم تكليفها بتشكيل الحكومة في عهدَي الأسد الأب والأسد الابن.

وبعد نكسة يونيو (حزيران) عام 1967، نزحت عائلة الجلالي إلى دمشق، واستقرت في القسم الشرقي من حي التضامن جنوب دمشق، حيث ترعرع في الحي ودرس في مدارسه، وتمكن والده غازي الجلالي بحكم عمله أمين فرقة في «حزب البعث» من الحصول على إيفاد خارجي لابنه الوحيد على نفقة الحزب لمتابعة تحصيله العلمي العالي في جامعة مصرية، وذلك بعد حصوله على إجازة في الهندسة المدنية من جامعة دمشق عام 1992.

وإثر اندلاع الحرب في سوريا عام 2011، نزحت عائلة الجلالي أواخر العام نفسه من حي التضامن، وسكنت في «مدينة البعث» بمدينة القنيطرة، في حين بقي الجلالي يقيم في دمشق.

والجلالي من ضمن 45 اسماً اختارهم الرئيس بشار الأسد ليكونوا أعضاء في اللجنة المركزية لـ«حزب البعث» خلال انتخابات الحزب الأخيرة في مايو (أيار) الماضي، بعدما أفرزت نتائج الانتخابات 80 عضواً.

وفي يوم تكليفه، أعاد الجلالي نشر مقولة كان قد نشرها العام الماضي على صفحته الشخصية في موقع «فيسبوك» لفردريك باستيا، المنظِّر الليبرالي الكلاسيكي والاقتصادي السياسي الفرنسي، الذي يعد من أنصار المذهب الحر في الاقتصاد، وعاش في القرن التاسع عشر، وقال فيها: «ليس هناك إلا فارق واحد بين الاقتصادي الجيد والاقتصادي السيِّئ، وهو أنَّ الاقتصادي السيِّئ يقصر نفسه على التأثير المرئي. أما الاقتصادي الجيد فيأخذ في حسبانه معاً التأثير الذي يُمكن أن يُرى وتلك التأثيرات التي يجب التنبؤ بها».

محل ألبسة رجالية وسط دمشق (الشرق الأوسط)

تباين في الآراء والأرقام

وعلى أن الشارع متفق اليوم على ضرورة إحراز تقدم ولو بسيطاً على مستوى الخدمات الأساسية إلا أن التعيين الجديد أُحيط بآراء متباينة كثيرة. فقد نشرت صحيفة «صاحبة الجلالة» الإلكترونية المحلية أبرز آراء ومقترحات الجلالي قبل الإعلان عن تكليفه. ومن ذلك على سبيل المثال أن «تدني القدرة الشرائية للمواطن يجعل السكن في المرتبة الثانية ضمن أولوياته، رغم أنه حاجة ماسة. إلا أن حاجة الطعام والشراب اليومية تحتل المرتبة الأولى ضمن تلك الاحتياجات»، و«على الحكومة أن تعزز بداية المناخ الاستثماري من خلال توفير بنية تحتية آمنة للاستثمار».

في المقابل، جاءت تعليقات على منشور «صاحبة الجلالة» تقول: «لن نحكم حتى نرى نتيجة أفعاله لا أقواله. الناس جاعت»، و«نفس أقوال عرنوس، ومن قبله (عماد) خميس ومن قبله (وائل) الحلقي، ونفس أقوال الذي سيأتي بعد الجلالي، وهكذا دواليك، والحال من سيئ لأسوء».

وبقي في الحكومة الجديدة التي تضم 27 وزيراً، 11 وزيراً من الحكومة السابقة منهم وزراء الدفاع والداخلية والأوقاف، في حين دخل 14 وزيراً جديداً بينهم الإعلامي والخبير الاقتصادي زياد غصن، الذي آلت إليه حقيبة وزارة الإعلام، بينما بدل اثنان حقيبتيهما.

موظفون لا أصحاب قرار

مصدر مقرب من دوائر صنع القرار في دمشق، استبعد أن تتمكن الحكومة الجديدة من إيجاد حلول للأزمات الغارقة فيها البلاد. وقال المصدر الذي فضل عدم ذكر اسمه لـ«الشرق الأوسط»: «الأمر لا يتعلق بالأشخاص، القضية هي أن رئيس الوزراء في سوريا والوزراء ليسوا أصحاب قرار. هو أكبر موظف في الحكومة، والوزراء موظفون أيضاً. هم ينفِّذون قرارات تصدر من فوق».

وأضاف المصدر: «قرار استبعاد أكثر من 600 ألف عائلة من الدعم الحكومي الذي جاء ضمن خطط إلغاء الدعم، لم يُصدره عرنوس، وكذلك قرارات رفع الأسعار».

عجوز تجمع النفايات والبلاستيك وسط دمشق (الشرق الأوسط)

ورأى المصدر أن «الانفراج الاقتصادي مرهون بحصول تقدم على المسار السياسي المجمد منذ فترة طويلة»، وقال: «الغرب يطالب بتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254، والدول العربية تطالب بتنفيذ المبادرة العربية للحل في سوريا والمعروفة بـ(خطوة مقابل خطوة)».

ولا شك أن الأمر أكثر تعقيداً من وصول حكومة ذات كفاءة أو لا. فتطبيق القرار الدولي الذي صدر في 2015 يقضي بإجراء انتخابات حرة ونزيهة وانتقال سلمي للسلطة، مرهون أيضاً بالعقوبات الاقتصادية وأولها قانون قيصر الأميركي الذي فُرض في 2020 وكان بداية الانهيار الاقتصادي السريع في البلاد.

وحسب المصدر، حتى بعض الانفراجات القليلة التي لاحت، سواء مع بعض العواصم العربية أو مع أنقرة وكان من شأنها ان تنفِّس الاحتقان المعيشي والاقتصادي داخلياً لم تُترجَم استثمارات فعلية على الأرض.

وعلَّق المصدر على مسألة تزامن تشكيل الحكومة الجديدة مع إشارات من دمشق منذ بداية العام الجاري إلى أنها بدأت عملية إصلاح إداري، شملت الأجهزة الأمنية وتشكيلات عسكرية و«حزب البعث»، بالقول: «(تغييرات) شكلية. هل تم استئصال مافيات الفساد المتحكمة في البلاد؟ وهل تراجعت جرائم القتل والسرقة والخطف؟ الوقائع على الأرض تقول: لا».

وسبق أن كشف وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك السابق عمرو سالم الذي جرت إقالته من حكومة عرنوس في مارس (آذار) 2023، في منشوراته، عن أن الدولة «تخسر مبلغ 38 ألف مليار ليرة كل عام بسبب سرقة الدقيق والقمح والخبز».

تنفيس مدروس

وبعدما تحولت الحكومة السابقة إلى تسيير أعمال، عقب انتخابات مجلس الشعب في منتصف يونيو (حزيران) الماضي، كان لافتاً تصاعُد حدة الانتقادات الموجهة إليها.

وتعليقاً على قرارها أن يحصل المواطن العائد إلى البلاد عبر مطار دمشق الدولي على «شيك» ورقي بقيمة 100 دولار ملزَم بتصريفها قبل دخوله البلاد، على أن يتسلم قيمته لاحقاً من المصارف التجارية بدلاً من الأجهزة الموجودة في المطار، كتبت «صاحبة الجلالة» في منشور: «فيما يخص قرار الشيك للمائة دولار. لماذا نتحدث عنه بصيغة المجهول؟ مَن اقترح هذا القرار؟ ولماذا؟ ومَن وافق عليه؟ حددوا لنا مَن اقترح ومَن وافق؟ ليس كل قرار غبيّ يسجَّل ضد مجهول».

الخبير الاقتصادي عامر شهدا، كتب على صفحته الشخصية على «فيسبوك»: «ما أمنياتكم للحكومة في رحيلها بعد ساعات؟ بالنسبة لي أدعوهم للبكاء على الأطلال التي خلَّفوها».

وأوضحت مصادر متابعة في دمشق، في تفسيرها لأسباب الحملة ضد الحكومة، لـ«الشرق الأوسط»: «أغلبية ما يُنشَر في مواقع أو صفحات موالية خصوصاً ما يتعلق بالحكومة، يأتي بتوجيه من السلطة من أجل التنفيس عن المواطنين».

في 8 مايو (أيار) الماضي، وبعد تقديم عرنوس عرضاً أمام مجلس الشعب حول ما نفَّذته حكومته، نشر شهدا منشوراً مطولاً ناقض فيه ما تضمنه العرض.

سوق باب سريجة وسط دمشق المختص ببيع المواد الغذائية واللحوم والخضار وتبدو فيه حركة المارة ضعيفة جداً (الشرق الأوسط)

وقال: «تمنينا أن نسمع من معاليكم وضعاً مقارناً لنسب الهدر والفساد من عام 2020 لغاية 2024، وأن نسمع وضعاً مقارناً عن انتشار الجريمة والسرقات في المجتمع وانخفاض أعمار الداخلين لسوق الدعارة».

وعرض شهدا ما سمّاها «أرقام الشعب السوري»، منذ تشكيل عرنوس الحكومة عام 2020، وقال: «بفضل شماعة العقوبات وارتفاع الأسعار العالمية وتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد نقدي ريعي، موازنة 2020 بلغت (2.9) مليار دولار، بينما في 2024 أصبحت (2.6) مليار دولار. وسعر الصرف الرسمي في 2020 كان 434 ليرة مقابل 800 في السوق السوداء، بينما في 2024 وصل سعر الصرف الرسمي إلى 13 ألف و500 ليرة».

وحسب الأرقام، ارتفعت تكاليف المعيشة بين 2022 و2023 بحدود 97.9 في المائة، فيما بقي الحد الأدنى للأجور عند راتب يناهز 93 ألف ليرة أي نحو 7 دولارات. وبلغ عدد السكان الذي يحتاجون إلى المساعدة نحو 15 مليون نسمة، 90 في المائة منهم تحت خط الفقر.