فقدان التنوُّع الوراثي يتجاوز الخطوط الحمراء عالمياً

يؤثّر في صحة الإنسان والكوكب

TT

فقدان التنوُّع الوراثي يتجاوز الخطوط الحمراء عالمياً

يكشف تقرير «الكوكب الحي 2022» انخفاضاً بنسبة 69 في المائة في أعداد الكائنات الحيّة منذ عام 1970. ويعزو التقرير الصادر عن الصندوق العالمي للحياة البرية هذا التراجع إلى مجموعة من العوامل، أهمّها التغيُّرات في استخدام الأرض والبحر، والاستغلال المفرط للنباتات والحيوانات، وتغيُّر المناخ، والتلوُّث، والأنواع الغريبة الغازية.
أبرز الأسباب المباشرة لفقدان التنوُّع البيولوجي وتدهور النظم البيئية وخدماتها، هي زيادة الطلب على الطاقة والغذاء والموارد الأخرى؛ بسبب النمو الاقتصادي السريع والزيادات في أعداد السكان، والتجارة الدولية، والتطورات التكنولوجية، ولا سيما خلال السنوات الخمسين الماضية.
ويشير التقرير إلى أن نحو مليون من أصل ثمانية ملايين نوع من النباتات والحيوانات في العالم مهدد بالانقراض؛ بسبب الأنشطة البشرية في أغلب الحالات. كما أنّ 1.5 إلى 2.5 في المائة من أنواع الطيور والثدييات والبرمائيات والزواحف والأسماك انقرضت بالفعل، وتناقصت الوفرة في أعداد النوع الواحد، وخسر كثير من الأنواع موائلها المحددة مناخياً، وتراجع تنوُّعها الوراثي.
- التنوُّع الوراثي وحماية الأنواع
يعبّر التنوُّع الوراثي، أو التنوُّع الجيني، عن مجموع المورّثات داخل نوع حي أو مجموعة من الأنواع، ويشير إلى كل من الأعداد الهائلة للأنواع المختلفة، بالإضافة إلى السمات المتفاوتة داخل النوع الواحد.
ويُعدّ التنوُّع الوراثي المساهم الرئيس في التنوُّع البيولوجي ضمن النظام البيئي، الذي يشمل بدوره الأنواع المختلفة من الكائنات الحيّة الدقيقة والنباتات والحيوانات، إلى جانب مورّثاتها وموائلها.
ويؤدي التنوُّع الأكبر في الأنواع إلى زيادة تنوُّع الموائل، كما يحافظ على وظائف النظام البيئي وهيكله. ويتيح تنوُّع النظام البيئي إمكانية التعافي من آثار أي تغيُّرات تحدث بسبب الكوارث الطبيعية أو التبدلات المفاجئة. أما النظم البيئية المنخفضة التنوُّع، فهي لا تحافظ بسهولة على وظيفتها الطبيعية المستقرة، لذا قد تتغيّر وظيفتها بشكل دائم؛ مما يغيّر تكوين الأنواع ويؤدي إلى خسارة كبيرة في الموارد الطبيعية.
وكلّما كان هناك تنوُّع وراثي أكبر ضمن تجمُّع لأحد الأنواع الحيّة، كانت الفرصة أفضل للتكيُّف مع البيئات المتغيّرة. وبوجود عديد من التباينات، من المرجح أن يمتلك بعض الأفراد في المجموعة السكانية الواحدة أنواعاً مختلفة من المورّثات المناسبة التي تعزز فرص بقائهم على قيد الحياة واستمرار المجموعة لأكثر من جيل عبر سلالة تحمل هذه المورّثات.
ومن دون التنوُّع الوراثي، لن تستطيع الأنواع الحيّة مواجهة التغيُّرات البيئية المؤثرة، وستضطر لتغيير موائلها بحثاً عن ظروف أفضل.
وتعدّ «مجاعة البطاطا الإيرلندية» الشهيرة أبرز مثال عن أهمية التنوُّع الوراثي وعواقب فقدانه على البشر. وتُنتج البطاطا عادةً عن طريق إكثار الدرنات، أي أن المحصول بأكمله هو في الأساس استنساخ لحبة بطاطا واحدة دون أي تنوُّع وراثي قادر على مواجهة معظم الأوبئة.
وفي أربعينات القرن التاسع عشر، كان أغلب سكان إيرلندا يعتمدون على البطاطا كغذاء أساسي، وقاموا بزراعة مجموعة من البطاطا الكبيرة الحجم، التي تعرّضت للإصابة بالعفن الفطري. وقد دمّر العفن الفطري معظم محصول البطاطا، وترك مليون شخص يموتون جوعاً.
في عالم المال، تحتاط الدول لتغيُّرات الصرف بتنويع محافظها من العملات الأجنبية. وفي التنوُّع البيولوجي وخدمات النظام البيئي، غالباً ما يُشار إلى «تأثير المحفظة» بوجود تنوُّع وراثي أكبر.
داخل أنواع الأسماك، على سبيل المثال، ينعكس التنوُّع الوراثي بوجود استراتيجيات مختلفة للبقاء لدى عديد من المجموعات السكانية المنفصلة. فقد يكون أداء إحدى المجموعات أفضل في أحد الأعوام، بينما تكون الأفضلية لمجموعة أخرى في عام آخر. ومع مرور الوقت، وبفضل هذا الاختلاف، تقلل الأنواع من خطر الانهيار الكامل، مثلما حصل في مجاعة البطاطا.
ويمكن أن يساعد التنوُّع الوراثي وتأثير المحفظة في حماية الأنواع من تغيُّر المناخ العالمي. ويُعتبر سلمون المحيط الهادئ مثالاً واضحاً على ذلك؛ لأنه يتمتع بمجموعة واسعة من استراتيجيات البقاء، ولا سيما اختلاف توقيت هجرة المجموعات من أجل التفريخ. وغالباً يُعزى استقرار وفرة السلمون في جنوب شرق ألاسكا إلى هذا المستوى العالي من التنوُّع، ولا سيما في ظل تغيُّر المناخ الذي يجعل بعض استراتيجيات البقاء لدى السلمون أكثر مواءمة.
وتظهر المشاكل الوراثية في المجموعات السكانية المحدودة العدد، حيث يحصل التزاوج بين الأقارب، الذي يؤدي إلى فقدان التنوُّع الوراثي بمرور الوقت. ولهذا السبب، فعندما تتعرّض المجموعات القليلة الأفراد لتأثير «عنق الزجاجة»، ستكون فرص خسارتها لتنوُّعها الوراثي أكثر من المجموعات السكانية الكبيرة.
- إجراءات حفظ التنوُّع الوراثي غير كافية
يواجه التنوُّع الوراثي عديداً من التهديدات، ولذلك يهتم المجتمع الدولي بالحفاظ على جميع مستويات التنوُّع البيولوجي، بما في ذلك التنوُّع الوراثي للأنواع. وتشمل إجراءات الحفظ ضمان العناصر المختلفة التي تؤثر على التنوُّع الوراثي، مثل الأنماط الوراثية والأنواع الحيّة والمجموعات السكانية. وفيما يحافظ التنوُّع الوراثي على القدرة الإنجابية على المدى القصير، فهو يعزز قدرة الأنواع على التكيُّف والتطور على المدى الطويل.
وتعتمد الاستراتيجية الأكثر ملاءمة لحفظ مورّثات أحد الأنواع على السمات المحلية، والتركيب الجيني للسكان، وحجم النطاق الجغرافي. فعلى سبيل المثال، يتم الحفاظ على التنوُّع الوراثي لأشجار الغابات عن طريق زيادة السكان في موطنها الأصلي، أو تخزين الأصول الوراثية في بيئة باردة، أو زراعة الأشجار في أماكن مختلفة خارج منشئها.
وعلى الرغم من أن الحفاظ على التنوُّع الوراثي هو نفسه بالنسبة إلى جميع الكائنات الحيّة، فإنه توجد طرق مختلفة لإنجازه اعتماداً على هدف الحفظ، وتوزُّع الكائن المراد حفظه، والطبيعة الحيّة، وغير ذلك. وهذا يجعل معرفة الاختلافات بين السكان أمراً ضرورياً للحصول على معلومات لإدارة الحفاظ على المجموعات السكانية المختلفة.
في حالة المجموعة المهاجرة من طائر أبو منجل الأصلع الشمالي، التي جرى اكتشافها قرب مدينة تدمر السورية عام 2002، كان التنوُّع الوراثي إحدى القضايا الأساسية في الحفاظ على هذه المجموعة النادرة، التي بلغ عددها سبعة أفراد فقط. وقد أظهر التحليل الوراثي لانتشار هذا الطائر حول العالم وجود سلالتين متمايزتين: الأولى غربية مستقرة في متنزه سوس ماسة المغربي، والثانية شرقية غير مهاجرة وشبه أسيرة بالقرب من مدينة بيره جك التركية.
وتنتمي مجموعة تدمر المهاجرة إلى السلالة الشرقية؛ ولذلك شملت إجراءات الحفظ إكثار أعداد من طيور بيره جك في مدينة تدمر وإطلاقها مع المجموعة المهاجرة لتعليمها مسار الهجرة شتاءً من تدمر إلى أثيوبيا، وبذلك تزداد أعداد المجموعة النادرة. وفي الوقت نفسه، توجد برامج مماثلة لإعادة إدخال هذا الطائر إلى أوروبا، لكن بالاعتماد على إكثار أعداد من الطيور المغربية الأقرب وراثياً، وتدريبها على الهجرة بين جبال الألب وإقليم توسكانا الإيطالي، باستخدام طائرة خفيفة الوزن.
وتلعب ممارسات التهجين والانتخاب، التي كان لها دور كبير في تحسين الإنتاجية الزراعية والحيوانية، دوراً كبيراً في تعزيز بعض المؤثرات وتحييد بعضها الآخر. وفي بعض الحالات، تحمل المورّثات التي جرى تحييدها، عبر سنوات طويلة، الخصائص التي تمنح الأنواع الحيّة مرونة أفضل تجاه التغيُّرات البيئية. ولذلك يوجد عديد من المشروعات الدولية، مثل «قبو سفالبارد للبذور» في النرويج و«بنك إيكاردا» الوراثي في سورية، لحفظ الأصول الوراثية من أجل تعزيز الأمن الغذائي في وجه المتغيّرات القاسية، كالجفاف ودرجات الحرارة الشديدة وحالات تفشي الأمراض والآفات.
ولكن، هل هذه الإجراءات كافية لحفظ التنوُّع الوراثي العالمي؟
تخلص ورقة بحثية، نُشرت في دورية «ساينس» أخيراً، إلى فقدان نحو 10 إلى 16 في المائة من التنوُّع الوراثي على مستوى العالم منذ بداية الثورة الصناعية. وهذه الخسارة تتجاوز نسبة 10 في المائة التي يوصي خبراء سياسة التنوُّع البيولوجي بعدم تجاوزها للحفاظ على صحة النظم البيئية.
إن تحقيق هدف الأمم المتحدة الذي يقترح «حماية ما لا يقل عن 90 في المائة من التنوُّع الوراثي داخل جميع الأنواع» يستلزم حماية أكبر عدد ممكن لكل نوع. ويستتبع ذلك وجود مناطق محمية واسعة تضمن الحفاظ على جميع الأنواع الحيّة.
ومع ذلك، تبقى هذه الخطوة غير كافية لحماية التنوُّع الوراثي في الأنواع المعرضة للخطر أو المهددة بالانقراض، حيث من المرجح أن يكون تنوُّعها الوراثي قد ضاع إلى الأبد.


مقالات ذات صلة

«تخريب رهيب» للفيل البرتقالي الضخم و«الآيس كريم» بإنجلترا

يوميات الشرق المَعْلم الشهير كان يميّز الطريق (مواقع التواصل)

«تخريب رهيب» للفيل البرتقالي الضخم و«الآيس كريم» بإنجلترا

أُزيل فيل برتقالي ضخم كان مثبتاً على جانب طريق رئيسي بمقاطعة ديفون بجنوب غرب إنجلترا، بعد تخريبه، وفق ما نقلت «بي بي سي» عن مالكي المَعْلم الشهير.

«الشرق الأوسط» (لندن)
الاقتصاد جانب من المؤتمر الصحافي الختامي لمؤتمر «كوب 16» بالرياض (الشرق الأوسط)

صفقات تجاوزت 12 مليار دولار في مؤتمر «كوب 16»

يترقب المجتمع البيئي الإعلان عن أهم القرارات الدولية والمبادرات والالتزامات المنبثقة من مؤتمر الأطراف السادس عشر لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر (كوب 16).

عبير حمدي (الرياض)
يوميات الشرق تكريم الفائزين الثلاثة ضمن مبادرة «حلول شبابية» بالتزامن مع «كوب 16» (واس)

منصّتان وشركة... «حلول شبابية» سعودية مبتكرة لمختلف التحديات البيئية

لم تكن الحلول التي قُدِّمت في مؤتمر «كوب 16» للقضايا البيئية والمناخيّة الملحّة، وقضايا تدهور الأراضي والجفاف، قصراً على الحكومات والجهات الخاصة ذات الصلة.

غازي الحارثي (الرياض)
بيئة الاستفادة من التقنيات الحديثة في تشجير البيئات الجافة واستعادة الأراضي المتدهورة من أهداف المعرض والمنتدى الدولي لتقنيات التشجير (تصوير: تركي العقيلي) play-circle 00:55

السعودية تستهدف تحويل 60 % من مناطقها إلى «غابات مُنتجة»

يواصل «المعرض والمنتدى الدولي لتقنيات التشجير» استقبال الحضور اللافت من الزوّار خلال نسخته الثانية في العاصمة السعودية الرياض، بتنظيم من المركز الوطني لتنمية…

غازي الحارثي (الرياض)
الاقتصاد الوزير السعودي يتسلم رئاسة السعودية رسمياً لمؤتمر «كوب 16» في الرياض (الشرق الأوسط)

«كوب 16 الرياض» يجمع صناع السياسات لإعادة تأهيل الأراضي ومكافحة التصحر

اجتمع عدد كبير من صنُاع السياسات والمنظمات الدولية والدوائر غير الحكومية وكبرى الجهات المعنية، الاثنين، في الرياض، للبحث عن حلول عاجلة للأزمات البيئية.

آيات نور (الرياض) عبير حمدي (الرياض) زينب علي (الرياض)

بعد 30 عاماً من السكون... أكبر جبل جليدي في العالم يتحرك نحو الشمال

بعد 30 عاماً من السكون... أكبر جبل جليدي في العالم يتحرك نحو الشمال
TT

بعد 30 عاماً من السكون... أكبر جبل جليدي في العالم يتحرك نحو الشمال

بعد 30 عاماً من السكون... أكبر جبل جليدي في العالم يتحرك نحو الشمال

يتحرك أكبر جبل جليدي في العالم مرة أخرى، بعد أن حوصر في دوامة طوال معظم العام.

تبلغ مساحة الجبل الجليدي «إيه تو ثري إيه» 3800 كيلومتر مربع (1500 ميل مربع)، أي أكبر من ضعف مساحة لندن الكبرى، ويبلغ سمكه 400 متر (1312 قدماً). انفصل عن القارة القطبية الجنوبية في عام 1986؛ لكنه سرعان ما علق قبالة الساحل مباشرة. وأدى عمق الجبل الجليدي إلى انغماس قاعه في قاع بحر ويديل، وهو جزء من المحيط الجنوبي؛ حيث ظل ثابتاً لأكثر من 30 عاماً، ثم بدأ في التحرك شمالاً في عام 2020، ولكن منذ الربيع، كان يدور في مكانه، بعد أن حوصر في عمود دوار من الماء بالقرب من جزر أوركني الجنوبية، وفق هيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي».

وقالت هيئة المسح البريطانية للقطب الجنوبي، إن الجبل الجليدي «إيه تو ثري إيه» ينجرف الآن نحو الشمال.

وفي هذا الصدد، يقول الدكتور أندرو مايجرز، عالم المحيطات في هيئة المسح البريطانية للقطب الجنوبي: «من المثير أن نرى الجبل الجليدي يتحرك مرة أخرى بعد فترات من التجمد. نحن مهتمون بمعرفة ما إذا كان سيسلك المسار نفسه الذي سلكته الجبال الجليدية الكبيرة الأخرى التي انفصلت عن القارة القطبية الجنوبية». ويُعتقد أن الجبل الجليدي «إيه تو ثري إيه» سيغادر المحيط الجنوبي في نهاية المطاف ويدخل المحيط الأطلسي؛ حيث سيواجه مياهاً أكثر دفئاً، ومن المرجح أن يتفكك إلى جبال جليدية أصغر حجماً ويذوب في النهاية.

ويقوم الدكتور مايجرز وهيئة المسح البريطانية بالقطب الجنوبي بفحص تأثير الجبال الجليدية على النظم البيئية المحلية، بعد مرورها من خلالها.

قبل عام، جمع الباحثون على متن سفينة الأبحاث الملكية «السير ديفيد أتينبورو» بيانات من المياه المحيطة بـ«إيه تو ثري إيه».

وقالت لورا تايلور، عالمة الكيمياء الحيوية الجيولوجية التي كانت جزءاً من الطاقم: «نعلم أن هذه الجبال الجليدية العملاقة يمكن أن توفر العناصر الغذائية للمياه التي تمر عبرها، مما يخلق أنظمة بيئية مزدهرة في مناطق أقل إنتاجية»، وتابعت: «ما لا نعرفه هو الفرق الذي يمكن أن تحدثه الجبال الجليدية المعينة، وحجمها وأصولها في هذه العملية».