استغل المخرج مارتن سكورسيزي وقوفه على منصّة مهرجان نيويورك الأخير ليصوّب رصاصاته على هوليوود الحالية. قال إنها تُكرس وضعاً صعباً، عبر تجاهل كل مقوّمات العمل السينمائي باستثناء اللهاث وراء أرقام «شباك التذاكر». وأضاف: «منذ الثمانينات ركّزت هوليوود على الأرقام. إنه أمر يدعو للاشمئزار». من ثَم تابع: «كسينمائي وشخص لا يتصور الحياة بلا سينما، وجدت دائماً أن هذا الهوس مهين».
طبعاً هذه ليست المرة الأولى التي ينتقد فيها المخرج هوليوود، بل سبق له أن وجه إلى إكثارها وتفضيلها لأفلام الـ«سوبرهيرو» نقداً لاذعاً، مقارناً هذه الأفلام بحدائق ومتنزهات الترفيه (Theme Parks).
ما يقوله صحيح وما تفعله هوليوود يبرره. آخر ما تفتقت عنه هوليوود من أفعال إطلاق الأفلام السينمائية تزامناً مع إطلاقها على المنصات الإلكترونية. ليس بعد أسبوع أو أسبوعين أو شهر، بل في اليوم نفسه. وهذا ما حدث أخيراً، مع فيلم «هالووين ينتهي»، الذي سجل 41 مليون دولار محتلاً القمة، علماً بأنه في نفس يوم افتتاحه بُث على الإنترنت. مما يعني أنه لو أتيح لصالات السينما الانفراد بعرضه، لسجل الفيلم ضعف ذلك المبلغ أو قريباً منه.
- انتصار صلب
الحال لم تكن على هذا النحو قبل 50 سنة (ولا قبلها أو بعدها حتى نهاية السبعينات). كصناعة تقوم على التجارة لا بد لكل شركة إنتاج أن تحلم باسترداد التكلفة على الأقل، ناهيك عن تسجيل أرباح قصوى. لكن هوليوود، قبل 50 سنة، كنموذج، كانت لا تزال تؤمن بأن هناك جماهير عدّة وليس جمهوراً واحداً هو الجمهور الذي يفضل الأفلام المحض تجارية. كانت لا تزال تطلق أفلاماً من كل نوع وليس فقط من نوعين أو ثلاثة، على أساس أنها هي وحدها التي تستحق الإنتاج كما هو حاصل اليوم.
نظرة فاحصة لما كانت عليه السينما سنة 1972 تفصح عن الكثير.
1972 هو العام الذي حقق فيه المخرج فرنسيس فورد كوبولا تحفته الأولى «العرّاب». ولم يكن تحقيق هذا الفيلم الذي فاجأ نجاحه التجاري والنقدي هوليوود سهلاً. كوبولا، الذي لم يكن بعد كوّن اسماً دامغاً، حارب اتجاهات الشركة المنتجة (باراماونت) في دفع الفيلم صوب معالجات تقليدية. أصر على معالجته الخاصة لرواية ماريو بوزو وعلى جلب أي ممثل أراده (كل من مارلون براندو وآل باتشينو كانا موضع رفض لدى الشركة في بادئ الأمر).
انتصار كوبولا الصلب، ساهم كثيراً في تسهيل عملية إنتاجه الجزء الثاني سنة 1974 وتأكيد دور المخرج في الفيلم كأعلى من مجرد منفّذ. لكن لم تشهد كل الأفلام المبهرة في ذلك العام هذا التحدي الكبير. بعضها تم تحقيقه من دون تلاحم وفرض شروط. لذلك شهدت السينما الأميركية أعمالاً رائعة أخرى غير فيلم «العرّاب» تميّزت بالتنوع حين كان التنويع لا يزال ضرورياً.
الآيرلندي جون بورمن أنجز «خلاص» (Deliverance)، عن تلك الرحلة فوق نهر بعيد تشهد مواجهة بين أبناء المدينة ومجاهل عالم لا يزال يعيش في كنف الأمس. لاحقاً، حقق في الولايات المتحدة أعمالاً لافتة أخرى بينها «Point Blank» بوليسي صارم من بطولة لي مارفن.
المخرج بوب فوسي أنجز فيلمه المستمد من سيرة حياته وهو «كباريه»، أحد أفضل أعماله. حفل الفيلم بألوان تعبير فنية مختلفة فهو مسرح، وموسيقى، وتمثيل، ورقص، وسرد حياة خاصّة في قالب واحد.
المخرج الرائع ألفرد هيتشكوك عاد في 1972 إلى تألقه عبر فيلم بعنوان «هيجان» (Frenzy)، والمخرج الذي لا يقل قيمة جون هيوستن حقق «مدينة سمينة» (Fat City). بينما انصرف هيتشكوك لاستعادة قدراته الفنية في كيفية تحويل قصّة جريمة إلى فيلم يثير الذعر بنجاح، منح هيوستن فيلمه صبغة إنسانية ومعالجة اجتماعية باتت نادرة المثال اليوم. قصّة ملاكم سابق (ستايسي كيتش) يحاول العودة إلى الحلبة عن طريق تبني ملاكم شاب يأمل به نجاحاً (جف بريدجز). على عكس أفلام رياضية كثيرة، هذا الفيلم ليس عن الملاكمة بل عن الطموح ثم الإحباط مروراً بمتاعب اجتماعية وعاطفية وأزمات.
- ردفورد في ثلاثة
شهدت السنة نفسها، ثلاثة أفلام لعب روبرت ردفورد بطولتها. ليس من بينها ما يمكن إنتاجه اليوم بنجاح إلا مع تغيير قواعدها والإتيان بمشاهد خيالية جانحة ومواقف غير منطقية. الفيلم الأول هو «المرشّح»، الذي أخرجه المنسي مايكل ريتشي وفيه لعب ردفورد دور سياسي يعلن ترشيحه كسيناتور عن ولاية كاليفورنيا مدركاً احتمالات إخفاقه بسبب نظام سياسي يطاله الفساد. فيلمه الثاني في العام نفسه كان «الجوهرة الساخنة» (The Hot Rock) لبيتر ياتس، الذي تحوّل فيه إلى رئيس عصابة وسيم وذكي يقرر سرقة جوهرة من داخل خزانة المصرف. الفيلم الثالث كان «ويسترن»، عنوانه «جيروميا جونسون» لسيدني بولاك عن مكتشف براري يحاول أن يجد لنفسه موقعاً في بيئة خطرة.
الـ«ويسترن» بالمناسبة كان انتقل من مجرد حكايات رعاة بقر وهنود حمر إلى مرثيات عاطفية أشبه بغناء البلوز. كان منها في ذلك العام ثلاثة أفلام برزت أكثر من سواها هي «جونيور بونر» لسام بكنباه، حول ذلك الرجل الذي يحن لعصر مضى (قام به ستيف ماكوين) و«أصحاب سوء» (Bad Company) لروبرت بنتون، ودار حول مجموعة من الشباب لم تترك لهم مصاعب الحياة سوى اقتراف الجريمة و«غارة ألزانا» لروبرت ألديتش: بيرت لانكاستر وحامية عسكرية تدافع عن نفسها ضد المواطنين الأميركيين. النهاية البائسة لكل فيلم من هذه الأفلام، كما المعالجة الواقعية، لم تمنع تحولها إلى أيقونات سينمائية محفورة في صلب التاريخ.
بكنباه، مخرج «جونيور بونر» كان لديه فيلم آخر في عام 1972 هو «الفرار» (the Getaway)، أيضاً مع الممثل ستيف ماكوين: دراما بوليسية يواجه فيها ماكوين عصابة تريد السطو على ما سطا عليه من غنيمة. نصف هذه الأفلام التي ذكرتها سجّلت إقبالاً جماهيرياً ناجحاً وانتهت على قائمة أنجح أفلام السنة.
«العرّاب» تربع على القمة بنحو 83 مليون دولار حين كان سعر التذكرة لا يزيد عن 3 دولارات في المساء وأقل من ذلك في ساعات النهار. «خلاص» جاء في المرتبة الرابعة، وفي الخامسة «جيرميا جونسون»، وفي السادسة «كباريه» وفي الثامنة «الفرار».
مع تعديل قيمة الدولار لسعر اليوم أنجز كل من هذه الأفلام ما يزيد عن 100 مليون دولار من دون تنازل عن مساره فنياً أو موضوعاً.
- تدجين جيل
خارج الولايات المتحدة شهدت السينمات العالمية مزيداً من نجاحات فنية كانت بدأت منذ منتصف الستينات. في ذلك العام حقق الروسي أندريه تاركوفسكي فيلمه «سولاريس»، الذي واكبته تقديرات النقاد الغربيين مانحة إياه خمس نجوم كشأن فيلم إنغمار برغمن في العام نفسه «صرخات وهمسات».
الألماني فرنر هرتزوغ قدّم رائعة ملحمية تحت عنوان «أغوير، غضب الله» (Aguirre، The Wrath of God) وزميله رينر فرنر فاسبيندر، أودع جمهوره واحداً من أفضل أعماله «الدموع المرّة لترا فون كانت» (The Bitter Tears of Petra von Kant).
الإيطالي فرانكو زيفيرللي حقق واحداً من أفلامه البديعة هو «الأخ شمس، الأخت قمر»، والأميركي جوزف لوزي، الذي نفذ بجلده من المكارثية في الخمسينات وحل في بريطانيا، حقق فيلماً من إنتاج مشترك ما بين فرنسا وإيطاليا وبريطانيا هو «اغتيال تروتسكي».
ترشيحات أوسكار سنة 1972 لأفلام 1971 كان بدوره مزيجاً من أفلام لم نعد نرى مثيلاً لها في ركاب اليوم: «كلوكوورك أورانج» لستانلي كوبريك، «نيكولاس وألكسندرا» لفرانكلين شافنر، و«آخر عرض سينمائي» (The Last Picture Show) لبيتر بوغدانوفيتش، وفيلم المطاردة «ذا فرنش كونكشن» لويليام فرايدكن، ثم «فدلر أون ذا روف» لنورمان جويسون.
لا يجب أن ننسى أن العديد ممن ذكرنا أسماءهم من المخرجين (بل معظمهم)، رحل عن دنيانا، وبذلك لم نعد قادرين على مشاهدة جديد لهم، لكن هذا ليس السبب الذي يمنع سينما اليوم من تكوين خاماتها الفنية. ذلك لأنه يوجد اليوم مخرجون جيدون لكن معظمهم محاطون بحقيقة أن الجمهور دُجّن فعلياً منذ منتصف الثمانينات بحيث بات - في معظمه - يتبع النمط الواحد أو النمطين المتوفّرين. معظم هؤلاء من جمهور حديث لم يتسنَ له الشرب من مياه السينما الصافية حينها، وكل ما يعرفه عن الفن السابع اليوم هو قدرة الـ«سوبر هيرو» على تحقيق العدالة بالقوة الفردية، أو بخطط وحوش الدينوصورات والغوريلات الضخمة للفتك بالعالم من دون سبب وجيه سوى تحقيق «حفنة أخرى من الدولارات».