الحرب الروسيّة على أوكرانيا... كتاب مفتوح للقراءة

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (د.ب.أ)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (د.ب.أ)
TT

الحرب الروسيّة على أوكرانيا... كتاب مفتوح للقراءة

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (د.ب.أ)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (د.ب.أ)

يُقال عن المفكّر العسكري الكبير صان تسو إنه سابق لعصره. وهو المفكّر الذي استمرّ فكره لأكثر من 2500 سنة، ومن الأكيد أن فكره سيستمرّ ما دامت الطبيعة البشرية كما هي.
فالحرب بالنسبة إليه «مسألة خطيرة للدولة. إنها ميدان الحياة والموت، وهي الطريق التي تؤدي إلى العيش أو الفناء. لذلك، من المستحيل عدم دراستها بعمق». فهل كل من ذهب إلى الحرب هو فعلاً من درسها بعمق؟ ولماذا تذهب الأمم إلى الحرب في الأصل؟
يقول الكاتب الأميركي جوفري بيريت، إن الولايات المتحدة هي أمّة صُنعت بالحرب. وبالحرب فعلاً احتلت أميركا مركز الصدارة العالميّة.
ويقول الكاتب الأميركي الراحل تشارلز تيللي: «إن الحرب صنعت الدولة، والدولة بالمقابل صنعت الحرب».
وهنا يُطرح السؤال: كيف يتمّ اتخاذ قرار الحرب؟ وما الآليّة؟ وكيف يُقرَّر مسبقاً وقف الحرب؟ وكيف يُقاس النجاح في الحروب؟ وعليه، كيف تُرسم الاستراتيجيّات الكبرى؟ وكيف تُعدّ الوسائل لخوض الحرب؟ وهل فعلاً يعتقد كلّ من ذهب إلى الحرب أنه سيربح؟ هذا ممكن، وإلا كيف يذهب إلى حرب خاسرة سلفاً؟
كلّها أسئلة تراكمت عبر تاريخ طويل جدّاً من الصراعات والحروب، ولا يزال الإنسان يقول إنه أخذ العبر والدروس من هذه التجارب، لكنه يعود إلى الدائرة الأولى، دائرة العنف. وهذا أمر يذكّرنا بالعالم الأنثروبولوجي ميرسيا إيلياد في كتابه «أسطورة العوْد الأبديّ»، وهو ما يعني أن «التكرار» (العوْد) سمة ملازمة للوجود، وهو مبرمج مسبقاً، وأن الإرادة هي لاحقة للتسيير.
ضبابيّة الحرب (Fog of War)
لا يمكن لأي فريق من المتحاربين أن يعرف فعلاً، وبالتفصيل، كلّ شيء حول حربه على الآخر. فمهمّة الآخر هي إلقاء ضباب كثيف حول نياته، وذلك عبر الخداع (Deception). وبذلك تتحوّل الحرب من حرب فرض الإرادة على الآخر، إلى حرب لمعرفة نيات الآخر. وهنا يدخل ما يُسمّى الاستعلام التكتيكي، أي تجميع كلّ المؤشرات حول حركيّة العدو على ساحة المعركة، وتحليلها استناداً إلى ثقافة العدو الاستراتيجيّة، ومن ثم وضع فرضيّات محدودة حول نياته.
في حرب الجيش الأوكراني على الجبهتين الشرقيّة والجنوبيّة، تبيّن أن العمليّة في الجنوب كانت عبارة عن تمويه وخداع للجيش الروسيّ، لجرّ معظم قواه واهتماماته إلى خيرسون، ومن ثمّ الهجوم على خاركيف باعتماد مبدأ الحرب الخاطفة (Blitzkrieg).
تخلق الضبابيّة في الحرب ما يُسمّى الاحتكاك (Friction). بكلام آخر، وحسبما قال كارل فون كلوزفيتز، الاحتكاك هو نتيجة طبيعيّة للفارق بين خوض الحرب على الخريطة وخوضها فعلياً على ساحة المعركة. إنها كمن يحاول الركض في الوحل.
لم يستطع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلق تلك الضبابيّة حول حربه على أوكرانيا. فمنذ اليوم الأول، أعلن بوتين أهدافه الكبرى. ومنذ اليوم الأوّل نشرت صحف العالم كلّها خرائط انتشار جيشه حول أوكرانيا، الأمر الذي يفضح كل محاور هجومه ومخطّطاته. واعتمد بوتين على التفوّق العددي والمادي لجيشه. ألم يقل ستالين «إن للكميّة نوعيّة خاصة بها»؟
حتى الآن، لم يستطع بوتين خداع الآخر. فجيشه كتاب مفتوح من الجهّتين الاستراتيجيّة والعملانيّة، وحتى على المستوى التكتيكي. حتى ترسانته، ومن كلّ أنواع الأسلحة، أصبحت معروفة، وإذا عُرفت فقد يمكن التخطيط بشكل يؤدّي إلى استنزافها. فكيف يعرف العالم كله أن الجيش الروسي كان يملك في بدايات الحرب ما يقارب 1844 صاروخاً ذكيّاً، ولم يعد لديه في المخزون أكثر من 609 صواريخ؟ كيف يًصرّح بوتين شخصيّاً حول الاستدعاء، ومدّة التدريب بالتفصيل؟ أليست هذه الأمور من مهام وزارة الدفاع؟ كيف ينتقد الزعيم الشيشاني وزير الدفاع مباشرةً وعلناً، في الوقت الذي يخسر فيه الجيش الروسي مواقع مهمّة؟
وعندما تلتقط شركة مكسار (MAXAR) الصور الجويّة لأرض المعركة، ألا يمكن معرفة حركيّة الجيش الروسيّ، وخطوط مواصلاته التي تعتمد بنسبة 90 في المائة على سكك الحديد؟ ألا يمكن للشركة رصد حركة الشباب الهارب من الخدمة العسكريّة على حدود روسيا مع بعض البلدان المجاورة، ومنها من سيصبح عضواً في حلف «الناتو»، العدو اللدود لبوتين؟
وللتعويض، خلق بوتين ضبابيّة رادعة حول استعمال السلاح النووي التكتيكي. فهو حيّر الغرب، وجعله يُخططّ للسيناريو الأسوأ. لكن، وفي الوقت نفسه، يراقب الغرب الحركيّة اللوجيستيّة للسلاح النووي الروسيّ، وكيف يستعد. وحتى الآن، لا مؤشر لتحضير هذا السلاح.


مقالات ذات صلة

معدات عسكرية أميركية يصعب على الأوروبيين تعويضها لأوكرانيا

العالم سيكون لتجميد المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا لفترة طويلة تأثير كبير في المجالات التي يصعب على الأوروبيين تعويضها (أ.ب)

معدات عسكرية أميركية يصعب على الأوروبيين تعويضها لأوكرانيا

لا شك في أن تجميد المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا، لفترة طويلة، سيكون له تأثير كبير في المجالات التي يصعب على الأوروبيين تعويضها.

«الشرق الأوسط» (باريس)
أوروبا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (يسار) يتحدث مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب (وسط) ونائب الرئيس الأميركي جي دي فانس (يمين) بالمكتب البيضاوي بالبيت الأبيض (إ.ب.أ) play-circle

رغم تجميد المساعدات... أوكرانيا «مصممة» على التعاون مع أميركا

أعلنت أوكرانيا الثلاثاء أنها «مصممة» على مواصلة التعاون مع الولايات المتحدة ولا تزال تريد ضمانات أمنية ذات «أهمية وجودية» بالنسبة إليها

«الشرق الأوسط» (كييف)
أوروبا صورة ملتقطة في 1 مارس 2025 في العاصمة البريطانية لندن تظهر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي خلال لقائه رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر (د.ب.أ)

زيلينسكي: أوكرانيا مستعدة للعمل في ظل «قيادة ترمب القوية» لتحقيق السلام

قال الرئيس الأوكراني زيلينسكي، الثلاثاء، إنه يريد «تصحيح الأمور» مع الرئيس الأميركي ترمب، ويريد العمل تحت «القيادة القوية» لترمب لضمان سلام دائم في أوكرانيا.

«الشرق الأوسط» (كييف)
الولايات المتحدة​ يلقي ترمب خطابه الأول أمام الكونغرس في عهده الثاني (أ.ف.ب)

ترمب أمام الكونغرس في أول خطاب رئاسي له في عهده الثاني

في يومه الرابع والأربعين في المكتب البيضاوي، يقف الرئيس الأميركي الـ47، دونالد ترمب، أمام الكونغرس مخاطباً الأميركيين، في أول خطاب رئاسي له في عهده الثاني.

رنا أبتر (واشنطن)
أوروبا الملك البريطاني تشارلز الثالث (يسار) والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يلتقطان صورة خلال لقاء في قصر «ساندرينغهام»... (أ.ف.ب)

بعد اجتماعيه مع زيلينسكي وترودو... الملك البريطاني «عازم» على استخدام دوره الدبلوماسي

كشف مصدر ملكي عن أن الملك البريطاني تشارلز عازم على استخدام دوره الدبلوماسي بعد اجتماعيه مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ورئيس الوزراء الكندي.

«الشرق الأوسط» (لندن) «الشرق الأوسط» (لندن)

معدات عسكرية أميركية يصعب على الأوروبيين تعويضها لأوكرانيا

سيكون لتجميد المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا لفترة طويلة تأثير كبير في المجالات التي يصعب على الأوروبيين تعويضها (أ.ب)
سيكون لتجميد المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا لفترة طويلة تأثير كبير في المجالات التي يصعب على الأوروبيين تعويضها (أ.ب)
TT

معدات عسكرية أميركية يصعب على الأوروبيين تعويضها لأوكرانيا

سيكون لتجميد المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا لفترة طويلة تأثير كبير في المجالات التي يصعب على الأوروبيين تعويضها (أ.ب)
سيكون لتجميد المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا لفترة طويلة تأثير كبير في المجالات التي يصعب على الأوروبيين تعويضها (أ.ب)

لا شك في أن تجميد المساعدات العسكرية الأميركية لأوكرانيا لفترة طويلة سيكون له تأثير كبير في المجالات التي يصعب على الأوروبيين التعويض عنها، لكن بعض المجالات أسهل من غيرها مثل القذائف، وفقاً لخبراء قابلتهم «وكالة الصحافة الفرنسية».

يرى «معهد كيل» الألماني أن الولايات المتحدة قدمت بمفردها نحو نصف قيمة المساعدات العسكرية لأوكرانيا في المدة من 2022 إلى 2024.

ويقول مصدر عسكري أوروبي لـ«وكالة الصحافة الفرنسية» إن جزءاً من المساعدات سُلم بالفعل، ولكن إذا لم يشهد الوضع على الجبهة تحولاً في مواجهة الروس، «فسيكون الأمر معقداً في مايو (أيار) ويونيو (حزيران) المقبلين دون مساعدات جديدة» بالنسبة إلى الأوكرانيين.

ويقول المحلل الأوكراني، فولوديمير فيسينكو، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»: «إذا أخذنا في الحسبان ما تم تسليمه، وما لدينا، وما ننتجه، فإننا قادرون على دعم المجهود الحربي لـ6 أشهر على الأقل من دون تغيير طبيعة الحرب بشكل كبير».

ويرى يوهان ميشال، الباحث في جامعة «ليون3» أنه «في معادلة حرب الاستنزاف: أنت تضحي؛ إما بالرجال، وإما بالأرض، وإما بالذخيرة. وإذا نفدت ذخيرتك، فإنك إما تنسحب، وإما تضحي بالرجال».

وفي ما يلي 4 مجالات عسكرية قد تتأثر بتعليق المساعدات الأميركية:

الدفاع المضاد للطائرات

تتعرض أوكرانيا باستمرار لوابل من الصواريخ والمُسيَّرات ضد مدنها وبلداتها وبنيتها التحتية. تؤدي هذه الهجمات الكبيرة إلى إنهاك الدفاعات الأوكرانية وإجبارها على استخدام كميات كبيرة من الذخيرة.

بعيداً من خط المواجهة، تمتلك أوكرانيا 7 أنظمة «باتريوت» أميركية حصلت عليها من الولايات المتحدة وألمانيا ورومانيا، ونظامين أوروبيين من طراز «إس إيه إم بي/ تي (SAMP/T)» حصلت عليهما من روما وباريس لتنفيذ عمليات اعتراض على ارتفاعات عالية. ولدى كييف قدراتها الخاصة، وحصلت على أنظمة أخرى تعمل على مدى أقل.

يقول الباحث الأوكراني ميخايلو ساموس، مدير «شبكة أبحاث الجغرافيا السياسية الجديدة»، وهي مؤسسة بحثية في كييف، إن «الصواريخ الباليستية مهمة جداً لحماية مدننا، وليس قواتنا. لذا، فإن ترمب سيساعد بوتين على قتل المدنيين».

ويشرح ليو بيريا بينييه من «مركز إيفري الفرنسي للأبحاث»: «مع (باتريوت)، كما هي الحال مع جميع الأنظمة الأميركية، لدينا مشكلتان، مشكلة الذخائر، ومشكلة قطع الغيار للصيانة. في ما يخص قطع الغيار، هل سنتمكن من شرائها من الأميركيين وتسليمها للأوكرانيين أم إن الأميركيين سيعارضون ذلك؟ لا نعلم».

لتوفير ذخائر الـ«باتريوت»، تبني ألمانيا أول مصنع لها خارج الولايات المتحدة، ولكن من غير المتوقع أن يبدأ الإنتاج قبل عام 2027. وسوف تجد أوروبا صعوبة في تعويض أي نقص في هذا المجال.

ويقول ميشال إن «أوروبا تعاني من بعض القصور في هذا المجال؛ فأنظمة (إس إيه إم بي/ تي - SAMP/T) جيدة جداً، ولكنها ليست متنقلة، ويجري إنتاجها بأعداد صغيرة جداً. لا بد من زيادة الإنتاج، حتى ولو كان ذلك يعني تصنيعها في أماكن أخرى غير فرنسا وإيطاليا». لكن الأمر سيستغرق بعض الوقت. ويؤكد بيريا بينييه أن «العملية كان ينبغي أن تبدأ قبل عامين».

ويضيف يوهان ميشال أن «إحدى طرق التعويض تتمثل في توفير مزيد من الطائرات المقاتلة لتنفيذ عمليات اعتراض جوي وصد القاذفات الروسية التي تضرب أوكرانيا»، فالأوروبيون زودوا أوكرانيا بطائرات «إف16» و«ميراج 2000-5»، وأن لديهم فرصة لزيادة جهودهم في هذا المجال.

ضربات في العمق

يمكن للأسلحة الأميركية توجيه ضربات من مسافة بعيدة خلف خط المواجهة، مما يجعلها بالغة الأهمية بفضل صواريخ «أتاكمس (ATACMS)» أرض - أرض التي تطلقها راجمات «هيمارس (Himars)» التي أعطت واشنطن نحو 40 منها لأوكرانيا.

ويشير ميشال إلى أنها «إحدى المنصات القليلة في أوروبا». ويقول بيريا بينييه إن «أولئك الذين يملكونها يبدون مترددين في التخلي عنها، مثل اليونانيين».

ويقترح ميشال «أنظمة تشيكية، ولكنها أقل شأناً. يتعين على الأوروبيين أن يطوروا بسرعة أنظمة خاصة بهم، أو؛ إذا كانوا غير قادرين على ذلك، أن يشتروا أنظمة كورية جنوبية».

ويشير ساموس إلى أن هناك إمكانية لتوجيه ضربات عميقة من الجو، ولدى «الأوروبيين والأوكرانيين الوسائل التي تمكنهم من ذلك»، مثل صواريخ «سكالب» الفرنسية، و«ستورم شادو» البريطانية. ولكن بيريا بينييه ينبه إلى أن «المشكلة هي أننا لسنا متأكدين على الإطلاق من أن هناك أوامر أخرى صدرت بعد تلك التي أُعلن عنها».

القذائف المدفعية والأنظمة المضادة للدبابات

في هذا المجال، الأوروبيون في وضع أفضل. يقول ميشال: «ربما يكون مجال الأسلحة المضادة للدبابات هو الذي طور فيه الأوكرانيون أنظمتهم الخاصة. فالصواريخ، مثل صواريخ (جافلين) الشهيرة التي زودتهم بها الولايات المتحدة، تكمل أنظمة المُسيَّرات (إف بي في - FPV) بشكل جيد».

وفي ما يتعلق بالمدفعية، يشير بيريا بينييه إلى أن «أوروبا حققت زيادة حقيقية في القدرة الإنتاجية، وأوكرانيا في وضع أقل سوءاً».

في أوروبا، تسارعت وتيرة إنتاج القذائف وتسليمها إلى أوكرانيا، ويخطط الاتحاد الأوروبي لإنتاج قذائف عيار 155 مليمتراً بمعدل 1.5 مليون وحدة بحلول عام 2025، وهذا يزيد على 1.2 مليون وحدة تنتجها الولايات المتحدة.

الاستطلاع والاستعلام

تشتد الحاجة إلى الولايات المتحدة في هذا المجال الأساسي بفضل أقمارها الاصطناعية وطائراتها ومُسيَّراتها التي تجمع المعلومات وتعالجها.

ويقول فيسينكو: «من المهم جداً أن نستمر في تلقي صور الأقمار الاصطناعية».

ويشير ميشال إلى أن «الأوروبيين لديهم بعض الأدوات، ولكنها ليست بالحجم نفسه على الإطلاق، وكثير منهم يعتمد بشكل كامل على الولايات المتحدة في هذا المجال».