يُقال عن المفكّر العسكري الكبير صان تسو إنه سابق لعصره. وهو المفكّر الذي استمرّ فكره لأكثر من 2500 سنة، ومن الأكيد أن فكره سيستمرّ ما دامت الطبيعة البشرية كما هي.
فالحرب بالنسبة إليه «مسألة خطيرة للدولة. إنها ميدان الحياة والموت، وهي الطريق التي تؤدي إلى العيش أو الفناء. لذلك، من المستحيل عدم دراستها بعمق». فهل كل من ذهب إلى الحرب هو فعلاً من درسها بعمق؟ ولماذا تذهب الأمم إلى الحرب في الأصل؟
يقول الكاتب الأميركي جوفري بيريت، إن الولايات المتحدة هي أمّة صُنعت بالحرب. وبالحرب فعلاً احتلت أميركا مركز الصدارة العالميّة.
ويقول الكاتب الأميركي الراحل تشارلز تيللي: «إن الحرب صنعت الدولة، والدولة بالمقابل صنعت الحرب».
وهنا يُطرح السؤال: كيف يتمّ اتخاذ قرار الحرب؟ وما الآليّة؟ وكيف يُقرَّر مسبقاً وقف الحرب؟ وكيف يُقاس النجاح في الحروب؟ وعليه، كيف تُرسم الاستراتيجيّات الكبرى؟ وكيف تُعدّ الوسائل لخوض الحرب؟ وهل فعلاً يعتقد كلّ من ذهب إلى الحرب أنه سيربح؟ هذا ممكن، وإلا كيف يذهب إلى حرب خاسرة سلفاً؟
كلّها أسئلة تراكمت عبر تاريخ طويل جدّاً من الصراعات والحروب، ولا يزال الإنسان يقول إنه أخذ العبر والدروس من هذه التجارب، لكنه يعود إلى الدائرة الأولى، دائرة العنف. وهذا أمر يذكّرنا بالعالم الأنثروبولوجي ميرسيا إيلياد في كتابه «أسطورة العوْد الأبديّ»، وهو ما يعني أن «التكرار» (العوْد) سمة ملازمة للوجود، وهو مبرمج مسبقاً، وأن الإرادة هي لاحقة للتسيير.
ضبابيّة الحرب (Fog of War)
لا يمكن لأي فريق من المتحاربين أن يعرف فعلاً، وبالتفصيل، كلّ شيء حول حربه على الآخر. فمهمّة الآخر هي إلقاء ضباب كثيف حول نياته، وذلك عبر الخداع (Deception). وبذلك تتحوّل الحرب من حرب فرض الإرادة على الآخر، إلى حرب لمعرفة نيات الآخر. وهنا يدخل ما يُسمّى الاستعلام التكتيكي، أي تجميع كلّ المؤشرات حول حركيّة العدو على ساحة المعركة، وتحليلها استناداً إلى ثقافة العدو الاستراتيجيّة، ومن ثم وضع فرضيّات محدودة حول نياته.
في حرب الجيش الأوكراني على الجبهتين الشرقيّة والجنوبيّة، تبيّن أن العمليّة في الجنوب كانت عبارة عن تمويه وخداع للجيش الروسيّ، لجرّ معظم قواه واهتماماته إلى خيرسون، ومن ثمّ الهجوم على خاركيف باعتماد مبدأ الحرب الخاطفة (Blitzkrieg).
تخلق الضبابيّة في الحرب ما يُسمّى الاحتكاك (Friction). بكلام آخر، وحسبما قال كارل فون كلوزفيتز، الاحتكاك هو نتيجة طبيعيّة للفارق بين خوض الحرب على الخريطة وخوضها فعلياً على ساحة المعركة. إنها كمن يحاول الركض في الوحل.
لم يستطع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلق تلك الضبابيّة حول حربه على أوكرانيا. فمنذ اليوم الأول، أعلن بوتين أهدافه الكبرى. ومنذ اليوم الأوّل نشرت صحف العالم كلّها خرائط انتشار جيشه حول أوكرانيا، الأمر الذي يفضح كل محاور هجومه ومخطّطاته. واعتمد بوتين على التفوّق العددي والمادي لجيشه. ألم يقل ستالين «إن للكميّة نوعيّة خاصة بها»؟
حتى الآن، لم يستطع بوتين خداع الآخر. فجيشه كتاب مفتوح من الجهّتين الاستراتيجيّة والعملانيّة، وحتى على المستوى التكتيكي. حتى ترسانته، ومن كلّ أنواع الأسلحة، أصبحت معروفة، وإذا عُرفت فقد يمكن التخطيط بشكل يؤدّي إلى استنزافها. فكيف يعرف العالم كله أن الجيش الروسي كان يملك في بدايات الحرب ما يقارب 1844 صاروخاً ذكيّاً، ولم يعد لديه في المخزون أكثر من 609 صواريخ؟ كيف يًصرّح بوتين شخصيّاً حول الاستدعاء، ومدّة التدريب بالتفصيل؟ أليست هذه الأمور من مهام وزارة الدفاع؟ كيف ينتقد الزعيم الشيشاني وزير الدفاع مباشرةً وعلناً، في الوقت الذي يخسر فيه الجيش الروسي مواقع مهمّة؟
وعندما تلتقط شركة مكسار (MAXAR) الصور الجويّة لأرض المعركة، ألا يمكن معرفة حركيّة الجيش الروسيّ، وخطوط مواصلاته التي تعتمد بنسبة 90 في المائة على سكك الحديد؟ ألا يمكن للشركة رصد حركة الشباب الهارب من الخدمة العسكريّة على حدود روسيا مع بعض البلدان المجاورة، ومنها من سيصبح عضواً في حلف «الناتو»، العدو اللدود لبوتين؟
وللتعويض، خلق بوتين ضبابيّة رادعة حول استعمال السلاح النووي التكتيكي. فهو حيّر الغرب، وجعله يُخططّ للسيناريو الأسوأ. لكن، وفي الوقت نفسه، يراقب الغرب الحركيّة اللوجيستيّة للسلاح النووي الروسيّ، وكيف يستعد. وحتى الآن، لا مؤشر لتحضير هذا السلاح.
الحرب الروسيّة على أوكرانيا... كتاب مفتوح للقراءة

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (د.ب.أ)
الحرب الروسيّة على أوكرانيا... كتاب مفتوح للقراءة

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (د.ب.أ)
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة