خفض صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو العالمي لعام 2023 إلى 2.7 في المائة، انخفاضاً من نسب نمو 2.9 في توقعاته في شهر يوليو (تموز) الماضي، وسط ضغوط الأزمات الجيوسياسية المتشابكة من الحرب في أوكرانيا وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء وارتفاع معدلات التضخم وارتفاع أسعار الفائدة بشكل حاد، محذراً من أن الظروف قد تتدهور بشكل كبير العام المقبل وأنه لا بد من الاستعداد للأسوأ.
وفي تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر صباح الثلاثاء، قال صندوق النقد الدولي إن التوقعات تظهر أنه من المرجح أن ينكمش ثلث الاقتصاد العالمي بحلول العام المقبل، حيث ستواجه الاقتصاديات الثلاثة الأكبر وهي الولايات المتحدة ومنطقة اليورو والصين انكماشاً اقتصادياً وتعثراً اقتصادياً، مع ارتفاع معدلات التضخم إلى حوالي 8.8 في المائة، وترشيحات لأن تظل مرتفعة لفترة أطول من المتوقع، ولن تعود نحو 4.1 في المائة حتى عام 2024. وأشار خبراء الصندوق إلى أن هناك خطراً متزايداً من انزلاق الاقتصاد العالمي إلى حالة ركود عام.
ووضع الصندوق احتمالات أن ينخفض النمو العالمي إلى أقل من 2 في المائة العام المقبل - وهي ظاهرة حدثت خمس مرات فقط منذ عام 1970 - وقال إن هناك احتمالاً لانكماش الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وأن يكون أداء الاقتصاد العالمي أسوأ من التوقعات، محذراً من أن هذا السيناريو المتشائم قد يمثل ضعفاً اقتصادياً عالمياً وسيكون مؤلماً جداً لكثير من الدول.
- الأسوأ قادم
وقال بيير أوليفيه غورينشاس، كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي للصحافيين صباح الثلاثاء، إن الارتفاع السريع في أسعار الطاقة والغذاء سيتسبب في صعوبات خطيرة، ورغم التباطؤ فإن ضغوط التضخم أصبحت أوسع وأكثر ضغطاً مما كان متوقعاً. وأشار إلى أنه من المتوقع أن يبلغ معدل التضخم العالمي ذروته عند 9.5 في المائة في الربع الأخير من عام 2022. وأضاف غورينشاس أن «الاقتصادات الثلاثة الأكبر، الولايات المتحدة والصين ومنطقة اليورو، ستستمر في التعثر... باختصار، الأسوأ لم يأت بعد، وبالنسبة لكثير من الناس، سيشعرون عام 2023 بالركود».
وأشار إلى تحدي قوة الدولار، وقال: «أصبح الدولار الآن في أقوى مستوياته منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مقابل عملات الأسواق الناشئة، وهذا الارتفاع مدفوع بالمعايير الأساسية مثل تشديد السياسة النقدية في الولايات المتحدة وأزمة الطاقة»، ونصح صناع السياسة في الأسواق الناشئة إلى العمل على تحسين احتياطيات السيولة وتقليل تأثير الاضطرابات المالية من خلال اتخاذ تدابير احترازية كلية وقائية.
- مصداقية المصارف المركزية
ووسط حالة من عدم اليقين غير العادية بشأن التوقعات والتضخم المرتفع والمتزايد، واصلت البنوك المركزية تطبيق سياسات لاستعادة استقرار الأسعار وقامت بتشديد السياسات المالية والنقدية منذ أبريل (نيسان) الماضي، وأكدت البنوك المركزية العزم على محاربة التضخم لكن يبدو أن الخلاف بين المستثمرين حول ارتفاع التضخم أصبحت أكثر وضوحاً، وتعكس ارتفاعات معدلات التضخم في منطقة اليورو المخاوف المتزايدة بشأن تباطؤ النمو الكلي وأظهرت بالفعل الأسواق المالية الأوروبية مخاوف من الدخول في ركود اقتصادي.
وقال غورينشاس إن «المصداقية التي تحققت بشق الأنفس للبنوك المركزية يمكن أن تتقوض إذا أساءت مرة أخرى الحكم على استمرار التضخم العنيد... هذا من شأنه أن يضر أكثر بكثير باستقرار الاقتصاد الكلي في المستقبل».
- الديون
وأبدى كبير الاقتصاديين بصندوق النقد الكثير من القلق حول أزمة الديون التي تعاني منها الدول ذات الدخل المنخفض، مشيراً إلى أهمية إعادة هيكلة الديون من خلال مجموعة العشرين.
ومن المتوقع أن يكون تخفيف ديون الأسواق الناشئة موضوعاً رئيسياً للمناقشة بين صانعي السياسة المالية العالميين في اجتماعات واشنطن، وقال غورينشاس إن الوقت قد حان للأسواق الناشئة «لتضييق الخناق للاستعداد لظروف أكثر صعوبة... وكانت السياسة المناسبة لمعظم الناس هي إعطاء الأولوية للسياسة النقدية لاستقرار الأسعار، والسماح للعملات بالتكيف والحفاظ على احتياطيات العملات الأجنبية القيمة عندما تسوء الظروف المالية بالفعل».
ولم تكن مفاجأة أن تخرج هذه التوقعات الأكثر قتامة حول آفاق الاقتصاد العالمي، حيث حذرت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، كريستالينا غورغييفا، في تصريحات سابقة من الأوضاع القاتمة للاقتصاد، وأشارت إلى أن «مخاطر الركود تتزايد» حول العالم وأن الاقتصاد العالمي يواجه «فترة من هشاشة تاريخية».
وقال صندوق النقد الدولي إن توقعاته تخضع لعملية توازن دقيقة من جانب البنوك المركزية لمكافحة التضخم دون الإفراط في التشديد، الأمر الذي قد يدفع الاقتصاد العالمي إلى «ركود حاد لا داعي له» ويسبب اضطرابات للأسواق المالية ويؤذي البلدان النامية. وأشارت مديرة صندوق النقد الدولي إلى ضرورة السيطرة على التضخم باعتبارها الأولوية الأكبر.
وحافظ التقرير على توقعاته للربع الرابع من العام الجاري عند مستوى نمو 3.2 في المائة، فيما توقع نمو الناتج المحلي العالمي لعام 2023 بنسبة 2.7 في المائة متراجعاً عن التوقعات السابقة في يوليو الماضي بنسبة نمو 2.9 في المائة.
وأرجع التقرير هذا التراجع إلى ارتفاع أسعار الفائدة التي أصدرها الفيدرالي الأميركي وأزمة شح مصادر الطاقة وارتفاع أسعار الغاز التي تعاني منها القارة الأوروبية، إضافة إلى تأثير التراجع الاقتصادي الصيني بسبب إغلاقات كوفيد 19 والضعف العام في قطاع العقارات.
- نمو أميركي «هزيل»
وتوقع التقرير تراجعاً كبيراً في معدلات النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة هذا العام، مشيراً إلى نمو هزيل بنسبة 1.6 في المائة - انخفاضاً بنسبة 0.7 نقطة مئوية عن توقعات شهر يوليو، مما يعكس انكماشاً غير متوقع في الناتج المحلي الإجمالي في الربع الثاني. وأبقى صندوق النقد توقعاته للنمو في الولايات المتحدة لعام 2023 دون تغيير عند 1.0 في المائة.
- تراجع صيني هائل
وتوقع الصندوق نمو الاقتصاد الصيني بنسبة 3.2 في المائة فقط هذا العام، بانخفاض كبير عن 8.1 في المائة العام الماضي. وأوضح التقرير أن بكين وضعت سياسة صارمة لمنع انتشار فيروس كورونا الجديد، وشنت حملة على الإفراط في الإقراض العقاري، مما أدى إلى تعطيل النشاط التجاري. ومن المتوقع أن يتسارع النمو في الصين إلى 4.4 في المائة العام المقبل، لكنه لا يزال فاتراً بالمعايير الصينية.
وتوقع الصندوق للهند - التي تعد أسرع الاقتصادات الآسيوية نمواً - ارتفاعاً بنسبة 6.8 في المائة للعام الجاري وانخفاضاً إلى 6.1 في المائة العام المقبل.
- منطقة اليورو المطحونة في الأزمة
وتوقع الصندوق نمواً هزيلاً بنسبة لا تتجاوز 0.5 في المائة فقط في عام 2023 للدول الأوروبية التسعة عشر التي تشترك في عملة اليورو، والتي تعاني من ارتفاع أسعار الطاقة بشكل ساحق بسبب هجوم روسيا على أوكرانيا والعقوبات الغربية ضد موسكو. ويحذر الصندوق من أزمة طاقة في أوروبا حيث تسببت الحرب في إعادة تنظيم جيوسياسي لإمدادات الطاقة التي يصفها التقرير بأنها ستكون واسعة وممتدة.
وكانت كل من ألمانيا وإيطاليا في صدارة الدول التي ستعاني من ركود خلال العام المقبل، حيث سيتراجع النمو المحلي الإجمالي الألماني (الذي يعد الأكبر في منطقة اليورو) بنسبة 0.3 في المائة، ويتراجع النمو المحلي الإجمالي الإيطالي بنسبة 0.2 في المائة.
- مصر و«التحديات الخارجية»
وقال مسؤولو الصندوق إن مصر تأثرت بالتباطؤ العالمي وتشديد الأوضاع المالية وشهدت خروج رأس مال كبير للخارج مع ارتفاع التضخم. وخفض الصندوق توقعاته لنمو الاقتصاد المصري من 4.8 في المائة إلى 4.4 في المائة، ويرجع التخفيض إلى تحديات خارجية. وتتفاوض الحكومة المصرية مع صندوق النقد منذ مارس (آذار) الماضي للحصول على قرض ودعم مالي. ولا تزال المفاوضات جارية وتأخذ وقتاً طويلاً «غير معتاد»، وتتوقع بعض الدوائر أن يصل القرض لمصر ما بين 3 إلى 5 مليارات دولار. وتشير بنوك عالمية إلى أن مصر تعاني من فجوة تمويلية تتجاوز 15 مليار دولار خلال السنوات الثلاث المقبلة.