«بيت كنز»... قصة مدينة تعبق بالياسمين والتراث الأصيل

ينبثق من المؤسسة الأم «جمعية البركة»

المكتبة في «بيت كنز» (الشرق الأوسط)
المكتبة في «بيت كنز» (الشرق الأوسط)
TT

«بيت كنز»... قصة مدينة تعبق بالياسمين والتراث الأصيل

المكتبة في «بيت كنز» (الشرق الأوسط)
المكتبة في «بيت كنز» (الشرق الأوسط)

داخل مبنى تراثي قديم شيد ما بين القرنين الـ18 والـ19، افتُتح «بيت كنز» في شارع سرسق البيروتي العريق. محاطاً بحديقة غناء تنتصب فيها أشجار ساحلية وتعبق برائحة الياسمين البري. وأعادت جمعية «بيت البركة» المؤسسة الأم التي ينبثق عنها، ترميم هذا البيت. وبذلك يكون ملتقى ثقافياً يحتفي بتراث مدينة. أما هدفه فهو استحداث جسر تواصل يسمح للبنانيين بالتعرف إلى تاريخهم وتراثهم. فأبوابه المفتوحة مجاناً أمام الزائرين تهدف إلى تحقيق تغيير دائم وقابل للتجديد في المناطق الريفية اللبنانية. إذ يوفر المشروع حلولاً مستدامة تستغل القدرات الكبيرة في لبنان، وبينها ما يصب في خانة تمكين المرأة. إذ ينقل إلى النساء المهارات اللازمة من «بيت البركة» ليصبحن منتجات مكتفيات ذاتياً.
تجتمع في المبنى أساليب هندسية كثيرة تعكس تاريخ العمارة في بيروت، أسقفه المزخرفة كما تقسيم غرفه الأربعة المزينة بديكورات تراثية وأخرى حديثة، تشكل نموذجاً حياً للبيت البيروتي العريق.
يروي «بيت كنز» قصة مدينة لا تزال تتشبث بجذورها وتاريخها. وفي الوقت نفسه يكرم حداثتها ومطبخها وأزياءها وطابعها الحرفي.
ولدت الفكرة من خلال مؤسسة «بيت البركة» مايا إبراهيم شاه، التي لفتها جلوس سيدة لبنانية لمدة 3 أيام على قارعة الطريق من دون مأوى. وتوضح لـ«الشرق الأوسط»: «لفتتني هذه المرأة التي كانت تجلس وأمامها حقائب موضبة، وكأنها تنوي السفر، حدثتها وطلبت منها أن تخبرني قصتها وسبب بقائها 3 أيام متتالية على الطريق. اكتشفت بأنها أستاذة لغة فرنسية متقاعدة، لم تعد تملك الإمكانيات المادية للعيش بكرامة».


مايا إبراهيم شاه تقف وسط «بيت كنز» (الشرق الأوسط)

هذا المشهد كان بمثابة الشرارة الأولى التي دفعت بمايا لإطلاق جمعية «بيت البركة» في عام 2019. وهي تهدف لمساعدة العائلات المحتاجة التي تعاني ضائقة مالية. توسعت الجمعية المذكورة بعدما تعرفت مايا إلى عدة أشخاص يشبهون بحالتهم الاجتماعية تلك السيدة، وراحت توفر لهم فرص عمل تدور في فلك الزراعة والإنتاج. «هن بغالبيتهن من النساء وفي فترة قصيرة جمعت ما يوازي 200 شخص. كما استحدثت تعاونية خاصة بهم، يشترون منها ما يحتاجون مقابل نقاط يتزودون بها من بطاقات خصصتها لهذا الأمر. ومن ثم افتتحت صيدلية تؤمن لهم الدواء مجاناً أيضاً، إلى أن حدث انفجار 4 أغسطس (آب). عندها قدمنا مساعدات جمة للمحتاجين وأعدنا ترميم 3100 منزل و668 دكاناً و4 مدارس وقسم من مستشفى الجعيتاوي».
كبرت مهام الجمعية مع الوقت، لا سيما عندما توجهت مؤسستها إلى العمل في الزراعة والإنتاج والتصدير. ومع نساء وربات منازل موزعة على عدد من المناطق اللبنانية فتحت فرص عمل لهن. ورحن يعملن بالمونة اللبنانية والأشغال اليدوية. «هذه الأعمال كانت بمثابة باب فرج لهن، كي يعتشن بكرامة مع عائلاتهن».
توضح مايا التي تتابع لـ«الشرق الأوسط»: «انطلقنا في تصدير هذه المنتجات، وكبرت عائلتنا بشكل ملحوظ بحيث وصل العدد إلى 1000 سيدة في 53 قرية لبنانية».
ويأتي افتتاح «بيت كنز» ليكمل أهداف جمعية «البركة»، وكي يشكل موقعاً لتصريف هذه الإنتاجات محلياً. وبالتالي ليكون بمثابة بقعة ضوء وسط بيروت كملتقى ثقافي يدخله الزوار مجاناً. جمعت الأموال خصيصاً للحفاظ عليه من قِبل جهات مانحة تدعم الحفاظ على التراث المعماري. وجمعت «بيت البركة» الموارد المالية والخبرات الفنية لترميم المبنى والحفاظ عليه. واتفقت مع المالكين من أجل الإبقاء على المساحة تحت تصرف «كنز» لمدة 5 سنوات من دون أي مقابل مادي.
هذا البيت أمّن فرص عمل لنحو 60 شخصاً إضافة إلى آخرين من حرفيين أسهموا في ترميمه وإعادة إصلاحه. يفتح أبوابه من الثامنة صباحاً لغاية منتصف الليل. وتنقسم مساحته إلى 4 صالات: بيت المونة، والمتجر الحرفي، والمقهى، والمكتبة.
يعود ريع كل عائداته المادية لجمعية «البركة» التي جمعت فيه الفنون والثقافة والتراث.
وعمل شارل حايك، أستاذ التاريخ، على وضع لمساته الأساسية وربطها بالتراث اللبناني العريق. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «نجمع في هذا الموقع التراث اللبناني من جميع المناطق، من الجنوب إلى الشمال وصولاً إلى بيروت. ونلاحظ في كل غرفة من غرفه خلفية ثقافية توصل إلى زائره معلومات مختلفة. وطبيعة هذه المعلومات تتعلق بتاريخ الأزياء الخاصة بالمرأة اللبنانية، انطلاقاً من كامد اللوز، مروراً بناقوس أحيرام وصولاً إلى الأزياء المطبوعة في الغرب. وفي قائمة الطعام أدرجنا قرب كل طبق تاريخه وكيفية تطوره وأصوله اللبنانية. وكذلك وضعنا معلومات عن شخصيات لبنانية وعن الحرف الأشهر في لبنان منذ القدم».
وبين الليوان والدار والمربع، تتجول في أقسام المنزل الذي يسترعي انتباهك فيه دقة ديكوراته وجمالها. وبينها رسم لشتلة ياسمين عملاقة من توقيع «دو غورناي» المشهورة بهذا الفن الخاص بورق الجدران. فتشعر وكأنك تتجول في متحف صغير يحكي تاريخ مدينة بهندسته وتقطيعات مساحته البالغة 300 متر مربع. وبين أسقفه المزخرفة برسومات يدوية، وأبوابه المتوجة بالقناطر، ونوافذ المندلون البيروتية، تلحظ هذا التمازج بين الكلاسيكية والحداثة.
وتوضح ديان مكتف، المهندسة الداخلية التي أشرفت على إعادة ترميمه: «أخذت بعين الاعتبار هيكلية المبنى فكنت محكومة بتراثه الممثل بأسقفته وأحجاره الرملية. حتى المطعم فيه صممناه على طريقة الـ(بيسترو) الفرنسي المطبوع بهوية بيروت، مع طاولات من الرخام ومقاعد وثيرة من القماش. ولكن العمل ككل كان ممتعاً وأنجزنا خلاله الأفكار التي راودت مؤسسته مايا إبراهيم شاه».
وفي غرفة المكتبة المطلة عبر واجهاتها الزجاجية على الحديقة، تسرق انتباهك صور عن بيروت القديمة. وهي مجموعة فنية لفيليب جبر، يحكي فيها عن فترة الاستشراق الأوروبي في لبنان. فنتعرف من خلالها على شكل بيروت وغيرها من المدن اللبنانية وكيفية تطورها مع الوقت.
تحتار أين تجلس في «بيت كنز» الذي يخصص في صالة الطعام جلسة مريحة لمن يرغب في ارتشاف فنجان قهوة والعمل على الحاسوب الآلي في الوقت نفسه.
وفي غرفة المونة تجتمع أنامل سيدات لبنانيات في صناعة المربيات والعصائر والزعتر البلدي الأشهى في لبنان. وتعلق مايا موضحة: «لقد استعنا بطهاة لبنانيين مشهورين في عالم الطعام والحلوى كي يوقعوا هذه المونة اللذيذة ويعلمونها للسيدات العاملات معنا. ومع يوسف عقيقي، وبيار أبي هيلا، ونيكولا عودة، وحسين حديدن وغيرهم حضرنا مونة لبنانية أصيلة لا تشبه غيرها بأصالتها وعملية اتقانها».
ويشير شارل الحايك إلى أن «بيت كنز» سيشهد في الأيام القليلة المقبلة، مشاريع فنية وثقافية كالمعارض، وعقد حلقات حوار ثقافية، وغيرها من النشاطات التي تهم اللبنانيين من شرائح مختلفة.



«مهرّب» أرشيف التعذيب السوري يكشف لـ «الشرق الأوسط» هويته

أسامة عثمان... أو «سامي» خلال المقابلة مع «الشرق الأوسط» في باريس (الشرق الأوسط)
أسامة عثمان... أو «سامي» خلال المقابلة مع «الشرق الأوسط» في باريس (الشرق الأوسط)
TT

«مهرّب» أرشيف التعذيب السوري يكشف لـ «الشرق الأوسط» هويته

أسامة عثمان... أو «سامي» خلال المقابلة مع «الشرق الأوسط» في باريس (الشرق الأوسط)
أسامة عثمان... أو «سامي» خلال المقابلة مع «الشرق الأوسط» في باريس (الشرق الأوسط)

«انتصرت دماؤكم وسقط الأسد». بهذه العبارة توجّه الناشط الحقوقي السوري أسامة عثمان، إلى ضحايا القمع والتعذيب خلال حكم الرئيس السابق بشار الأسد، كاشفاً للمرة الأولى، بالصوت والصورة، عن أنَّه هو «سامي» الذي ارتبط اسمه كالتوأم مع قريبه «قيصر» في تهريب عشرات آلاف صور قتلى التعذيب في سجون سوريا.

صار «أرشيف التعذيب» فيما بعد «دليل إدانة» ضد حكم الأسد أمام محاكم دولية وتسبب في فرض الأميركيين عقوبات «قانون قيصر» على سوريا.

تنشر «الشرق الأوسط» مقابلة حصرية مع «سامي»، عبّر فيها عن مدى فرحته بالتغيير الذي حصل في سوريا مع سيطرة المعارضة على دمشق، مشدداً على ضرورة «المحاسبة». وحذّر من تبعات «الدخول العشوائي للمواطنين إلى السجون وأماكن الاحتجاز»، مشيراً إلى أنَّ ذلك «أدَّى إلى إتلاف أو فقدان وثائق وسجلات رسمية مهمة للغاية تكشف عن انتهاكات منذ عشرات السنين».

وأعرب عن قلقه أيضاً من استمرار موظفي النّظام في العمل، مما يمكّنهم من «طمس الملفات في كل فروع وملحقات حزب البعث العربي الاشتراكي التي يعلم جميع السوريين أنَّها كانت مؤسسات أمنية بامتياز».

وشرح سبب اختياره العمل السري على مدى سنوات باسم «سامي»، قائلاً: «طبيعة العمل وطبيعة الملف الذي خرجنا به من سوريا... كانت سبباً في أن أحرص على إخفاء هويتي وهوية الكثير من أعضاء الفريق. اليوم نحن، الحمد لله، في وضع آخر تماماً. نحن في مكان آخر. في سوريا أخرى جديدة».

كان «سامي» و«قيصر» قد بدآ التعاون في جمع وثائق التعذيب في مايو (أيار) 2011، بعد فترة وجيزة من بدء الثورة ضد الأسد. كان «قيصر» مصوّر قتلى التعذيب في سجون النظام، يهرب الصور عبر ذاكرة رقمية محمولة «يو إس بي» ويعطيها لـ«سامي». نجح الرجلان في تهريب «أرشيف التعذيب» إلى خارج سوريا، وصارت شهادتهما دليلاً ضد النظام أمام أكثر من محفل دولي.