حبّ غير اعتيادي على جسد الكراهية

الجزائري أنور بن مالك يكتب عن «وحشية الأحداث» في سوريا

حبّ غير اعتيادي على جسد الكراهية
TT

حبّ غير اعتيادي على جسد الكراهية

حبّ غير اعتيادي على جسد الكراهية

لا يكاد القارئ العربي يعرف شيئاً عن الروائي الجزائري أنور بن مالك، الذي وُلد عام 1956 بالدار البيضاء بالمملكة المغربية، ويعد أحد المؤسسين بعد أحداث أكتوبر (تشرين الأول) الشهيرة، للجنة الجزائرية المناهضة للتعذيب عام 1988، وهذا بسبب قلة ما ترجم له إلى العربية، رغم علو كعبه في ساحة السرد المكتوب بالفرنسية، بفضل منجزه الروائي الذي مكنه من الحصول على الاعتراف من أهم المنابر الإعلامية والنقدية في فرنسا والعالم الفرنكفوني بوجه عام.
في عمله الأحدث «الحب في زمن الأوغاد»، الصادر عن دار إيمانويل كولاس الفرنسية ومنشورات القصبة بالجزائر، شد أنور بن مالك الرحال إلى سوريا التي كثيراً ما تناولها في لقاءاته الصحافية، معبراً عن ألمه وصدمته بسبب ما يحدث فيها من تقتيل وخراب، بل إنه وصف الجنون المهيمن هذا البلد وغيره من أقطار الوطن العربي بـ«اغتيال للتراث الإنساني» ومحاولة لإنهاء التنوع الثقافي الذي هو أعظم ما يميز مجتمعات عربية عريقة في الحضارة كالعراق وسوريا، مقراً بأنه موضوع يشغله ويجب أن يشغل جميع الكتاب الأحرار.
لم يرد بن مالك أن تكون مقاربته لموضوع الحرب السورية تقليدية أو مستوحاة من التأثير الإعلامي، فما الحرب بالنسبة إليه إلا حالة مؤقتة وإن دامت عقوداً، لا يمكن أن تصمد أمام الحقيقة الإنسانية المجبولة على الحياة والرغبة المستمر في السلم. هكذا وشم في روايته رسم حب غير اعتيادي على جسد الكراهية، وحاول من خلال هذه الرواية أن يطرح السؤال نفسه الذي كثيراً ما طرحه في أعماله السابقة: «هل الحياة قابلة للموت فعلاً؟».
قد يبدو هذا السؤال مفرطاً في البراءة، لكنه في الحقيقة جوهر كل الهم الإنساني الذي قد يتخذ أشكالاً عدة، لعل أكثرها بشاعة هي الحرب التي صارت تطحن المجتمع السوري الذي اختاره بن مالك بطلاً لروايته «الحب في زمن الأوغاد» التي حاول من خلالها أن يفضح الوحشية الحاصلة في سوريا بالدعوة إلى إمعان التأمل والتفكير والنظر بروية في وجه الحرب الدميم.
تصور الرواية سوريا كمكان يجمع كل ما يدعو إلى الفناء، فمشاهد التقتيل والمذابح والدمار الذي حبك أحداثها الكاتب كانت من الكثافة والدقة، ما يجعل القارئ يتوهم أن بن مالك عايشها شخصياً أو على الأقل كان شاهداً عليها لحظة وقوعها، محيلاً بلا توقف على أحداث ومآسٍ شبيهة حدثت وتحدث في أقطار عربية أخرى.
وحشية الأحداث في رواية «الحب في زمن الأوغاد» لم تهدف لإحداث الصدمة في ذات القارئ، بل كانت تمهيداً لرسالة إنسانية ضمنها الكاتب روايته، لعل أفضل ما يلخصها وصفه الاستثنائي لسوريا وهو يقول على لسان الراوي: «خلف البحر ثمة بلد لا يضاهيه جمالاً إلا الجنون» أو تلك السخرية القاتلة على لسان إحدى شخصيات الرواية: «إن أخي رجل مثالي، فهو يحلم بالتضحية بنفسه منذ سنين. كل ما يرجوه من أعماق روحه أن يكون موته من أجل الدين محاطاً بالجمال». رسالة تقول إن القاتل يحمل في ذاته جحيماً يحرق روحه في كل لحظة، وليس في اعتقاده من طريقة للخلاص منه إلaا بإخراجه للواقع، فلربما ينعم بعدها بجنته الموهومة.
يرى بن مالك أن الحياة وحدها قادرة على مواجهة هذا الاعتقاد المريض، وأن إكسير هذا السم هو الحب ولا شيء آخر، فعلى اختلاف شخصيات الرواية ديناً ومذهباً ولغة، شبك الكاتب أحداثاً تقود كلها إلى عقيدة الحب التي يقترحها بديلاً صريحاً عن عقيدة الموت المعتنقة فوحدها كفيلة لتخلق أسباب الرغبة في الحياة.
ربما هذا ما يبرر روح الدعابة التي بثها الكاتب في روايته، رغم همجية الأحداث ومشاهد العنف المتدفقة فيها، وهي دعابة صاحبت بشكل خاص شخصيات العمل الموصوفة بالجهادية، ليظهر غباء العقل الجهادي تحت أي مسمى كان، وهو العقل الذي طالما انتقده في أعماله السابقة، عبر إظهار سذاجته وانفصاله عن الواقع والعصر.
لكن سلاسة السرد التي ميزت رواية «الحب في زمن الأوغاد»، شابتها مبالغة في اختيار بروفيلات الشخصيات التي أرادها الكاتب مختلفة في كل شيء: الدين، الجنسية، المذهب... لكن ذلك جعله على مسافة من بعض تلك الشخصيات، فلم تُنحت على المستويين السيكولوجي والثقافي بما يسمح باندماجها مع الأحداث نفسياً، وبالتالي خرب بعض الشيء بناء الإيهام الذي يفترض أن تصنعه هذه الرواية، وهو ما يظهر بوضوح في تشكيل شخصية الأم اليزيدية، التي بدت سطحية للغاية رغم الجهد التأملي والبحثي المؤثث به هذا العمل.
يشعر القارئ أيضاً رغم تدفق الحكي، بسبب تضمين العمل عدداً مبالغاً فيه من فقرات الدعابة أو العبارات التأملية وكذا الآراء الآيديولوجية للكاتب المبطنة على لسان شخصياته، ببعض الترهل في العمل والكثير من الصفحات التي لا فائدة ترجى من وجودها، خصوصاً تلك التي تعيد حدثاً تم ذكره أو تعود للتأمل في حالة قد تم تأملها من قبل. كما أن إصرار الكاتب على الإحالة على وقائع حرب أخرى غير التي تشكل أحداث الرواية، أضعف البنية السردية للعمل، لولا تلك القدرة الاستثنائية لأنور بن مالك في ربط الأحداث والعودة إلى الموضوع الرئيسي، بفضل أدواته اللغوية التي تُظهر براعته السردية المشهود بها.
عانى أنور بن مالك خلال مسيرته الإبداعية من الكثير من المشاكل، بسبب مواقفه الصارمة من الإسلاميين والفكر الجهادي وأيضاً بسبب مواقفه السياسية داخلياً وخارجياً، وطريقته في تشريح التاريخ وتفسيره، خصوصاً ما تعلق منه بالثورة التحريرية أو العشرية السوداء، فهو يرى أن بمقدور المرء أن يكون بطلاً وقاتلاً في الوقت نفسه، وأن ثورية أي شيء كان لا يمكن أن تمنحه صفة القداسة والملائكية، ولعل إلقاءه الضوء على ما يعرف بمذبحة ملوزة أثناء الحرب التحريرية (1954 - 1962) في روايته «الاختطاف»، أفضل مثال لقراءته الخاصة للتاريخ رغم ما يترتب عنها في كل مرة من اتهامات ذهبت إلى تخوينه أكثر من مرة.


مقالات ذات صلة

«SRMG Labs» تتألق في جوائز «كليو» العالمية

يوميات الشرق شهد حفل توزيع جوائز «كليو» تكريم مبادرة «صوت الأرض» بـ7 جوائز مرموقة play-circle

«SRMG Labs» تتألق في جوائز «كليو» العالمية

حققت «SRMG Labs»، وكالة الخدمات الإبداعية والإعلانية التابعة للمجموعة السعودية للأبحاث والإعلام (SRMG)، إنجازاً قياسياً بفوزها بجوائز «كليو» العالمية المرموقة.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق تناول اللقاء تطورات المشهد الإعلامي المتغير وسبل تنويع المحتوى الإبداعي التنافسي لتلبية تطلعات المتابعين (تصوير: سعد الدوسري)

«الأبحاث والإعلام» ووزير الإعلام الباكستاني يبحثان آفاق التعاون الإعلامي

استقبلت المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام (SRMG) في مقرّها بالرياض، وزير الإعلام الباكستاني عطا الله تارار، لبحث فرص التعاون في المجال الإعلامي وتطوير المحتوى.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق فوز أيمن الغبيوي عن مسار «التقرير الصحافي» بجائزة «المنتدى السعودي للإعلام» (إندبندنت عربية)

«إندبندنت عربية» تحصد ثامن جوائزها في عامها السابع

فازت «إندبندنت عربية»، الجمعة، بجائزة «التقرير الصحافي» في «المنتدى السعودي للإعلام» 2025، عن تقرير «مترو الرياض... رحلة فلسفية للتو بدأت فصولها».

الولايات المتحدة​ صورة ملتقطة في 20 فبراير 2025 تظهر الرئيس الأميركي دونالد ترمب يتحدّث خلال فعالية شهر تاريخ السود في البيت الأبيض بالعاصمة الأميركية واشنطن (د.ب.أ) play-circle

ترمب عن وكالة «أسوشييتد برس»: «منظمة يسارية راديكالية»

اتهم الرئيس الأميركي دونالد ترمب وكالة «أسوشييتد برس» بأنها «منظمة يسارية راديكالية»، في أحدث انتقاداته حيالها على خلفية عدم التزامها بتغيير اسم «خليج المكسيك».

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق 
إحدى جلسات المنتدى السعودي للإعلام (المنتدى)

«المنتدى السعودي» يبحث دور الإعلام في تشكيل الهويات الثقافية

شهدت أعمال اليوم الثاني من «المنتدى السعودي للإعلام» في نسخته الرابعة بالرياض، أمس، جلسات نقاش وورش عمل أثرتها مشاركة إعلاميين وأكاديميين وخبراء ومتخصصين

عمر البدوي (الرياض)

العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف
TT

العصر العباسي الأول بين أثينا المعرفة وروما الرغبات

شوقي ضيف
شوقي ضيف

«ومن مفاسد الحضارة الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها لكثرة الترف، فيقع التفنن في شهوات البطن من المأكل والملاذ والمشارب وطيبها. والأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد. وإذا فسد الإنسان في قدرته، ثم في أخلاقه ودينه، فقد فسدت إنسانيته وصار مسخاً على الحقيقة».

لم أعثر على استهلال لهذه المقالة التي تتناول شؤون الحب والعشق في العصر العباسي أفضل مما كتبه ابن خلدون في مقدمة «كتاب العبر»، الذي رافق بالنقد والتحليل انتقال المجتمعات البشرية من طور إلى طور. ذلك أن أي قراءة معمقة لمآلات الحب وتعبيراته، لا يمكن أن تتجاهل الخلفية العقائدية والسياسية للسلطة الجديدة، إضافة إلى النسيج الفسيفسائي المعقد للمجتمع العباسي. ففي حين شكل العرب العمود الفقري للدولة الأموية، وطبعوها بطابعهم على المستويات كافة، بدت التركيبة السكانية للدولة العباسية خليطاً متنوعاً من الإثنيات والأعراق التي شملت، إضافة الى العرب، كلاً من الفرس والترك والروم وغيرهم. وإذ انخرطت هذه الإثنيات في نسيج الدولة الفتية، وصولاً إلى المشاركة الفاعلة في نظام الحكم، فإن كلاً منها قد أدخل معه عاداته وتقاليده، بحيث اختلط حابل المذاهب والمعتقدات بنابل الحياة اليومية. ومع الغلبة الواضحة للفرس في عقود الخلافة الأولى، كان لا بد للثقافة الفارسية أن تتغلغل في مفاصل ذلك المجتمع المترع بالتباينات، وأن تعمل على وسمه بطابعها الخاص، بما يتضمنه ذلك الطابع من عناصر وتقاليد محلية ما قبل إسلامية.

طه حسين

وإذا كان العصر العباسي الأول هو عصر التحولات الكبرى فهو في الوقت ذاته عصر المفارقات بامتياز، حيث تنافست على الأسبقية حركات التجديد والمحافظة، العقل والنقل، الفلسفة والفقه، كما تعايشت نزعات الزهد والتنسك مع نزعات التهتك والاستهتار. ولعل من الضرورة بمكان الإشارة إلى أن السلطة الحاكمة التي أحاطت نفسها برعيل حاشد من الشعراء والفلاسفة والفقهاء وعلماء الكلام والمترجمين، هي نفسها التي شرعت الأبواب واسعة أمام شتى صنوف اللهو والمجون واصطياد الملذات، كما لو أنها أرادت إرساء توازنٍ ما، بين روح الحضارة وجسدها، أو بين أثينا المعرفة وروما الرغبات.

ومع أن باحثين كثراً قد أسهبوا في تناول تلك الحقبة بالدراسة، فقد حرص طه حسين على رد ظاهرة العبث وطلب الملذات إلى عاملين اثنين، يتعلق أولهما بما تستدعيه الحضارة من مظاهر الترف والمجون، فيما يتعلق ثانيهما بدور العقل النقدي والفلسفي في زحزحة اليقين من مكانه، الأمر الذي دفع البعض إلى زرع بذور الشك في الثوابت، والحث على المجون والحياة اللاهية. وليس من الغريب تبعاً لحسين «أن يظهر في لهو هؤلاء وعبثهم، كل من مطيع بن إياس وحماد عجرد وابن المقفع ووالبة بن الحباب، إنما الغريب أن يخلو منهم ذلك العصر، ولا يظهر فيه سوى الفقهاء وأهل الزهد والنساك».

كما لا بد من ملاحظة أن التفاوت الاقتصادي والاجتماعي البالغ بين الحواضر الكبرى، ومناطق الأطراف الفقيرة، قد انعكس تفاوتاً مماثلاً في مراعاة سلّم القيم وقواعد السلوك وأحكام الدين. ففي حين تحولت عاصمة الخلافة، في ظل الرخاء والازدهار اللذين رافقا اتساع الدولة، إلى برج بابل جديد من الهويات والرطانة اللغوية وأشكال الفسق، كان ثمة في أحيائها الفقيرة، وفي الأطراف المتباعدة للإمبراطورية، من يتمسك بأهداب الفضائل والاعتدال السلوكي وأحكام الدين الحنيف. وإذا كان تصيد الملذات قد بات عنوان الحياة في بغداد في العصر العباسي الأول، فاللافت أن الخلفاء أنفسهم قد انخرطوا في هذه الورشة الباذخة، دامغين إياها بالأختام الرسمية، ومحولين قصور الخلافة إلى مرتع للشعر والمنادمة والغناء. وكان من الطبيعي تبعاً لذلك أن يحتفي المحظيون من الشعراء والمغنين بالحياة الجديدة أيما احتفاء، بعد أن وفرت لهم الإقامة في كنف البلاطات كل ما يحتاجونه من متع العيش وأطايبه وملذاته.

ومع اتساع رقعة الإمبراطورية المنتصرة، استطاعت مدينة المنصور أن تجتذب إلى حاناتها ودور لهوها أعداداً كبيرة من الجواري والقيان، سواء اللواتي جيء بهن كغنائم حرب، أو اللواتي اجتذبهن طوعاً ازدهار المدينة ورخاؤها المتسارع. وقد ازدهرت في تلك الحقبة تجارة الرقيق ودور النخاسة والقيان إلى الحد الذي جعل أبا دلامة يحث الشعراء الباحثين عن الربح على ترك الشعر والاشتغال بالنخاسة، كما يظهر في قوله:

إن كنتَ تبغي العيش حلواً صافياً

فالشعر أتركْهُ وكن نخّاسا

وهو عين ما فعله أبو سعيد الجزار في حقبة التدهور العباسي اللاحق، حين تأكد له أن الشعر، بخاصة الذي لا يمتهن التكسب في البلاطات، لا يطعم خبزاً ولا يغني من جوع، فاختار أن يهجره ويعمل في الجزارة لكي يتمكن من توفير لقمة العيش. وحين عُوتب على فعلته قال:

كيف لا أهجر الجزارة ما عشتُ

حياتي وأهجر الآدابا

وبها صارت الكلابُ ترجّيني

وبالشعر كنتُ أرجو الكلابا

على أن حرص الخلفاء والوزراء والنخب المحيطة بهم، على الإعلاء من شأن الأدب والفن، جعلهم يتطلبون من الجواري والقيان، مواهب ومواصفات لا تقتصر على شرطي الجمال والأنس، بل تتعداهما إلى الثقافة والاطلاع وحفظ الشعر، وصولاً الى نظمه. وهو ما حققته بشكل لافت كل من عريب جارية المأمون، ودنانير جارية البرامكة، وعنان جارية الناطفي، وأخريات غيرهن.

وحيث بدا الشعراء المشمولون برضا السلطة، وكأنهم قد أصابوا كل ما يتمنونه من الإشباع الجسدي، بات شعرهم تأريخاً شبه تفصيلي للحظات عيشهم وطيشهم وفتوحاتهم الغرامية، ولم يترك لهم الواقع المستجد، عدا استثناءات قليلة، ما يسوغ الحديث عن لوعة الحب أو مكابدات الفراق. وفي ظل هذا العالم الذي استقى منه مؤلفو «ألف ليلة وليلة» العديد من الليالي المضافة، لم يكن مستغرباً أن يفضل الشعراء والكتاب، القيان على الحرائر، ليس فقط بسبب جمالهن المغوي والمتحدر من مساقط مختلفة، بل لأن الجواري بخضوعهن الكامل لهم كن يشعرنهم بالخيلاء والاستحواذ الذكوري ومتعة التملك.

وإذا كان من التعسف بمكان وضع نزعات الفسق برمتها في سلة الشعوبية، فإن تجاهل هذا العامل والقفز عنه لن يكون إلا نوعاً من قصر النظر المقابل. ولا حاجة إلى تكرار المقطوعات والأبيات التي نظمها أبو نواس وغيره في ذم العرب والغض من شأنهم، بوصفهم نبتاً بدوياً غارقاً في التصحر، لا تمكن مقارنته بالمنجز الحضاري الفارسي. كما أننا لا نستطيع التغاضي عن الجذور الفارسية لنزعات الزندقة والمجون التي تجد تمثلاتها الأصلية في المجوسية والمانوية والمزدكية، حيث النيران التي لا تنطفئ لرغبات الجسد وملذات الوجود الأرضي. ولعلنا نجد في النقد العربي القديم والحديث، بدءاً من الجاحظ وأبي الفرج الأصفهاني وصولاً إلى شوقي ضيف، من يلقي المسؤولية الرئيسية عن «الهستيريا» الانحلالية التي اخترقت المجتمع العباسي في صميمه، على عاتق الفرس الراغبين في التقويض الكامل للحكم العربي. إلا أن من التعسف بمكان رؤية الأمور من الزاوية الشعوبية دون سواها من الزوايا. وإذا كان علينا الأخذ في الحسبان المصادر الفلسفية الأبيقورية لهذه الظاهرة، خصوصاً وأن العرب قد ذهبوا بعيداً في التفاعل مع الفلسفات اليونانية المختلفة التي وصلتهم عن طريق الترجمة، فينبغي أن نتذكر في الوقت ذاته أن المغنين والشعراء لم يكونوا بأجمعهم من الفرس. فمقابل بشار وأبي نواس وابن المقفع، كان في الجوقة عرب كثيرون، من أمثال زرياب ووالبة ومطيع بن إياس والحسين بن الضحاك وحماد عجرد ومسلم بن الوليد.

ومع ذلك فقد كان من السهل على الكتاب المتعصبين للعرب أن يضعوا هؤلاء جميعاً في خانة الشعوبية، أو يردوا بعضهم إلى أصول فارسية بناءً على الشكل وملامح الوجه. ففي ذروة التهاجي المتبادل بين أبي العتاهية ووالبة بن الحباب، لم يجد الأول ما يهجو به الثاني سوى أنه في شقرته البادية وسحنته البيضاء، أشبه بالموالي المدسوسين على العرب، فيسأل متعجباً:

أترون أهل البدو قد مُسخوا

شقراً، أما هذا من المنكر؟