تطور الإعلام المصري يصطدم بـ {تحديات كبرى»

خبراء يطالبون بوضع خطة استراتيجية و«تفعيل بحوث المشاهدة»

د. حسن عماد مكاوي
د. حسن عماد مكاوي
TT

تطور الإعلام المصري يصطدم بـ {تحديات كبرى»

د. حسن عماد مكاوي
د. حسن عماد مكاوي

في ظل التطورات التكنولوجية المتلاحقة، والأزمات الاقتصادية التي تحيط بالصناعة، والتي تتزامن جنباً إلى جنب مع منافسة «شرسة» من مواقع التواصل الاجتماعي، بات الحديث عن تطوير الإعلام المصري أمراً وجوبياً. وحقاً، لا يكاد يمر يوم من دون أن يتحدث أكاديمي أو إعلامي، أو حتى سياسي، في هذه «الأزمة»؛ أملاً في استعادة ما تسمى «الريادة الإعلامية» في منطقة الشرق الأوسط. وفي حين يؤكد خبراء الإعلام على «قوة» الإعلام المصري، وتاريخه العريق الذي جعله قادراً على «تشكيل وقيادة الرأي العام العربي في فترات سابقة»، فإنهم أشاروا إلى تحديات كبرى تواجه أي محاولات للتطوير.
ملف تطوير الإعلام المصري يحظى راهناً باهتمام على أعلى المستويات، وفي أبريل (نيسان) الماضي أشار الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس الوزراء المصري، خلال لقائه الكاتب الصحافي كرم جبر، رئيس «المجلس الأعلى لتنظيم ‏الإعلام» (الهيئة المسؤولة عن تنظيم الإعلام بموجب الدستور) إلى «تعاظم دور الإعلام في عالمنا المعاصر يوماً بعد يوم، لا سيما مع التطور ‏التكنولوجي الهائل والمتسارع الذي نشهده حالياً على مستوى العالم»، واصفاً إياه بأنه «قوة لا يستهان بها في تنوير المجتمع، وحشد الجهود من ‏أجل الدفاع عن الوطن ضد التهديدات، والحفاظ على مقدرات الوطن».
وأكد «احترام الدولة المصرية الدائم لحرية الرأي والتعبير وتعدد الآراء، بما يخدم ‏مصلحة الوطن وصالح المواطنين».

التحدي التكنولوجي

الدكتورة حنان يوسف، عميدة كلية اللغة والإعلام في الأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري، تضع التكنولوجيا على رأس التحديات التي تواجه تطوير الإعلام في مصر، والمنطقة العربية. وتقول في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إن «الإعلام المصري يواجه مجموعة من التحديات التي يشترك فيها مع المنظومة العربية عموماً، على رأسها التحدي التكنولوجي والتطور السريع، وهو تحدٍّ مخيف يتطلب مواكبة هذه التغيرات المتلاحقة بسرعة كبيرة».
وأضافت أنه «يترافق مع الغزو التكنولوجي تحدٍّ آخر هو التحدي المجتمعي والقيمي؛ حيث يواجه المجتمع ضربات متلاحقة لقيمه، يزيد من تأثيرها ارتفاع نسب الأمية، والتفاوت الديمغرافي في السن، والزيادة السكانية الضخمة». أما الدكتور حسن عماد مكاوي، العميد الأسبق لكلية الإعلام في جامعة القاهرة، فيرى أن «الإعلام المصري يعيش أصعب فتراته خلال السنوات الأخيرة، من حيث سيطرة القالب الواحد، من دون تنوع يعكس وجهات النظر المختلفة في المجتمع، فضلاً عن عزوف الجمهور عن الإعلام المصري، وسعيه لمنصات وقنوات بديلة، تقدم معلومات مغرضة وغير دقيقة عن البلاد».
للعلم، بينما يوجه البعض انتقادات إلى الإعلام المصري لافتقاره للتنوع، أكد رئيس الوزراء المصري في تصريحات تلفزيونية بداية العام الجاري أن «الإعلام المصري متنوع، ويقوم يومياً بانتقاد عدد من القضايا». وأشار إلى «وجود منصات موجهة ضد الدولة المصرية، وهو ما نعمل على موازنته عبر منصات أخرى تشرح الخطط الحكومية». وفي هذه الأثناء، يشغل حال الإعلام الحكومة المصرية، وأيضاً الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي وجَّه عدة رسائل للإعلام على مدار السنوات الماضية، من بينها دعوته للإعلاميين، خلال يونيو (حزيران) الماضي، في أثناء افتتاح عدد من المشروعات، لتغطية «الحقيقة»؛ إذ قال: «لا أريد منكم أن تتحدثوا بشكل إيجابي... بل أطالبكم بتوضيح الحقيقة للمصريين». ولقد سبق أن أشار الرئيس السيسي إلى قوة تأثير الإعلام المصري في عقد الستينات، إذ قال في تصريحات على هامش مؤتمر الشباب عام 2019، إن «عدم التطوير لسنوات طويلة، جعل التأثير يتراجع... إلا أن الدولة المصرية وضعت خطة للتطوير».


د. سامي عبد العزيز - د. حنان يوسف

الاحتراف والمهنية

من جهته، يلخص الدكتور سامي عبد العزيز، العميد الأسبق لكلية الإعلام في جامعة القاهرة، التحديات التي تواجه الإعلام المصري في كلمتين، هما «الاحتراف» و«المهنية». وهو يقول لـ«الشرق الأوسط»، إن «التدريب والتأهيل عنصر مهم لتحقيق الطفرة المطلوبة في الإعلام»، مشدداً على أن أي محاولات للتطوير «لا بد من أن تنطلق من واقع بحوث تتحدث عما يحتاجه الرأي العام، مع إنشاء مركز تدريب عالمي يخرج كوادر جديدة».
وفي هذا السياق ترصد الدكتورة حنان يوسف تحدياً آخر يواجه الإعلام المصري، ألا وهو «الفجوة بين الواقع والمأمول، بين ما يجري تدريسه في الجامعات وبين الممارسة المهنية على الأرض التي تشهد تجاوزات لأخلاقيات الإعلام والقواعد المهنية»، على حد قولها. وتتابع متطرقة إلى «الخلل» في شكل البرامج التلفزيونية التي أصبحت «نموذجاً مكرراً، وقالباً واحداً، يتكلّم فيه المذيع لمدة ساعتين للجمهور». ثم تستطرد بأن التحديين المهني والتكنولوجي يرتبطان بتحدٍّ اقتصادي «نابع من الأضرار التي تتعرض لها الصحافة الورقية جراء المنافسة مع المنصات الرقمية».
وكان كرم جبر قد قال أخيراً في تصريحات له، إن المشهد الإعلامي في مصر يحتاج إلى «خطوات أخرى»، وإنه «على الرغم من الجهود المبذولة لتنظيم الإعلام على مدار السنوات الأربع الماضية، بالتنسيق ‏والتعاون مع الهيئتين الوطنيتين للصحافة والإعلام لتحسين بيئة الإعلام وضبط المشهد، فلا يزال الطريق طويلاً، وهناك يقين ‏بضرورة استكمال بقية خطـوات ضبط المشهد الإعلامي». ‎

قناة إقليمية

على صعيد آخر، يراود حلم إنشاء قناة إخبارية دولية وإقليمية المصريين منذ سنوات. وفي يوليو (تموز) الماضي، أعلنت الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية التي تمتلك عدداً من القنوات التلفزيونية والصحف والمواقع الإلكترونية في مصر، عن تدشين «قطاع أخبار المتحدة» بوصفه «أكبر القطاعات الإخبارية في الشرق الأوسط». وذكرت أنه سيضم قناة أخبار دولية وقناة أخبار إقليمية، فضلاً عن تطوير قناة «إكسترا نيوز»، وإطلاق قناة «إكسترا الحدث». وحول هذه النقطة قال الدكتور سامي عبد العزيز، إن «الكل في انتظار القناة الإخبارية المصرية، فبمتابعة سريعة للقنوات الدولية الصادرة بالعربية، سنجد أن معظم محتواها عن مصر، باعتبارها دولة كبيرة تاريخياً».
أما الدكتورة حنان يوسف فترى أن لدى الإعلام المصري تجربة رائدة على مستوى الإعلام الدولي، من خلال مجموعة «نايل تي في» التي تضم قنوات باللغات الإنجليزية والفرنسية، وقناة إخبارية. ثم تقول إن «مصر كانت لها ريادة إعلامية؛ لكن في ظل المنافسة الشرسة اختلف الوضع... وهذا تحدٍّ جديد يتطلب جهوداً تسويقية وإمكانات مهنية ومادية كبيرة». وتردف بأن «حلم إنشاء قناة إقليمية إخبارية مصرية ما زال قائماً، بيد أنه يتطلب استراتيجية واضحة، وإمكانات بشرية ومادية». ومن ثم تقول إن «الريادة الإعلامية المصرية ما زالت موجودة، فهي أول دولة في المنطقة تنشئ مدينة للإنتاج الإعلامي، وتطلق قمراً صناعياً، كما أن الذاكرة السينمائية العربية تزخر بالأفلام المصرية». وتوضح: «التاريخ موجود وموثق؛ ولكن المنافسة شرسة، تحتاج إلى إعادة نظر للحالة العربية، وإلى خطاب إعلامي مصري خارجي متوازن، من حيث نوعية القضايا التي يتناولها وقوالب التقديم المختلفة».

ريادة الستينات

الدكتور حسن مكاوي، من جانبه، يثمِّن «تأثير الإعلام المصري في الستينات من القرن الماضي؛ لأنه كان يقدم رسالة واضحة لاقت تجاوباً من شعوب بعض الدول... ومع أنه كان إعلام الصوت الواحد حينذاك، فإن غياب المنافسة في تلك الفترة منحه القوة والتأثير محلياً وعربياً». ويضيف موضحاً: «الوضع الآن مختلف وتنافسي بشكل كبير، الأمر الذي يستدعي توفر إمكانيات عالية مادية، إضافة إلى التدريب والتأهيل للإعلاميين». وفي حين يرى الدكتور عبد العزيز أنه «لا يمكن مقارنة الوضع في الماضي بالوضع الحالي، بسبب اختلاف طبيعة الساحة الإعلامية وغياب القدر الكبير من المنافسة»، يعتبر الإعلامي حسن حامد، رئيس اتحاد الإذاعة والتلفزيون الأسبق، أن «تفوق» الإعلام المصري في الستينات تحقق لكونه يومذاك «إعلاماً تنموياً موجهاً لجماهير الشعب، ولم تكن هناك أصوات متداخلة معه».

استراتيجية إعلامية

ختاماً، يشدد الدكتور مكاوي على «ضرورة وجود استراتيجية واضحة للإعلام المصري تحافظ على أمنه القومي في الداخل والخارج، مع ضرورة إصدار قانون حرية تداول المعلومات الذي نص عليه دستور عام 2014». في حين ترى الدكتورة حنان يوسف أن «عدم وجود استراتيجية يتبناها الإعلام يعد واحداً من التحديات الرئيسة»، مطالبة «الجماعة الإعلامية، بالعمل على وضع استراتيجية إعلامية واضحة تقود المؤسسات الإعلامية في الفترة المقبلة، باعتبار الإعلام أحد أدوات الأمن القومي المصري».
وبالفعل، تعكف مصر على وضع استراتيجية للإعلام، وسبق عرض ملامح «الاستراتيجية الإعلامية لعام 2022»، على رئيس مجلس الوزراء المصري. ووفق البيانات الرسمية، فإن «هذه الاستراتيجية تنطلق من ‏الدور الذي يلعبـه الإعلام كقوة ناعمة فـي إحداث التغيرات المطلوبة في مجال رفع الوعي والإدراك لدى المواطنين».


مقالات ذات صلة

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

يوميات الشرق الفيلم يتناول مخاطرة صحافيين بحياتهم لتغطية «سياسات المخدّرات» في المكسيك (الشرق الأوسط)

«حالة من الصمت» يحصد «جائزة الشرق الوثائقية»

فاز الفيلم الوثائقي «حالة من الصمت» للمخرج سانتياغو مازا بالنسخة الثانية من جائزة «الشرق الوثائقية».

«الشرق الأوسط» (جدة)
رياضة عربية المهندس خالد عبد العزيز رئيس المجلس الأعلى للإعلام في مصر (صفحة المجلس على «فيسبوك»)

مصر: قرارات جديدة لمواجهة «فوضى الإعلام الرياضي»

أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر، برئاسة المهندس خالد عبد العزيز مجموعة قرارات، اعتماداً لتوصيات لجنة ضبط أداء الإعلام الرياضي.

محمد الكفراوي (القاهرة)
أوروبا مراسلات يتحدثن أمام الكاميرات خلال تغطية صحافية في البرازيل (رويترز)

ثلثهم على أيدي الجيش الإسرائيلي... مقتل 54 صحافياً في عام 2024

قُتل 54 صحافياً حول العالم أثناء قيامهم بعملهم أو بسبب مهنتهم في عام 2024، ثلثهم على أيدي القوات الإسرائيلية، وفق ما أظهر تقرير سنوي.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق الصحافي سامح اللبودي والزميلة بيسان الشيخ من «الشرق الأوسط»

«الشرق الأوسط» تفوز ببرونزية «أريج» للصحافة الاستقصائية

فازت «الشرق الأوسط» بالجائزة البرونزية للصحافة الاستقصائية العربية التي تمنحها مؤسسة «أريج»، عن تحقيق: قصة الإبحار الأخير لـ«مركب ملح» سيئ السمعة.

«الشرق الأوسط» (لندن)
يوميات الشرق صورة تذكارية لعدد من أعضاء مجلس الإدارة (الشركة المتحدة)

​مصر: هيكلة جديدة لـ«المتحدة للخدمات الإعلامية»

تسود حالة من الترقب في الأوساط الإعلامية بمصر بعد إعلان «الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية» إعادة تشكيل مجلس إدارتها بالتزامن مع قرارات دمج جديدة للكيان.

«الشرق الأوسط» (القاهرة )

كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
TT

كاتدرائية «نوتردام» في باريس تعود إلى العالم في احتفالية استثنائية

صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)
صورة داخل كاتدرائية «نوتردام دو باري» بعد إنجاز ترميمها (إ.ب.أ)

قبل 861 عاماً، نهضت كاتدرائية «نوتردام دو باريس» في قلب العاصمة الفرنسية. ومع مرور العقود والعصور تحوّلت إلى رمز لباريس، لا بل لفرنسا. ورغم الثورات والحروب بقيت «نوتردام» صامدة حيث هي، في قلب باريس وحارسة نهر السين الذي يغسل قدميها. إلا أن المأساة حلّت في شهر أبريل (نيسان) من عام 2019، عندما اندلع حريق هائل، التهمت نيرانه أقساماً رئيسة من الكاتدرائية التي انهار سقفها وتهاوى «سهمها»، وكان سقوطه مدوياً.

منظر للنافذة الوردية الجنوبية لكاتدرائية نوتردام دو باريس(رويترز)

حريق «نوتردام» كارثة وطنية

وكارثة «نوتردام» تحوّلت إلى مأساة وطنية، إذ كان يكفي النظر إلى آلاف الباريسيين والفرنسيين والسياح الذين تسمّروا على ضفتي نهر السين ليشهدوا المأساة الجارية أمام عيونهم. لكن اللافت كانت السرعة التي قررت فيها السلطات المدنية والكنسية مباشرة عملية الترميم، وسريعاً جدّاً، أطلقت حملة تبرعات.

وفي كلمة متلفزة له، سعى الرئيس إيمانويل ماكرون إلى شد أزر مواطنيه، مؤكداً أن إعادة بناء الكاتدرائية و«إرجاعها أجمل مما كانت» ستبدأ من غير تأخير. وأعلن تأسيس هيئة تشرف عليها، وأوكل المهمة إلى الجنرال جان لويس جورجولين، رئيس أركان القوات المسلحة السابق. وبدأت التبرعات بالوصول.

وإذا احتاجت الكاتدرائية لقرنين لاكتمال بنائها، فإن ترميمها جرى خلال 5 سنوات، الأمر الذي يعد إنجازاً استثنائياً لأنه تحول إلى قضية وطنية، لا بل عالمية بالنظر للتعبئة الشعبية الفرنسية والتعاطف الدولي، بحيث تحوّلت الكاتدرائية إلى رابطة تجمع الشعوب.

وتبين الأرقام التي نشرت حديثاً أن التبرعات تدفقت من 340 ألف شخص، من 150 دولة، قدّموا 846 مليون يورو، إلا أن القسم الأكبر منها جاء من كبار الممولين والشركات الفرنسية، ومن بينهم من أسهم بـ200 مليون يورو. ومن بين الأجانب المتبرعين، هناك 50 ألف أميركي، وهو الأمر الذي أشار إليه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وكان أحد الأسباب التي دفعته للمجيء إلى فرنسا؛ البلد الأول الذي يزوره بعد إعادة انتخابه في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

متطوعون يضعون برنامج الحفل على المقاعد قبل الحفل (أ.ف.ب)

منذ ما يزيد على الشهر، تحوّلت الكاتدرائية إلى موضوع إلزامي في كل الوسائل الإعلامية. وخلال الأسبوع الحالي، حفلت الصحف والمجلات وقنوات التلفزة والإذاعات ببرامج خاصة تروي تاريخ الكاتدرائية والأحداث الرئيسة التي عاشتها في تاريخها الطويل.

وللدلالة على الأهمية التي احتلتها في الوعي الفرنسي، فإن رئيس الجمهورية زارها 7 مرات للاطلاع على التقدم الذي حققه المهنيون والحرفيون في إعادة البناء والترميم. وإذا كانت الكاتدرائية تجتذب قبل 2012 ما لا يقل عن 12 مليون زائر كل عام، فإن توقعات المشرفين عليها تشير إلى أن العدد سيصل العام المقبل إلى 15 مليوناً من كل أنحاء العالم.

المواطنون والسياح ينتظرون إفساح المجال للوصول الى ساحة الكاتدرائية (أ.ف.ب)

باريس «عاصمة العالم»

خلال هذين اليومين، تحوّلت باريس إلى «عاصمة العالم»، ليس فقط لأن قصر الإليزيه وجّه دعوات لعشرات من الملوك ورؤساء الدول والحكومات الذين حضر منهم نحو الخمسين، ولكن أيضاً لأن الاحتفالية حظيت بنقل مباشر إلى مئات الملايين عبر العالم.

وقادة الدول الذين قدّموا إلى «عاصمة النور» جاءوا إليها من القارات الخمس. وبسبب هذا الجمع الدولي، فإن شرطة العاصمة ووزارة الداخلية عمدتا إلى تشكيل طوق أمني محكم لتجنب أي إخلال بالأمن، خصوصاً أن سلطاتها دأبت على التحذير من أعمال قد تكون ذات طابع إرهابي. وإذا كان الرئيس الأميركي المنتخب قد حظي بالاهتمام الأكبر، ليس لأنه من المؤمنين المواظبين، بل لأنه يُمثل بلداً له تأثيره على مجريات العالم.

لكن في المقابل، تأسف الفرنسيون لأن البابا فرنسيس اعتذر عن تلبية الدعوة. والمثير للدهشة أنه سيقوم بزيارة جزيرة كورسيكا المتوسطية الواقعة على بُعد رمية حجر من شاطئ مدينة نيس اللازوردية، في 15 الشهر الحالي. والمدهش أيضاً أنه منذ أن أصبح خليفة القديس بطرس في روما، «المدينة الخالدة»، فإنه زار فرنسا مرتين، ثانيها كانت لمدينة مرسيليا الساحلية. بيد أنه لم يأتِ إلى باريس إطلاقاً. ووفق مصادر واسعة الاطلاع، فإن قرار البابا أحدث خيبة على المستويين الديني والرسمي. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى حدث تاريخي رئيس، وهو أن بابا روما بيوس السابع، قدم إلى باريس يوم 2 ديسمبر (كانون الأول) من عام 1804، لتتويج نابليون الأول إمبراطوراً.

وتمثل لوحة الرسام الفرنسي الشهير لوي دافيد، التي خلد فيها تتويج بونابرت، ما قام به الأخير الذي لم ينتظر أن يضع البابا التاج على رأسه، بل أخذه بيديه ووضعه بنفسه على رأسه، وكذلك فعل مع الإمبراطورة جوزفين.

احتفالية استثنائية

لم يساعد الطقس مساعدي الاحتفالية الذين خططوا لأن تكون من جزأين: الأول رسمي، ويجري في ساحة الكاتدرائية الأمامية؛ حيث يلقي الرئيس ماكرون خطابه المقدر من 15 دقيقة، وبعدها الانتقال إلى الداخل للجزء الديني. وكان مقدراً للمواطنين الـ40 ألفاً، إضافة إلى 1500 مدعو حظوا بالوجود داخل الكاتدرائية، أن يتابعوا الحدث من المنصات التي نصبت على ضفتي نهر السين، إلا أن الأمطار والعواصف التي ضربت باريس ومنطقتها أطاحت بالبرنامج الرئيس، إذ حصلت كل الاحتفالية بالداخل. بيد أن الأمطار لم تقض على شعور استثنائي بالوحدة والسلام غلب على الحاضرين، وسط عالم ينزف جراء تواصل الحروب، سواء أكان في الشرق الأوسط أم في أوكرانيا أم في مطارح أخرى من العالم المعذب. وجاءت لحظة الولوج إلى الكاتدرائية، بوصفها إحدى المحطات الفارقة، إذ تمت وفق بروتوكول يعود إلى مئات السنين. بدءاً من إعادة فتح أولريش لأبواب «نوتردام» الخشبية الكبيرة بشكل رمزي.

كاتدرائية «نوتردام» السبت وسط حراسة أمنية استعداداً لإعادة افتتاحها (إ.ب.ى)

وسيقوم بالنقر عليها 3 مرات بعصا مصنوعة من الخشب المتفحم الذي جرى إنقاذه من سقف الكاتدرائية الذي دمرته النيران، وسيعلن فتح الكاتدرائية للعبادة مرة أخرى. ونقل عن المسؤول عن الكاتدرائية القس أوليفييه ريبادو دوما أن «نوتردام»، التي هي ملك الدولة الفرنسية، ولكن تديرها الكنيسة الكاثوليكية «أكثر من مجرد نصب تذكاري فرنسي وكنز محبوب من التراث الثقافي العالم، لا بل هي أيضاً علامة على الأمل، لأن ما كان يبدو مستحيلاً أصبح ممكناً»، مضيفاً أنها أيضاً «رمز رائع».

الأرغن الضخم يحتوي على 8 آلاف مزمار تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام (أ.ف.ب)

كذلك، فإن تشغيل الأرغن الضخم الذي تم تنظيفه وتحضيره للمناسبة الاستثنائية، تم كذلك وفق آلية دقيقة. ففي حين ترتفع المزامير والصلوات والترانيم، فإنه جرى إحياء الأرغن المدوي، الذي صمت وتدهورت أوضاعه بسبب الحريق. ويحتوي الأرغن على 8 آلاف مزمار، تم ترميمها وتنظيفها من غبار الرصاص السام. وقام 4 من العازفين بتقديم مجموعة من الألحان بعضها جاء مرتجلاً.

إلى جانب الشقين الرسمي والديني، حرص المنظمون على وجود شق يعكس الفرح؛ إذ أدت مجموعة من الفنانين الفرنسيين والأجانب لوحات جميلة جديرة بالمكان الذي برز بحلة جديدة بأحجاره المتأرجحة بين الأبيض والأشقر وزجاجه الملون، وإرثه الذي تم إنقاذه من النيران وأعيد إحياؤه.

وبعد عدة أيام، سيُعاد فتح الكاتدرائية أمام الزوار الذي سيتدفقوة بالآلاف على هذا المعلم الاستثنائي.

حقائق

846 مليون يورو

تدفقت التبرعات من 340 ألف شخص من 150 دولة قدموا 846 مليون يورو لإعادة ترميم نوتردام