في هذا العصر الرقمي... مَن يربّي أبناءنا؟

هل تساهم الأجهزة اللوحية في تنشئة الأطفال؟ (أ.ف.ب)
هل تساهم الأجهزة اللوحية في تنشئة الأطفال؟ (أ.ف.ب)
TT

في هذا العصر الرقمي... مَن يربّي أبناءنا؟

هل تساهم الأجهزة اللوحية في تنشئة الأطفال؟ (أ.ف.ب)
هل تساهم الأجهزة اللوحية في تنشئة الأطفال؟ (أ.ف.ب)

يجلب العالم الحديث كثيراً من التحديات إلى مهمة تربية الأطفال في الأسرة، التي تُعد أصعب وظيفة على الإطلاق. من السهل إعطاء الأطفال أجهزة «آيباد» ليلعبوا بعيداً ويبقوا صامتين. وفي هذا العصر، يمكن للأطفال في كل مكان تقريباً الوصول إلى الإنترنت - في أغلب الأحيان عبر الهاتف الجوال. في العديد من الأماكن أيضاً، يشعر الأهل بالتحديات التي تواجه كفاءتهم ودورهم وسلطتهم في التربية.
لقد فتح عصرنا الرقمي الجديد عالماً لا يُصدق من الفرص، خاصة للأجيال القادمة التي تتمتع بأسرع وتيرة للتقدم التكنولوجي في التاريخ، ولكن بالنسبة للأهل، لا تزال هناك بعض التحديات الجادة والحقيقية للغاية. لم تكن الأبوّة والأمومة سهلة في أي وقت من الأوقات، لكن التربية في العالم الرقمي أثبتت أنها من بين أعظم التحديات التي واجهها الأهل على الإطلاق.
في العصر الحديث، أصبح الأطفال يمتلكون الأجهزة الرقمية بشكل واسع. وفقاً لبيانات من مركز «بيو للأبحاث»، يمتلك ما يقرب من 1 من كل 5 أطفال دون سن 12 عاماً في الولايات المتحدة هاتفاً ذكياً خاصاً بهم، وقد حصل أكثر من نصفهم على هواتفهم بين الأعمار 9 و11 سنة. على الرغم من أن هؤلاء الأطفال لا يشكلون الأغلبية، فإن هذا الواقع يمثل تغييراً كبيراً عما كان عليه الأمر حتى منذ عقد مضى فقط، كما أنه يمثل بعض التحديات الجادة للأهل.
باختصار، يتعرض الأطفال للمعلومات أكثر من أي وقت مضى بفضل أجهزتهم، ويتطلعون بشكل متزايد إلى أجهزتهم لتوفير جميع احتياجاتهم الاجتماعية والعاطفية والترفيهية، الأمر الذي يؤدي في حد ذاته إلى عواقب عديدة، منها ما هو إيجابي، ومنها ما هو سلبي.
من بين التحديات التي يواجهها الأهل في العصر الرقمي، هو الوقت الطويل الذي يقضيه الأطفال في استخدام الأجهزة الإلكترونية. وتبين الدراسات أن متوسط «وقت الشاشة» - وهو الوقت الذي يقضيه الأطفال في استخدام الأجهزة الإلكترونية - للمراهقين كان نحو 8 ساعات في اليوم قبل جائحة «كورونا». ويمكننا أن نتخيل ما فعلته الجائحة وحالات الإغلاق بهذا المتوسط! لكن هذا يعني أنه حتى في الظروف العادية، يقضي الأطفال ما يقرب من ثلث يوم كامل وهم ملتصقون بشاشاتهم. عندما نضع في الاعتبار الحاجة المطلوبة إلى النوم 8 ساعات في اليوم، وما لا يقل عن 6 - 7 ساعات في المدرسة، فهذا يعني أنه لم يتبق أي وقت تقريباً لأي شيء آخر؛ لذلك يواجه الأهل تحدياً خطيراً في جعل أطفالهم أكثر نشاطاً لممارسة التمارين في الهواء الطلق، أو العمل على شيء أكثر إبداعاً وإنتاجية.
التحدي الآخر الذي يواجهه الأهل هو الإدمان على استخدام الأجهزة الإلكترونية. كان الأهل في السابق قلقين باستمرار من أن أطفالهم قد يقعون فريسة لبعض الإدمان الرهيب على أمور مثل المخدرات أو الكحول. أما الآن، فإن هناك نوعاً آخر من الإدمان ينتظرهم، وهو إدمان الأجهزة الإلكترونية. في البدايات، كان الأهل يعتقدون أنه من الأفضل لأطفالهم أن يكونوا على الشاشات بدلاً من مواجهة المشكلات في الشوارع. ومع أن هذا قد يكون صحيحاً من ناحية، إلا أن الأطفال يتعرضون لجميع أنواع الأضرار النفسية والتهديدات على الإنترنت.
حتى قبل جائحة «كورونا»، كانت التقنيات الرقمية قد دخلت بعمق في حياة الأطفال، على الرغم من مجموعة متزايدة من الأبحاث التي توضح بالتفصيل أضرار الانغماس المفرط في عالم صناعة «تكنولوجيا الأطفال» غير المنظم، والمغري بقوة، والمدفوع بالربح. في كتاب «مَن يربّي الأطفال؟» («نيو برس»، 2022)، تستكشف الكاتبة سوزان لين، وهي خبيرة في اللعب الإبداعي وتأثير وسائل الإعلام والتسويق التجاري على الأطفال، جذور وعواقب هذا التحول الهائل نحو طفولة رقمية تجارية، مع التركيز على قيم الأطفال وعلاقاتهم وتعلمهم. منذ الولادة، أصبح الأطفال مصدراً مربحاً لمجموعة من شركات التكنولوجيا والإعلام والألعاب. تشير الكاتبة إلى أن كثيراً من نخب «وادي السيليكون» لا يسمحون بتعريض أطفالهم للتقنيات ذاتها التي يطلقونها لأطفال الآخرين.
وتبين الكاتبة كيف تتظاهر شركات التكنولوجيا، مثل «يوتيوب» و«تيك توك» و«سناب شات»، بأنها تقدم الرعاية، وتزرع المودة لدى الأطفال، وتساعدهم على التغلب على نقاط ضعفهم، في حين تنظر هذه الشركات في الواقع إلى الأطفال على أنهم مصادر ربح، وتشجع الأطفال على قضاء أوقاتهم على الشاشة بدلاً من تقوية الروابط الأسرية. وتؤكد الكاتبة أن هذه الشركات لا تهتم بالأطفال خلال أهم أوقات النمو في حياتهم بقدر اهتمامها بأرباح الإعلانات. والكاتبة ليست معادية للتكنولوجيا، بل تمتدح قدرتها على التواصل وتوفير تجارب جديدة. الكاتبة ببساطة تعارض الإعلان للأطفال، وهدفها هو حماية هذه الفئة الضعيفة من الاستغلال من قبل الشركات الإعلانية.
وتظهر دراسة أجرتها شركة «ميتا» («فيسبوك» سابقاً)، أن تطبيق «إنستغرام» قد يتسبب في تدني احترام الذات لدى الفتيات، والأفكار الانتحارية لدى المراهقين في أميركا والمملكة المتحدة. كان الاكتئاب عند الأطفال أمراً غير معتاد، لكنه أصبح الآن شائعاً. وتقول سوزان لين إن على الأهل تقرير ما إذا كانوا سيتخلون عن مسؤولية التربية والتنمية البشرية لمجموعة من التقنيين الأغنياء الذين لا يكترثون كثيراً بالتداعيات الأخلاقية لمنتجاتهم.
وفي نهاية المطاف، علينا أن نعترف بأهمية التكنولوجيا ودورها في نشر المعرفة والتقدم، ومن ثم لا يمكن للمجتمع المعاصر أن يحلم بالاستغناء عنها. عِوضاً عن ذلك، علينا أن نستفيد من الجوانب الإيجابية التي توفرها التكنولوجيا لأطفالنا في حال استخدامها بشكل جيد. وفيما يلي بعض هذه الجوانب الإيجابية:
الفائدة الأولى هي زيادة مستوى ذكاء الطفل. أجرت جامعة كورنيل الأميركية بحثاً علمياً في تسع مدارس لمجموعات من أعراق ومجموعات اجتماعية مختلفة. وفقاً لهذه الدراسة التي أجريت على ما يقرب من 9000 طالب، فإن مستوى الذكاء للجيل الحالي أعلى من الجيل السابق. يربط الخبراء هذا التأثير مباشرة بالتكنولوجيا. إن الزيادة في عدد المنتجات التكنولوجية في حياة الأطفال، ومن ثم زيادة المحفزات، بمثابة تمارين لتمكين الأطفال من حل مشكلات أكثر تعقيداً.
كما تساعد التكنولوجيا على تنمية المهارات العقلية بالمحتويات التعليمية. يمكن أن تكون الآثار الإيجابية للإنترنت على التعليم في مرحلة الطفولة المبكرة مفيدة للغاية. تُعد الممارسات التعليمية، مثل الألعاب والتطبيقات التي تعمل على تحسين المهارات المعرفية، من بين هذه الفوائد. ألعاب الذاكرة للأطفال الذين يرغبون في تحسين ذاكرتهم، وألعاب الانتباه للأطفال الذين يرغبون في تحسين انتباههم، وألعاب الرياضيات للأطفال الذين يرغبون في تحسين مهاراتهم الرياضية، وأكثر من ذلك بكثير، في متناول الأطفال اليوم؛ لذلك يمكن أن يكون استخدام الإنترنت الآمن للأطفال مفيداً مع التطبيقات المناسبة، مما يسمح لهم بلعب ألعاب العقل بدلاً من ألعاب سباقات السيارات.
كما يمكن أن تساعد التكنولوجيا على تطوير مهارات حل المشكلات. ينجح الأطفال المبدعون في التكيف مع العالم المتغير. وبالمثل، فهم ينجحون عادة في إيجاد حلول جديدة لمشكلات جديدة. سيسمح تعزيز مهارات حل المشكلات في مرحلة الطفولة بالتغلب على العقبات بشكل أسهل في المستقبل.
كما يمكن أن تلعب التكنولوجيا في بعض الأحيان دور المنقذ للطفل ومن يحيطون به. يجب أن يتمكن أطفالك من الوصول إليك في حالة الطوارئ، حتى لو لم يكونوا كباراً بما يكفي لاستخدام الهاتف الجوال. يتم إنتاج أجهزة محمولة بسيطة، مثل الساعات الذكية، لتلبية هذه الحاجة بطريقة صحية. في المدارس، يتم تعليم الأطفال الأرقام التي يجب عليهم الاتصال بها في حالات الطوارئ. يمكنك إضافة أرقام سيارات الإسعاف وخدمات الإطفاء إلى قائمة جهات الاتصال الخاصة بهم.
كذلك توفر التكنولوجيا للطفل إمكانية الوصول السهل إلى المعلومات. يشعر جميع الأطفال بالفضول في سن مبكرة، ويريدون دائماً التعرف على العالم الخارجي، ويمكن لشبكة «الويب» العالمية أن تساعدهم على فهم ما يريدون تعلمه.
وحيث إن تعلم لغة أجنبية أصبح من متطلبات التعلم الأساسية في هذا العصر، فإن الإنترنت توفر مساعدة قيمة في هذا المجال. يمكن للأطفال تعلم لغة أجنبية في وقت قصير باستخدام أدوات الإنترنت، والألعاب الممتعة والتدريبات، دون الشعور بالملل. يمكن للأهل تزويد أطفالهم بالمصادر الصحيحة وتطوير مهاراتهم اللغوية.
من ناحية ثانية، تساعد التكنولوجيا الرقمية الأطفال على تطوير التفكير النقدي. بفضل الألعاب التفاعلية والتمارين الذهنية عبر الإنترنت، يبدأ الأطفال في تطوير مهارات التفكير النقدي في وقت مبكر. تساعد هذه الألعاب والتمارين التعليمية الأطفال على النمو فكرياً، من خلال تعزيز مهارات التفكير الاستراتيجي لديهم.
وفوق هذا كله، توفر التكنولوجيا عالماً ترفيهياً رائعاً للأطفال والكبار على حد سواء. يمكن للأطفال الاستفادة من ألعاب الفيديو الممتعة، والألغاز والأحاجي، وغيرها من الأشياء، لقضاء أوقات فراغهم، ولكن بشرط أن تكون هناك رقابة وثيقة من الأهل في هذا المجال.
وهكذا يمكن القول إن التكنولوجيا، رغم آثارها السلبية المحتملة التي لا يمكن إنكارها، والتي لم يتم ذكرها بشكل مفصل في هذا المقال؛ يمكن أن تكون عاملاً مساعداً ممتازاً في تربية الأطفال وتطوير قدراتهم إذا استخدموها بشكل جيد، تحت رقابة الأهل في البيت، والمختصين في المؤسسات التعليمية.
* باحث ومترجم سوري



ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
TT

ثماني محطات إيرانية بعد «طوفان الأقصى»

خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)
خامنئي يؤم صلاة الجنازة على القيادي في «الحرس الثوري» رضي موسوي ديسمبر الماضي (موقع المرشد الإيراني)

عندما بدأت عملية «طوفان الأقصى» ونشوب الحرب في غزة، كانت إيران تواجه تداعيات الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة إثر وفاة الشابة مهسا أميني، التي جعلت خريف 2022 الأكثر دموية في الداخل الإيراني.

اندلعت الحرب في قطاع غزة، في لحظة محورية بالنسبة لمؤسسة المرشد الإيراني؛ حيث زادت الضغوط الدولية عليه بسبب قمع الاحتجاجات الداخلية، وإرسال الطائرات المسيّرة إلى روسيا، مع وصول المفاوضات النووية إلى طريق مسدود.

ومنذ الموقف الرسمي الأول، رأت طهران أن هجوم حركة «حماس» هو «رد فعل طبيعي وحركة عفوية على السياسات الحربية والاستفزازية والإشعال المتعمّد للصراعات من قبل رئيس الوزراء المتطرف والمغامر لإسرائيل».

دأب المسؤولون الإيرانيون على نفي أي دور في اتخاذ قرار عملية «طوفان الأقصى»، لكن الحراك الدبلوماسي والسياسي أوحى بأن أركان الدولة، بما في ذلك الجهاز الدبلوماسي، كان على أهبة الاستعداد للتطور الكبير الذي يهز المنطقة.

بعد أقل من أسبوع على هجوم «طوفان الأقصى» بدأ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان، أول جولاته الخمس على دول المنطقة قبل وفاته في 19 مايو (أيار)؛ بهدف عقد مشاورات مع مسؤولي دول الجوار ولقاءات تنسيقية قادة جماعات «محور المقاومة» وتوجيه رسائل إقليمية، وتوجه إلى العراق وواصل زيارته إلى دمشق، ومنها إلى بيروت، وانتهى المطاف في الدوحة.

وحينها وجهت إيران رسالة لإسرائيل، بأنها قد تواجه عدة جبهات إذا لم تتوقف عملياتها العسكرية في غزة.

ودفعت طهران باتجاه تعزيز صورة الجماعات المسلحة في المنطقة، والعمل على إضفاء الشرعية على دورها في دعم تلك الجماعات، مستغلة الأوضاع السياسية والاضطرابات الإقليمية.

اجتماع ثلاثي بين عبداللهيان وزياد النخالة أمين عام «الجهاد الإسلامي» وصالح العاروري رئيس مكتب حركة «حماس» في بيروت مطلع سبتمبر 2023 (الخارجية الإيرانية)

وشكل هذا الموقف المحطة الأولى لإيران. وترى طهران أنها نقلت جماعات «محور المقاومة» من نطاق محصور إلى نطاق «عالمي»، أو ما يسميه الدبلوماسيون الإيرانيون من «عالم المقاومة» إلى «المقاومة العالمية».

بذلك، انتقلت إيران، التي حاولت الحفاظ على مرحلة التهدئة مع جيرانها الإقليميين، إلى وضع هجومي فيما يتعلق بالجماعات المرتبطة بها، وهو ما يراه البعض انعكاساً لاستراتيجيتها على توسيع نفوذها ودورها في المنطقة.

على المستوى الرسمي، بعثت إيران برسالة للأوساط الدولية بأن تلك الجماعات مستقلة، وتملك قرارها بنفسها، وتصنع أسلحتها، لكن عدة مسؤولين وقادة عسكريين إيرانيين أشاروا في تصريحاتهم إلى دور الجنرال قاسم سليماني وقوات الوحدة الخارجية في «الحرس الثوري» بتسليح تلك الجماعات وتزويدها بتقنيات صناعة الأسلحة.

أما ثاني محطة لإيران بعد «طوفان الأقصى»، فقد بدأت بعد شهر من اندلاع الحرب في غزة؛ حيث دعا المرشد الإيراني علي خامنئي إلى ما وصفه بـ«قطع الشرايين الاقتصادية» لإسرائيل، خصوصاً ممرات النفط والطاقة. ومنها دخلت الجماعات المرتبطة بطهران، وجماعة «الحوثي» تحديداً على خط الأزمة، وشنّت هجمات على سفن تجارية على مدى أشهر، أثرت على حركة الملاحة في البحر الأحمر.

كما باشرت الميليشيات والفصائل العراقية الموالية لإيران، هجمات بالطائرات المسيّرة على إسرائيل والقواعد الأميركية على حد سواء.

وبدأ الجيش الأميركي رده بعدما تعرضت له قاعدة في الحدود السورية بالرد على هجمات طالت قواته، مستهدفاً مواقع للفصائل المسلحة.

على المستوى السياسي، أصرت طهران على وضع شروط الجماعات الحليفة معها أولاً لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، ومنها أبدت معارضتها لأي تسويات دولية، خصوصاً إحياء مقترح «حل الدولتين». وفي ديسمبر (كانون الأول)، قال وزير الخارجية الإيراني إن رفض «حل الدولتين» نقطة مشتركة بين إيران وإسرائيل.

المحطة الثالثة: بموازاتها باشرت إسرائيل بشن هجمات هادفة ضد القوات الإيرانية في سوريا، واستهدفت رضي موسوي مسؤول إمدادات «الحرس الثوري» في سوريا في ديسمبر، وبعد شهر، أعلن «الحرس الثوري» مقتل مسؤول استخباراته هناك، حجت الله أميدوار، لكن أقوى الضربات جاءت في مطلع أبريل (نيسان) عندما استهدفت غارة جوية إسرائيلية اجتماعاً لقادة «الحرس» في مقر القنصلية الإيرانية، وقتلت أرفع مسؤول عسكري إيراني في سوريا ولبنان، الجنرال محمد رضا زاهدي.

المرشد الإيراني علي خامنئي يؤم صلاة الجنازة على جثامين زاهدي وجنوده في حسينية مكتبه 4 أبريل 2024 (أ.ف.ب - موقع المرشد)

أما المحطة الإيرانية الرابعة، فقد وصلت إيران فيها إلى حافة الحرب مع إسرائيل، عندما ردت على قصف قنصليتها، بشن أول هجوم مباشر من أراضيها على الأراضي الإسرائيلية بمئات الصواريخ والمسيّرات.

ورغم تأكيد الجانب الإسرائيلي على صد الهجوم الإيراني، فقد وجهت ضربة محدودة لإيران باستهداف منظومة رادار مطار عسكري في مدينة أصفهان، قرب منشأة نووية حساسة.

وزادت المواجهة من احتمال تغيير مسار البرنامج النووي الإيراني، مع تكاثر الحديث في طهران عن ضرورة التوصل لأسلحة رادعة، وأيضاً التهديدات الإسرائيلية بشن هجوم على المنشآت النووية الإيرانية.

امرأة غير محجبة تمر أمام لافتة دعائية للصواريخ الإيرانية في ساحة «ولي عصر» وسط طهران 15 أبريل الماضي (رويترز)

المحطة الإيرانية الخامسة، جاءت بعد مقتل الرئيس إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، في حادث تحطم مروحية قرب الحدود الأذربيجانية. وسارعت السلطات الإيرانية لنفي نظرية المؤامرة، مستبعدة بذلك أي احتمالات لتعرض أرفع مسؤول تنفيذي في البلاد لضربة إسرائيلية. وأصدرت هيئة الأركان بعد نحو 3 أشهر على مقتل رئيسي، تأكيداً بأن مروحيته سقطت نتيجة ظروف مناخية، رغم أنها لم تُجِب عن كل الأسئلة.

عبداللهيان خلال اللقاء الذي جمعه بنصر الله في ضاحية بيروت الجنوبية فبراير الماضي (إعلام «حزب الله»)

وفي هذه المرحلة، توسعت الحملة الإيرانية، مع دخول الموقف السياسي الإيراني مرحلة السبات فيما يخص تطورات الحرب في غزة، نظراً لانشغال السلطات بالانتخابات الرئاسية، والسعي لتشكيل حكومة جديدة.

وخلال حملة الانتخابات الرئاسية، تجنب المرشحون للانتخابات إثارة القضايا المتعلقة بحرب غزة والدعم الإيراني. على الرغم من الانتقادات الداخلية لتأجيل القضايا الإيرانية الملحة مثل رفع العقوبات وتعطل المسار الدبلوماسي لإحياء الاتفاق النووي.

وكان لافتاً أن تصريحات المرشحين بمختلف توجهاتهم لم تذهب أبعد من الإشادة بالبرنامج الصاروخي، وتوجيه الضربة لإسرائيل، والتعهد بتعزيز معادلات الردع.

المحطة السادسة: بمراسم تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في 30 يوليو (تموز)؛ إذ شهدت طهران أكبر تحول في حرب غزة، ألا وهو اغتيال رئيس حركة «حماس» إسماعيل هنية، في مقر تابع لـ«فيلق القدس» في شمال طهران.

هنية ونائب الأمين العام لـ«حزب الله» اللبناني ورئيس حركة «الجهاد الإسلامي» والمتحدث باسم الحوثيين في مراسم القسم الدستوري للرئيس الإيراني بطهران 30 يوليو الماضي (رويترز)

وتعهد المرشد الإيراني علي خامنئي حينها بالرد على «انتهاك السيادة الإيرانية» واغتيال «ضيف إيران»، وتنوعت نبرة ومفردات التهديد بين مسؤولين سياسيين وقادة عسكريين. وشدد المسؤولون الإيرانيون على حتمية الرد مع تقدم الوقت وتراكم الشكوك بشأن رد إيران.

وأثار اغتيال هنية في طهران الكثير من التساؤلات حول طبيعة العملية، خصوصاً مع وجود الاختراقات.

موكب تشييع إسماعيل هنية في طهران يوم 1 أغسطس الماضي (أ.ب)

المحطة السابعة: كان عنوانها تفجيرات أجهزة «البيجر»، بالتزامن مع رسالة تهدئة من الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وشملت إسرائيل.

وقبل أن يتوجه إلى نيويورك، قال بزشكيان في مؤتمر صحافي إن بلاده لا تريد أن تكون عاملاً لزعزعة الاستقرار في المنطقة، ولا تريد تصدير الثورة، مبدياً استعداده للانفتاح على واشنطن، إذا أثبتت أنها ليست معادية لطهران، وذهب أبعد من ذلك عندما استخدم وصف «الأخوة الأميركية».

واصل بزشكيان هذه النبرة في لقاءات على هامش حضوره أعمال الجمعية العامة في نيويورك، وقال: «إيران مستعدّة لوضع أسلحتها جانباً إذا وضعت إسرائيل أسلحتها جانباً»، حسب تسجيل صوتي انتشر من اللقاء نفسه. وقال إن تأخير الرد الإيراني على اغتيال هنية هو تلقي بلاده رسائل بأن اتفاقاً لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و«حماس» سيُبرم خلال أسبوع، مبدياً انزعاجه من عدم التوصل للاتفاق واستمرار الهجمات الإسرائيلية.

خامنئي يلقي خطاباً أمام مجموعة من أنصاره وفي الخلفية صورة نصر الله (موقع المرشد)

وقلل بزشكيان من قدرة «حزب الله» على مواجهة إسرائيل وحده، وهو ما مزق الصورة التي رسمها مسؤولون مقربون من المرشد علي خامنئي.

وزاد موقف بزشكيان وكذلك الفرضيات بوجود اختراق في هجمات «البيجر»، واستهداف قادة «حزب الله»؛ من الشكوك في طهران بوجود اختراقات للجبهة الإيرانية، وعززت أيضاً مخاوف داخلية من وجود اختراقات.

المحطة الثامنة والخطيرة، بدأت باغتيال الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، ثاني أهم لاعب للاستراتيجية الإقليمية الإيرانية، بعد الجنرال قاسم سليماني، خلال 35 سنة من حكم المرشد علي خامنئي. كما أدت الغارة الجوية الإسرائيلية على مقر نصر الله، إلى تسجيل ثاني خسائر «الحرس الثوري» الكبيرة منذ «طوفان الأقصى»، وهو نائب قائد غرفة العمليات، الجنرال عباس نيلفروشان.

ويحظى نصر الله بأهمية كبيرة لدى حكام إيران وخصوصاً الأوساط المحافظة، لدرجة تداول اسمه في بعض الفترات لتولي منصب المرشد الإيراني بعد خامنئي بوصفه «ولي الفقيه»، ولو أن الترشيح بدا مثالياً لأنه ليس مسؤولاً إيرانياً، فسيكون مرفوضاً من غالبية الأطراف السياسية.

نظام القبة الحديدية الإسرائيلي يعترض الصواريخ الآتية من إيران (رويترز)

ورداً على اغتيال هنية في عمق الأراضي الإيرانية، ونصر الله، ونيلفروشان، وجهت إيران هجومها الصاروخي الثاني المباشر على إسرائيل، في خطوة هدّدت إسرائيل بالرد عليها مع التلويح ببنك أهداف غير محدودة تشمل مصافي النفط ومحطات الوقود وأيضاً المنشآت النووية والعسكرية، ما يجعل الأزمة بين إسرائيل وإيران مفتوحة على كل الاحتمالات.