في هذا العصر الرقمي... مَن يربّي أبناءنا؟

هل تساهم الأجهزة اللوحية في تنشئة الأطفال؟ (أ.ف.ب)
هل تساهم الأجهزة اللوحية في تنشئة الأطفال؟ (أ.ف.ب)
TT

في هذا العصر الرقمي... مَن يربّي أبناءنا؟

هل تساهم الأجهزة اللوحية في تنشئة الأطفال؟ (أ.ف.ب)
هل تساهم الأجهزة اللوحية في تنشئة الأطفال؟ (أ.ف.ب)

يجلب العالم الحديث كثيراً من التحديات إلى مهمة تربية الأطفال في الأسرة، التي تُعد أصعب وظيفة على الإطلاق. من السهل إعطاء الأطفال أجهزة «آيباد» ليلعبوا بعيداً ويبقوا صامتين. وفي هذا العصر، يمكن للأطفال في كل مكان تقريباً الوصول إلى الإنترنت - في أغلب الأحيان عبر الهاتف الجوال. في العديد من الأماكن أيضاً، يشعر الأهل بالتحديات التي تواجه كفاءتهم ودورهم وسلطتهم في التربية.
لقد فتح عصرنا الرقمي الجديد عالماً لا يُصدق من الفرص، خاصة للأجيال القادمة التي تتمتع بأسرع وتيرة للتقدم التكنولوجي في التاريخ، ولكن بالنسبة للأهل، لا تزال هناك بعض التحديات الجادة والحقيقية للغاية. لم تكن الأبوّة والأمومة سهلة في أي وقت من الأوقات، لكن التربية في العالم الرقمي أثبتت أنها من بين أعظم التحديات التي واجهها الأهل على الإطلاق.
في العصر الحديث، أصبح الأطفال يمتلكون الأجهزة الرقمية بشكل واسع. وفقاً لبيانات من مركز «بيو للأبحاث»، يمتلك ما يقرب من 1 من كل 5 أطفال دون سن 12 عاماً في الولايات المتحدة هاتفاً ذكياً خاصاً بهم، وقد حصل أكثر من نصفهم على هواتفهم بين الأعمار 9 و11 سنة. على الرغم من أن هؤلاء الأطفال لا يشكلون الأغلبية، فإن هذا الواقع يمثل تغييراً كبيراً عما كان عليه الأمر حتى منذ عقد مضى فقط، كما أنه يمثل بعض التحديات الجادة للأهل.
باختصار، يتعرض الأطفال للمعلومات أكثر من أي وقت مضى بفضل أجهزتهم، ويتطلعون بشكل متزايد إلى أجهزتهم لتوفير جميع احتياجاتهم الاجتماعية والعاطفية والترفيهية، الأمر الذي يؤدي في حد ذاته إلى عواقب عديدة، منها ما هو إيجابي، ومنها ما هو سلبي.
من بين التحديات التي يواجهها الأهل في العصر الرقمي، هو الوقت الطويل الذي يقضيه الأطفال في استخدام الأجهزة الإلكترونية. وتبين الدراسات أن متوسط «وقت الشاشة» - وهو الوقت الذي يقضيه الأطفال في استخدام الأجهزة الإلكترونية - للمراهقين كان نحو 8 ساعات في اليوم قبل جائحة «كورونا». ويمكننا أن نتخيل ما فعلته الجائحة وحالات الإغلاق بهذا المتوسط! لكن هذا يعني أنه حتى في الظروف العادية، يقضي الأطفال ما يقرب من ثلث يوم كامل وهم ملتصقون بشاشاتهم. عندما نضع في الاعتبار الحاجة المطلوبة إلى النوم 8 ساعات في اليوم، وما لا يقل عن 6 - 7 ساعات في المدرسة، فهذا يعني أنه لم يتبق أي وقت تقريباً لأي شيء آخر؛ لذلك يواجه الأهل تحدياً خطيراً في جعل أطفالهم أكثر نشاطاً لممارسة التمارين في الهواء الطلق، أو العمل على شيء أكثر إبداعاً وإنتاجية.
التحدي الآخر الذي يواجهه الأهل هو الإدمان على استخدام الأجهزة الإلكترونية. كان الأهل في السابق قلقين باستمرار من أن أطفالهم قد يقعون فريسة لبعض الإدمان الرهيب على أمور مثل المخدرات أو الكحول. أما الآن، فإن هناك نوعاً آخر من الإدمان ينتظرهم، وهو إدمان الأجهزة الإلكترونية. في البدايات، كان الأهل يعتقدون أنه من الأفضل لأطفالهم أن يكونوا على الشاشات بدلاً من مواجهة المشكلات في الشوارع. ومع أن هذا قد يكون صحيحاً من ناحية، إلا أن الأطفال يتعرضون لجميع أنواع الأضرار النفسية والتهديدات على الإنترنت.
حتى قبل جائحة «كورونا»، كانت التقنيات الرقمية قد دخلت بعمق في حياة الأطفال، على الرغم من مجموعة متزايدة من الأبحاث التي توضح بالتفصيل أضرار الانغماس المفرط في عالم صناعة «تكنولوجيا الأطفال» غير المنظم، والمغري بقوة، والمدفوع بالربح. في كتاب «مَن يربّي الأطفال؟» («نيو برس»، 2022)، تستكشف الكاتبة سوزان لين، وهي خبيرة في اللعب الإبداعي وتأثير وسائل الإعلام والتسويق التجاري على الأطفال، جذور وعواقب هذا التحول الهائل نحو طفولة رقمية تجارية، مع التركيز على قيم الأطفال وعلاقاتهم وتعلمهم. منذ الولادة، أصبح الأطفال مصدراً مربحاً لمجموعة من شركات التكنولوجيا والإعلام والألعاب. تشير الكاتبة إلى أن كثيراً من نخب «وادي السيليكون» لا يسمحون بتعريض أطفالهم للتقنيات ذاتها التي يطلقونها لأطفال الآخرين.
وتبين الكاتبة كيف تتظاهر شركات التكنولوجيا، مثل «يوتيوب» و«تيك توك» و«سناب شات»، بأنها تقدم الرعاية، وتزرع المودة لدى الأطفال، وتساعدهم على التغلب على نقاط ضعفهم، في حين تنظر هذه الشركات في الواقع إلى الأطفال على أنهم مصادر ربح، وتشجع الأطفال على قضاء أوقاتهم على الشاشة بدلاً من تقوية الروابط الأسرية. وتؤكد الكاتبة أن هذه الشركات لا تهتم بالأطفال خلال أهم أوقات النمو في حياتهم بقدر اهتمامها بأرباح الإعلانات. والكاتبة ليست معادية للتكنولوجيا، بل تمتدح قدرتها على التواصل وتوفير تجارب جديدة. الكاتبة ببساطة تعارض الإعلان للأطفال، وهدفها هو حماية هذه الفئة الضعيفة من الاستغلال من قبل الشركات الإعلانية.
وتظهر دراسة أجرتها شركة «ميتا» («فيسبوك» سابقاً)، أن تطبيق «إنستغرام» قد يتسبب في تدني احترام الذات لدى الفتيات، والأفكار الانتحارية لدى المراهقين في أميركا والمملكة المتحدة. كان الاكتئاب عند الأطفال أمراً غير معتاد، لكنه أصبح الآن شائعاً. وتقول سوزان لين إن على الأهل تقرير ما إذا كانوا سيتخلون عن مسؤولية التربية والتنمية البشرية لمجموعة من التقنيين الأغنياء الذين لا يكترثون كثيراً بالتداعيات الأخلاقية لمنتجاتهم.
وفي نهاية المطاف، علينا أن نعترف بأهمية التكنولوجيا ودورها في نشر المعرفة والتقدم، ومن ثم لا يمكن للمجتمع المعاصر أن يحلم بالاستغناء عنها. عِوضاً عن ذلك، علينا أن نستفيد من الجوانب الإيجابية التي توفرها التكنولوجيا لأطفالنا في حال استخدامها بشكل جيد. وفيما يلي بعض هذه الجوانب الإيجابية:
الفائدة الأولى هي زيادة مستوى ذكاء الطفل. أجرت جامعة كورنيل الأميركية بحثاً علمياً في تسع مدارس لمجموعات من أعراق ومجموعات اجتماعية مختلفة. وفقاً لهذه الدراسة التي أجريت على ما يقرب من 9000 طالب، فإن مستوى الذكاء للجيل الحالي أعلى من الجيل السابق. يربط الخبراء هذا التأثير مباشرة بالتكنولوجيا. إن الزيادة في عدد المنتجات التكنولوجية في حياة الأطفال، ومن ثم زيادة المحفزات، بمثابة تمارين لتمكين الأطفال من حل مشكلات أكثر تعقيداً.
كما تساعد التكنولوجيا على تنمية المهارات العقلية بالمحتويات التعليمية. يمكن أن تكون الآثار الإيجابية للإنترنت على التعليم في مرحلة الطفولة المبكرة مفيدة للغاية. تُعد الممارسات التعليمية، مثل الألعاب والتطبيقات التي تعمل على تحسين المهارات المعرفية، من بين هذه الفوائد. ألعاب الذاكرة للأطفال الذين يرغبون في تحسين ذاكرتهم، وألعاب الانتباه للأطفال الذين يرغبون في تحسين انتباههم، وألعاب الرياضيات للأطفال الذين يرغبون في تحسين مهاراتهم الرياضية، وأكثر من ذلك بكثير، في متناول الأطفال اليوم؛ لذلك يمكن أن يكون استخدام الإنترنت الآمن للأطفال مفيداً مع التطبيقات المناسبة، مما يسمح لهم بلعب ألعاب العقل بدلاً من ألعاب سباقات السيارات.
كما يمكن أن تساعد التكنولوجيا على تطوير مهارات حل المشكلات. ينجح الأطفال المبدعون في التكيف مع العالم المتغير. وبالمثل، فهم ينجحون عادة في إيجاد حلول جديدة لمشكلات جديدة. سيسمح تعزيز مهارات حل المشكلات في مرحلة الطفولة بالتغلب على العقبات بشكل أسهل في المستقبل.
كما يمكن أن تلعب التكنولوجيا في بعض الأحيان دور المنقذ للطفل ومن يحيطون به. يجب أن يتمكن أطفالك من الوصول إليك في حالة الطوارئ، حتى لو لم يكونوا كباراً بما يكفي لاستخدام الهاتف الجوال. يتم إنتاج أجهزة محمولة بسيطة، مثل الساعات الذكية، لتلبية هذه الحاجة بطريقة صحية. في المدارس، يتم تعليم الأطفال الأرقام التي يجب عليهم الاتصال بها في حالات الطوارئ. يمكنك إضافة أرقام سيارات الإسعاف وخدمات الإطفاء إلى قائمة جهات الاتصال الخاصة بهم.
كذلك توفر التكنولوجيا للطفل إمكانية الوصول السهل إلى المعلومات. يشعر جميع الأطفال بالفضول في سن مبكرة، ويريدون دائماً التعرف على العالم الخارجي، ويمكن لشبكة «الويب» العالمية أن تساعدهم على فهم ما يريدون تعلمه.
وحيث إن تعلم لغة أجنبية أصبح من متطلبات التعلم الأساسية في هذا العصر، فإن الإنترنت توفر مساعدة قيمة في هذا المجال. يمكن للأطفال تعلم لغة أجنبية في وقت قصير باستخدام أدوات الإنترنت، والألعاب الممتعة والتدريبات، دون الشعور بالملل. يمكن للأهل تزويد أطفالهم بالمصادر الصحيحة وتطوير مهاراتهم اللغوية.
من ناحية ثانية، تساعد التكنولوجيا الرقمية الأطفال على تطوير التفكير النقدي. بفضل الألعاب التفاعلية والتمارين الذهنية عبر الإنترنت، يبدأ الأطفال في تطوير مهارات التفكير النقدي في وقت مبكر. تساعد هذه الألعاب والتمارين التعليمية الأطفال على النمو فكرياً، من خلال تعزيز مهارات التفكير الاستراتيجي لديهم.
وفوق هذا كله، توفر التكنولوجيا عالماً ترفيهياً رائعاً للأطفال والكبار على حد سواء. يمكن للأطفال الاستفادة من ألعاب الفيديو الممتعة، والألغاز والأحاجي، وغيرها من الأشياء، لقضاء أوقات فراغهم، ولكن بشرط أن تكون هناك رقابة وثيقة من الأهل في هذا المجال.
وهكذا يمكن القول إن التكنولوجيا، رغم آثارها السلبية المحتملة التي لا يمكن إنكارها، والتي لم يتم ذكرها بشكل مفصل في هذا المقال؛ يمكن أن تكون عاملاً مساعداً ممتازاً في تربية الأطفال وتطوير قدراتهم إذا استخدموها بشكل جيد، تحت رقابة الأهل في البيت، والمختصين في المؤسسات التعليمية.
* باحث ومترجم سوري



كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
TT

كيف أرضى السوريون ذائقة المصريين... وأثاروا قلقهم

عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)
عدد كبير من المصريين يفضل المأكولات السورية (الشرق الأوسط)

فيما كانت الستينية كاميليا محمود تعبر بسيارتها أحد شوارع مدينة نصر بالقاهرة، لفتتها مطاعم كثيرة تزدحم واجهاتها بمواطنين اصطفوا لشراء «ساندويتش شاورما»، ما أثار لديها تساؤلات حول انتشار المطاعم السورية «بهذا الشكل المبالغ فيه»، على حساب نظيراتها المصرية، مبدية مخاوفها من «هيمنة اقتصادية سورية قد يكون لها تبعات أكبر في المستقبل».

كاميليا، التي كانت تعمل موظفة بإحدى شركات القطاع الخاص قبل بلوغها سن التقاعد، رصدت خلال السنوات العشر الأخيرة انتشاراً كبيراً للمطاعم السورية في مختلف الأحياء والمدن المصرية لا سيما مدينة 6 أكتوبر (غرب القاهرة) حيث تقطن. لم تستغرب الأمر في البداية، بل على العكس كان حدثاً جاذباً، ولو بدافع استكشاف ما تقدمه تلك المطاعم من نكهات جديدة وغير معتادة في المطبخ المصري، من الشاورما إلى الدجاج المسحب والكبة وغيرها.

صبغة شامية

خلال أكثر من عقد من الزمان، منذ تكثف التوافد السوري على مصر، زاد عدد المطاعم التي تقدم مأكولات سورية، لدرجة صبغت أحياءً بكاملها بملامح شامية، لا تُخطئها العين، ليس فقط بسبب أسياخ الشاورما المعلقة على واجهاتها، ولا الطربوش أو الصدرية المزركشة التي تميز ملابس بعض العاملين فيها، بل بلافتات تكرس هوية أصحابها وتؤكد ارتباطهم بوطنهم الأم، فعادة ما تنتهي أسماء المطاعم بكلمات من قبيل «السوري»، «الشام»، «الدمشقي»، «الحلبي».

طوابير أمام أحد المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

محاولات تكريس الهوية تلك «أقلقت» كاميليا وغيرها من المصريين ممن باتوا يشعرون بـ«الغربة» في أحياء مثل «6 أكتوبر»، أو «الرحاب (شرق القاهرة)» التي باتت وكأنها «أحياء سورية وسط القاهرة». وتتساءل كاميليا في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «ألا يقتطع وجود السوريين من حصة المصريين في سوق العمل؟ ألا يشكل وجودهم خطراً سياسياً لا سيما مع هيمنة اقتصادية في قطاعات عدة؟».

بين «العشق» و«القلق»

رغم مشاعر القلق والغربة، فإن السيدة لا تخفي «عشقها» للمأكولات السورية. فهي تحرص بين الحين والآخر على الذهاب مع أسرتها لأحد تلك المطاعم، مستمتعة بنكهات متنوعة من أطباق «الشاورما والفتوش والكبة وغيرها». فـ«الطعام السوري لذيذ ومتنوع وخفيف على المعدة، وله نكهة مميزة»، وبات بالنسبة لها ولغيرها «عنصراً مضافاً على المائدة حتى داخل المنزل». وبالطبع لا يمكن لكاميليا إغفال «جودة الضيافة»، لا سيما مع كلمات ترحيبية مثل «تكرم عينك» التي تدخل كثيراً من البهجة على نفسها كما تقول.

حال كاميليا لا يختلف عن حال كثير من المصريين، الذين غيرت المطاعم السورية ذائقتهم الغذائية، وأدخلت النكهات الشامية إلى موائدهم عبر وصفات نشرتها وسائل إعلام محلية، لكنهم في نفس الوقت يخشون تنامي الوجود السوري وتأثيره على اقتصاد بلادهم، الأمر الذي بات يُعكر مزاجهم ويحول دون استمتاعهم بالمأكولات الشامية.

ومع موافقة مجلس النواب المصري، الثلاثاء الماضي، على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين، تزايدت حدة الجدل بشأن وجود الأجانب في مصر، لا سيما السوريون، وسط مخاوف عبر عنها البعض من أن يكون القانون «مقدمة لتوطينهم»، ما يعني زيادة الأعباء الاقتصادية على البلاد، وربما التأثير على حصة المواطن المصري في سوق العمل وفق متابعين مصريين.

مجلس النواب المصري وافق على مشروع قانون لتنظيم أوضاع اللاجئين (الشرق الأوسط)

تزايد عدد السوريين في مصر خلال العقد الأخير عكسته بيانات «المفوضية الدولية لشؤون اللاجئين» حيث ارتفع عدد السوريين المسجلين في مصر لدى المفوضية من 12800 في نهاية عام 2012 إلى أكثر من 153 ألفاً في نهاية عام 2023، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد السودانيين ضمن نحو 670 ألف لاجئ وطالب لجوء مسجلين لدى المفوضية من 62 جنسية مختلفة.

جاءت هذه الزيادة مدفوعة بالحرب السورية، ودفعت مواطنيها إلى دول عدة، بينها مصر، لتبدأ المفوضية في تلقي طلبات اللجوء منذ عام 2012، مؤكدة دعمها «الفارين من أتون الحرب».

ومع ذلك، لا تعكس البيانات التي تقدمها مفوضية اللاجئين العدد الحقيقي للسوريين في مصر، والذي تقدره المنظمة الدولية للهجرة، بنحو 1.5 مليون سوري من بين نحو 9 ملايين مهاجر موجودين في البلاد.

لكن التقدير الأخير لا يُقره الرئيس السابق لرابطة الجالية السورية في مصر، راسم الأتاسي، الذي يشير إلى أن «عدد السوريين في مصر لا يتجاوز 700 ألف، ولم يصل أبداً لمليون ونصف المليون، حيث كان أعلى تقدير لعددهم هو 800 ألف، انخفض إلى 500 ألف في فترة من الفترات، قبل أن يعود ويرتفع مؤخراً مع تطورات الوضع في السودان». وكان السودان عموماً والخرطوم خصوصاً وجهة لكثير من السوريين عقب 2011 حيث كانوا معفيين من التأشيرات وسمح لهم بالإقامة والعمل حتى 2020.

دعوات مقاطعة

تسبب الوجود السوري المتنامي في مصر في انطلاق حملات على مواقع التواصل الاجتماعي بين الحين والآخر تنتقد السوريين، من بينها الدعوة لمقاطعة أحد المطاعم بسبب إعلان عن ساندويتش شاورما بحجم كبير، قال فيه مخاطباً الزبائن: «تعالى كل يا فقير»، مثيراً غضب مصريين عدوا تلك الجملة «إهانة».

حملات الهجوم على السوريين، وإن كانت تكررت على مدار العقد الماضي لأسباب كثيرة، لكنها تزايدت أخيراً تزامناً مع معاناة المصريين من أوضاع اقتصادية صعبة، دفعت إلى مهاجمة اللاجئين عموماً باعتبارهم «يشكلون ضغطاً على موارد البلاد»، وهو ما عززته منابر إعلامية، فخرجت الإعلامية المصرية قصواء الخلالي في معرض حديثها عن «تأثير زيادة عدد اللاجئين في مصر»، لتتساءل عن سبب بقاء السوريين كل هذه السنوات في بلادها، لا سيما أن «سوريا لم يعد بها حرب»، على حد تعبيرها.

وعزز تلك الحملات مخاوف من التمييز ضد المصريين في فرص العمل مع إعلان البعض عن وظائف للسوريين واللبنانيين والسودانيين فقط.

وانتقد رواد مواقع التواصل الاجتماعي المطاعم السورية باعتبارها «ليست استثماراً».

في حين طالب البعض بـ«إغلاق المطاعم السورية والحصول على حق الدولة من الضرائب»، متهماً إياهم بـ«منافسة المصريين بهدف إفلاسهم»، لدرجة وصلت إلى حد المطالبة بمقاطعة المطاعم السورية بدعوى «سرقتها رزق المصريين».

الهجوم على السوريين في مصر لا ينبع فقط من مخاوف الهيمنة الاقتصادية أو منافسة المصريين في فرص العمل، بل يمتد أيضاً لانتقاد شراء الأثرياء منهم عقارات فاخرة وإقامتهم حفلات كبيرة، وسط اتهامات لهم بأنهم «يتمتعون بثروات المصريين». وهو الأمر الذي يعتبره رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين في مصر المهندس خلدون الموقع «ميزة تضاف للسوريين ولا تخصم منهم، فهم يستثمرون أموالهم ويربحون في مصر، وينفقون أيضاً في مصر بدلاً من إخراجها خارج البلاد»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».

زحام لافت على مطعم سوري بشارع فيصل بالجيزة (الشرق الأوسط)

ووسط سيل الهجوم على المطاعم السورية تجد من يدافع عنهم، ويتلذذ بمأكولاتهم، باعتبارها «أعطت تنوعاً للمطبخ المصري».

كما دافع بعض الإعلاميين عن الوجود السوري، حيث أشار الإعلامي المصري خالد أبو بكر إلى «الحقوق القانونية للسوريين المقيمين في مصر»، وقال إن «أهل سوريا والشام أحسن ناس تتعلم منهم التجارة».

ترحيب مشروط

كان الطعام أحد الملامح الواضحة للتأثير السوري في مصر، ليس فقط عبر محال في أحياء كبرى، بل أيضاً في الشوارع، فكثيراً ما يستوقفك شاب أو طفل سوري في إشارات المرور أو أمام بوابات محال تجارية، بجملة «عمو تشتري حلوى سورية؟».

ويعكس الواقع المعيش صورة مغايرة عن دعوات الهجوم والمقاطعة المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي، عبر طوابير وتجمعات بشرية لشباب وأطفال وأسر تقف على بوابات المحال السورية لا يثنيها زحام أو حر أو مطر، عن رغبتها في تناول ساندويتش شاورما، «لرخص ثمنه، ومذاقه الجيد»، بحسب مالك مصطفى، شاب في السابعة عشرة من عمره، التقته «الشرق الأوسط» وهو يحاول اختراق أحد طوابير «عشاق الشاورما» التي تجمهرت أمام مطعم في حي الزمالك.

مصريون طالبوا بمقاطعة المطاعم السورية (الشرق الأوسط)

أما مدير فرع مطعم «الأغا» في حي الزمالك وسط القاهرة أيمن أحمد، فلم يبد «تخوفاً أو قلقاً» من تأثير حملات المقاطعة على المطاعم السورية، لا سيما مع «الإقبال الكبير والمتنامي على وجبات معينة مثل الشاورما والدجاج المسحب»، والذي أرجعه خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى «النكهة المختلفة للمطبخ السوري التي أضافت طعاماً شعبياً جديداً أرضى ذائقة المصريين».

وكان إعجاب المصريين بالمطبخ السوري هو ما دفع مؤسس مطعم الأغا، رائد الأغا، الذي يمتلك سلسلة مطاعم في دول عربية أخرى، إلى الاستثمار في مصر ليفتح أول فروعه في الدقي (شمال الجيزة) عام 2021، ثم يقدم على افتتاح فرعين آخرين في الزمالك ثم مصر الجديدة، بمعدل فرع كل عام.

على النقيض، تُغضب حملات الهجوم المتكررة رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين بمصر، الذي يرفض الاتهامات الموجهة للسوريين بـ«أخذ رزق المصري والحصول على مكانه في الوظائف والاستثمار»، لا سيما أن «السوري استثمر وفتح مطعماً أو مصنعاً ووفر فرص عمل أيضاً ولم يأخذ محل أو مطعم مصريين».

استثمارات متنوعة

يتحدث الأتاسي بفخر عن الاستثمارات السورية في مصر، ووجودها في قطاعات اقتصادية عدة، منها أكثر من 7 آلاف مصنع سوري في مجالات مختلفة، في مدن العاشر من رمضان والعبور وغيرهما، لكن المواطن المصري ربما لا يرى من الاقتصاد السوري في بلاده سوى المطاعم «كونها أكثر اتصالاً بحياته اليومية».

ويبدي الأتاسي اندهاشه من كثرة الحملات على المطاعم السورية، رغم أن «أغلبها وخاصة الكبيرة فيها شركاء وممولون مصريون، وبعضها مصري بالكامل وبه عامل سوري واحد».

ليست الصورة كلها قاتمة، فإعلامياً، يجد السوريون في مصر ترحيباً، وإن كان مشروطا بـ«تحذير» من عدم الإضرار بـ«أمن البلاد»، وهو ما أكده الإعلامي المصري نشأت الديهي في رسالة وجهها قبل عدة أشهر إلى السوريين في مصر رداً على الحملات المناهضة لهم.

وهو ترحيب عكسته وسائل إعلام سورية في تقارير عدة أشارت إلى أن مصر «حاضنة للسوريين».

وهو أمر أكد عليه موقع الجالية بتأكيد الحديث عن تسهيلات قدمت لرجال أعمال سوريين وأصحاب مطاعم، من بينها مطاعم في حي التجمع الراقي بالقاهرة.

و«مدينة الرحاب» تعد واحدة من التجمعات الأساسية للسوريين، ما إن تدخل بعض أسواقها حتى تشعر بأنك انتقلت إلى دمشق، تطرب أذنك نغمات الموسيقى السورية الشعبية، وتجذبك رائحة المشاوي الحلبية، وأنت تتجول بين محال «باب الحارة»، و«أبو مازن السوري»، و«ابن الشام» وغيرها، وتستقطبك عبارات ترحيب من بائعين سوريين، «أهلين»، و«على راسي» و«تكرم عيونك».

«حملات موجهة»

انتشار السوريين في سوق التجارة لا سيما الغذاء فسره مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق رخا أحمد حسن، في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، بأن «بلاد الشام بشكل عام قائمة على المبادرة الفردية، فجاء السوري برأسمال بسيط وبدأ مشروعاً عائلياً وباع ما أنتجه في إشارات المرور، قبل أن يتوسع ويحول مشروعه إلى مطعم».

رصد حسن بنفسه تنامي الإقبال على المطاعم السورية في حي الشيخ زايد الذي يقطنه، لا سيما أنهم «ينافسون المنتج المصري في الجودة والسعر»، معتبراً الحملات ضدهم «تحريضية تنطوي على قدر من المبالغة نتيجة عدم القدرة على منافسة ثقافة بيع أكثر بسعر أقل».

وتثير حملات الهجوم المتكررة مخاوف في نفس الكاتب والمحلل السياسي السوري المقيم في مصر عبد الرحمن ربوع، وإن كانت «موجودة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا وجود لها في الشارع المصري»، حيث يشير في حديثه لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «على مدار السنوات الماضية لم تتغير المعاملة لا من الشعب المصري أو الجهات الرسمية في الدولة».

السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية في مصر (الشرق الأوسط)

وبالفعل، أثرت المطاعم السورية إيجابياً في سوق الأكل المصري، ورفعت من سويته، بحسب ربوع، رغم أنها لا تشكل سوى جزء صغير من استثمارات السوريين في مصر التي يتركز معظمها في صناعة الملابس، وربما كان تأثيرها دافعاً لأن تشكل الجزء الأكبر من الاستهداف للسوريين في حملات يراها ربوع «سطحية وموجهة وفاشلة»، فلا «تزال المطاعم السورية تشهد إقبالاً كثيفاً من المصريين».

ولا تجد تلك «الحملات الموجهة» صدى سياسياً، ففي فبراير (شباط) من العام الماضي وخلال زيارة لوزير الخارجية المصري السابق سامح شكري إلى دمشق، وجه الرئيس السوري بشار الأسد الشكر لمصر على «استضافة اللاجئين السوريين على أراضيها وحسن معاملتهم كأشقاء»، بحسب إفادة رسمية آنذاك للمتحدث باسم الخارجية المصرية السفير أحمد أبو زيد، أشار فيها إلى تأكيد شكري أن «السوريين يعيشون بين أشقائهم في مصر كمصريين».

لكن يبدو أن هناك تطوراً أخيراً «أثار قلقاً كبيراً لدى السوريين وهو قرار إلغاء الإقامات السياحية»، فبحسب ربوع، معظم الأجانب في مصر وبينهم السوريون كانوا يقيمون في البلاد بموجب إقامات سياحية طويلة، لا سيما الطلاب وكثير ممن ليس لديهم عمل ثابت ويأتي قرار إلغاء تجديدها مقلقاً لأنه سيجبر كثيرين على الخروج من البلاد والعودة مرة أخرى كل فترة، وهو القرار الذي يرغب الأتاسي في أن يشهد إعادة نظر من جانب السلطات المصرية خلال الفترة المقبلة كونه «يفرض أعباءً جديدة على السوريين لا سيما الطلاب منهم».

«استثمارات متنامية»

ويشكل السوريون نحو 17 في المائة من المهاجرين في مصر، وهم «من بين الجنسيات التي تشارك بإيجابية في سوق العمل والاقتصاد المصري، وتتركز مشاركتهم في الصناعات الغذائية والنسيج والحرف التقليدية والعقارات»، وبحسب تقرير لـ«منظمة الهجرة الدولية» صدر في يوليو (تموز) 2022، أوضح أن «حجم التمويل الاستثماري من جانب نحو 30 ألف مستثمر سوري مسجلين في مصر، قُدر بمليار دولار في عام 2022».

وفي عام 2012 جاء السوريون في مقدمة مؤسسي الشركات الاستثمارية، عبر تأسيس 365 شركة من بين 939 شركة تم تأسيسها خلال الفترة من ما بين يناير (كانون الثاني) وأكتوبر (تشرين الأول)، بحسب بيانات «الهيئة العامة للاستثمار» في مصر.

ولا توجد إحصائية رسمية عن حجم الاستثمارات السورية في مصر الآن، لكن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أشار، في تقرير نشره عام 2017، إلى أن «اللاجئين السوريين استثمروا في مصر 800 مليون دولار». وهو نفس الرقم الذي تبنته هيئة الاستثمار المصرية في تصريحات تداولتها وسائل إعلام محلية.

لكنه رقم يقول رئيس تجمع رجال الأعمال السوريين إنه «لا يعدو كونه الرقم التأسيسي الذي بدأ به السوريون مشروعاتهم في مصر، ثم تنامى مع الوقت»، إضافة إلى أن «هناك الكثير من الأنشطة الاقتصادية غير مسجلة في هيئة الاستثمار المصرية».

مطعم سوري في وسط البلد (الشرق الأوسط)

حملات الهجوم المتكررة على السوريين لن تمنعهم من الاستثمار في مصر، فهي من وجهة نظر الموقع «ناتجة عن نقص المعلومات وعدم إدراك لطبيعة وحجم مساهمة السوريين في الاقتصاد»، إضافة إلى أن «المتضرر الأكبر من تلك الحملات هما الاقتصاد والصناعة المصريان»، لا سيما أنها «تتناقض مع سياسة الحكومة الرامية إلى تشجيع الاستثمار».

فقد جاء المستثمر السوري بأمواله لمصر واستثمر فيها، و«أنفق أرباحه فيها أيضاً»، فهو بذلك قادر على «العمل... ولم يأت ليجلس في المقاهي».

بالفعل «لا يحصل السوريون على إعانات من الدولة، بل يعملون بأموالهم ويدفعون ضرائب، ومثل هذا الحملات تقلل من دور مصر التاريخيّ أنها ملجأ لكل من يضار في وطنه أو يتعرض للخطر»، بحسب مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، الذي اعتبر الهجوم المتكرر عليهم «محاولة لإظهار السوريين بأنهم سبّب مشكلات البلاد، وهو غير صحيح».

وفي الوقت الذي يعول فيه الموقع على الإعلام لـ«نشر الوعي بأهمية وجود السوريين في مصر»، لا تزال الستينية كاميليا محمود حائرة بين «عشقها» للمأكولات السورية، و«مخاوفها» من التأثير على اقتصاد بلادها، ما يتنقص من متعتها ويعكر مزاجها وهي تقضم «ساندويتش شاورما الدجاج» المفضل لديها.