تردّدت نبيلة عواد حين طُرح عليها تقديم برنامج «صاروا مية»: «لم أرد ما يزيح عن خطّ الأخبار والبرنامج السياسي». ولأنه يحاكي لبنان المضيء خلال قرن، اتخذت من الرمزية دافعاً للموافقة. نجاح موسمه الأول حرّض على مواسم، لتصبح بعضاً من صورته. يعود البرنامج كزنبقة في اليباس، فيرافق اللبنانيين ليل كل سبت. في الأمسيات الحالكة، ترفع منارةٌ بضوئها معنى النور. البرنامج يُذكّر بخيوط الشمس المنبثقة من دهاليز العتمة.
لم يمرّ على شاشات لبنان في الفترة الأخيرة ما يُحلّي الوقت، إلا ما ندر. «صاروا مية» حلاوة، ورشّة حنين تعلق في الحلق. تخبر مقدّمته نبيلة عواد «الشرق الأوسط» أنّ الموسم الجديد يردّ على سؤال مشككين حول ما يمكن تقديمه بعد: «نعم، ثمة موضوعات لم تُطرح، في الفن والمجتمع والسياسة والسياحة. موسم من تنوّع الأفكار، بالصيغة المألوفة نفسها».
المهمة صعبة، فالمحتوى إبداعي يتعامل مع أفكار خارج الصندوق. وإن كان المطروح مُتوقعاً أحياناً، فطريقة الطرح تجنح نحو الجمال. ما يُقدّم أسبوعياً هو تذليل صعوباتٍ تُعدّدها: «أولاً، إيجاد الفكرة. ثانياً، المائة محطة داخل الفكرة. ثالثاً، غربلة المحطات المائة إن تخطّت عددها، أو البحث عما يُكملها إن لم تتجاوز العدد. ذلك كله تحت قبة المستوى العالي. لا نحشر محطة تبدو خجولة مقارنة بمحطات بارزة. ولا نُدخل بين المهم، الأقل أهمية».
العودة بمائة إعلان إبداعي شكّل الألفية؛ وكل إعلان إبحارٌ في الذكريات. الماضي برائحة القهوة، يطيب تنشّقها وملاحقتها. يأتي بها البرنامج إلى المساءات الموحشة، فيهديها الصُحبة لتغادر الوحشة. تكشف لـ«الشرق الأوسط» عن حلقة أخرى خاصة بفيروز تُعرض في هذا الموسم كمطر يُهدّئ الحريق اللبناني.
تكمل نبيلة عواد الحديث عن رهانات يكسبها البرنامج بهمّة مُعدّه جان نخول: «البحث في الأرشيف، وهو شاق لا يوصل دائماً إلى نتيجة كاملة. كما أنّ اللجوء إلى يوتيوب لا يثمر فيديوهات عالية الجودة. مخاض الحلقات أليم».
توافق على أنّ الأهم من النجاح، دوام استمراره. لعبة التلفزيون ليست دائماً عادلة، فما ينطلق بزخم ينتهي ببرودة. برامج حلّقت ثم همدت. لذلك، تأكيدها والفريق وضع المستوى العالي هدفاً أول، «فلا نستخف بلمعة الفكرة وقوة الإعداد والطرح».
تسمع هاجساً تتناقله ألسنة: «ألا تخشون الفشل؟». عادةُ الموسم الأول، عراب الأصناف الجيدة، السكن في القلوب، ثم تتوالى المواسم فلا يبقى سوى الغبار على المقعد. تردّ بالحرص على طرد احتمال الملل وعدم السماح لما يخفف الوهج بالوقوف على العتبة.
بالنسبة إليها، «صاروا مية» (إم تي في) استثناء، فالقاعدة حضورها في نشرات الأخبار والحوارات السياسية. تدافع عما يميل إليه القلب، من دون تأييد زجّ الإعلامي في مجالات لا يشعر حيالها بالألفة: «هوية الشخص مرآته. أقدّم نشرات الأخبار واختبرتُ الميدان، فلن أجد نفسي في برنامج فني مثلاً. إنه ليس انتقاصاً من الحقول المتشعّبة، بل تشبّث بما أهوى. يبرع المرء حيث يشعر بانتمائه. (صاروا مية) بمثابة رسالة عزمتُ على تقديمها لِما يعنيه الدفاع عن لبنان في وجه المقتلة الفادحة».
لا تنكر إخفاقاً علّمها درساً في اختيار المكانة المناسبة، فتذكُر تجربة غير موفّقة يوم شاركت في تقديم برنامج «حلوة ومرة» على «إل بي سي»، العام 2010. تخرج بقناعة مفادها أنّ الصحافي يتميز في سعيه إلى رفض التناسخ والتقليد، وهي تردّ على سؤال عما يحلو لها تقديمه بين المعروض على شاشات زميلة. عملها على مشروع برنامج سياسي اجتماعي، جارٍ، لولا تأخيرات سببها «صاروا مية» وخفقته: «خلطة المشاريع مضرّة. المفيد هو التركيز على نجاح يمهّد لآخر».
ترمي العينُ نبيلة عواد بنظرات إعجاب كلما أطلّت على الشاشة. لكنّ الإطلالة لها رمزيتها في «صاروا مية»، فتتخذ الأناقة معنى اختزالياً لصورة النموذج اللبناني، بطل البرنامج. أهذا صحيح، أم أنها تهيؤات تعزّزها الأزياء اللافتة؟ ترجّح كفة الاحتمال الأول: «الإطلالة بعضٌ من منحى البرنامج وهويته، تتطلّب جهداً لجمع الترند بالبساطة. عليها مراعاة اللياقة والاحتشام، بما لا ينطبق تماماً على زيّ نشرة الأخبار، حيث يمكن الاكتفاء بإطلالة كلاسيكية؛ قميص وجاكيت. هنا، لا بد من لمسة إضافية، فالبرنامج ليس وثائقياً جافاً؛ ألوانه والغرافيكس والعرض، جميعها تحاكي العصر».
تصغي إلى صوت فَلْش الأسى اللبناني أمام برنامج يلعب دوراً نقيضاً، هو تمجيد الأمل. تتبنّى وصنّاعه رأياً يقول إنّ مَن أنجز وأبدع في الماضي لا يزال قادراً على الإنجاز والإبداع في كل وقت. «لا يكفي التحسّر والبكاء على الأطلال. السعي ردُّ فعل إيجابي يجابه منحى سلبياً هو الاستسلام». لكنّ الوطنية الرنّانة لم تعد تسدّ الجوع. تجيب: «في النهاية، هذا تاريخنا والتاريخ لا يُمحى. ندبُ الحظ على الدوام ليس الحل. لبنان هو المائة عام، لا الأعوام الخمسة الأخيرة».
قرارها البقاء، وإن لاحت فرصة توضيب الحقائب: «مستقبل الإعلام صورة عن مستقبل البلد، ينهار بانهياره وينهض بنهوضه. هجرة الإعلاميين محزنة. الأمل بنهاية النفق».