‏ياسر الغسلان: روايتي مزيج من صوت الناس بكل ما فيه من قصص وجنون

الروائي السعودي لـ«الشرق الأوسط»: رهبة الكتابة ما زالت تتملكني... لكنها المخاض للوصول إلى القارئ

الكاتب السعودي ياسر عبد العزيز الغسلان
الكاتب السعودي ياسر عبد العزيز الغسلان
TT

‏ياسر الغسلان: روايتي مزيج من صوت الناس بكل ما فيه من قصص وجنون

الكاتب السعودي ياسر عبد العزيز الغسلان
الكاتب السعودي ياسر عبد العزيز الغسلان

عَبَر الكاتب السعودي ياسر عبد العزيز الغسلان المسافة بين الصحافة والرواية محمَّلاً بأحداث واضطرابات عاصفة وتحولات اجتماعية محفوفة بالصراعات صبَّها جميعاً في قالب روائي متخم بالأحداث؛ هي روايته الأولى «الأمارجي»، الصادرة عن «دار مقام للنشر والتوزيع»، إحدى الدور المشاركة في «معرض الرياض الدولي للكتاب».
رواية «الأمارجي»، الواقعة في 333 صفحة تستلهم اسمها من كلمة سومرية، تعني الحرية، ورمزيتها أن الحرية كانت فكرة موجودة منذ بداية اختراع الكتابة على يد السومريين.
أحداث الرواية تبدأ في السعودية، عام 1975، العام الذي اغتيل فيه الملك فيصل، مروراً بحادثة احتلال الحرم المكي، ثم فترة احتلال الكويت، تلتها أحداث سبتمبر (أيلول) 2001، ومن ثم حرب العراق 2003، وما تلتها من أحداث إرهابية في السعودية، حتى عام 2009، كما تتناول صراعات المجتمع بين التحديث والمحافظة والتشدد والعنصرية والطائفية وغيرها.
الغسلان يستعد لإصدار عمل روائي جديد قال إنه سيرى النور في مطلع العام المقبل. «الشرق الأوسط» أجرت الحوار التالي معه:

> أتيتَ من عالم الصحافة لعالَم الرواية دون سابق إنذار... هل انتابتك رعشة الخوف من اقتحام هذا العالم...؟ هل شعرت برهبة المولود الأول...؟
- رعشة الكتابة تنتابني، وتنتاب الكثيرين ربما، في كل مرة أجلس أمام لوحة مفاتيح الكومبيوتر لكتابة أي نص، مقالاً كان أو تحقيقاً صحافياً، إلا أن الخوف من الخوض في غمار نمط جديد من الكتابة كان دون شك مضاعفاً؛ فالمقال تأثيره وقتي، مثله مثل أي مادة صحافية، بينما الرواية تُخلَق لكي تبقى في الذاكرة، أو على الأقل هذا ما يأمله كل قاصٍّ أو روائي، إلا أن الحياة علَّمتنا أن الإقدام على خوض التجارب، مهما كانت مخيفة، هو السبيل الأهم لاكتشاف أقصى ما يمكننا تقديمه.
حتماً كانت الرهبة موجودة مع ولادة الرواية، ولا أخفيك إن قلتُ إنها ما زالت موجودة، الرهبة أمر جيد، وأجدها مفيدة جداً؛ فهي التي تجعلنا ككتاب نحرص على أن نراقب بحذر رأي القراء... هل وصلت لهم الفكرة؟ وهل خلقت جدلاً داخلياً لديهم؟ ليست رهبة الأمل في النجاح أو الخوف من الإخفاق، بل رهبة الانتظار؛ انتظار التأثير والتحفيز والتفكير الذي يشغلني في كل مرة أستمع فيها لتجربة قارئ أو ناقد أو مهتم قرأ الرواية.
> يقولون: كل رواية شكل من أشكال السيرة الذاتية؛ ماذا علق في هذه الرواية من سيرتك؟
- «الأمارجي» رواية فيها كثير مني، ولكن الأكثر منبعه تجارب وآمال وانكسارات وأفكار مجتمع كبير عشتُ فيه طوال حياتي، آمال علقَتْ في ذهني من أحلام أساتذة ومعلمين وانكسارات ترسَّخت في وجداني من أصدقاء ورفقاء، وأفكار شكَّلتني، أورثها لي أدباء وإعلاميون كبار، هي مزيج من صوت الناس بكل ما فيه من قصص وجنون، وصوت الأنا، بكل ما فيَّ من شغف الاستسلام لسطوة القلم.
ربما لا أجانب الصواب إن قلتُ إن «الأمارجي» رحلة حاولتُ أن ألخِّص فيها أربعة عقود من تاريخ السعودية، من وجهات نظر مختلفة، ولكنها في الوقت ذاته تحكي هموماً وآمالاً لا تختلف أهدافها رغم تباينها.

- رواية متخمة
> أحداث الرواية تبدأ من عام 1975، يعني حين كان عمرك أربع سنوات، ولأنها ليست رواية خيالية فهي تهتم بتوثيق أحداث تاريخية في السعودية والعالم... ألا تجد تعسفاً في رواية أحداث لم تدركها جيداً...؟
- دعني أبيِّن لك أمراً. الرواية قصتها خيالية، من حيث الشخوص ومواقفها، إلا أنها تقع في زمن واقعي معلوم في مكان محدد، وضمن ظروف وأحداث معلومة، وكما أن كتابة الرواية التاريخية لا تتطلب من الكاتب أن يكون قد عاش المرحلة، وهو في الحقيقة ما يحدث دائماً، فإن الكاتب يستقي من كتب التاريخ المادة الخام التي منها يخلق الأحداث والحوارات والشخوص.
في «الأمارجي» معظمنا ممن قد تجاوزوا سن الأربعين عاش المرحلة، ويعي مراحل كثيرة من الحقبة الزمنية التي تدور فيها أحداثها. فعلى خلاف كتابة الرواية التاريخية؛ فإنني ومحيطي كنا وما زلنا جزءاً من هذا التاريخ، ولعلي هنا أضيف أن تجربتي في العمل الصحافي منحتني فرصة لطرح الأسئلة بلا تردد على شخصيات جدلية كثيرة عاشت مراحل ربما لم أدركها شخصياً بوعي كافٍ.
> ألا ترى أن الرواية كثفت أحداثاً تاريخية كثيرة بشكل سردي يقترب من التقرير الصحافي عنه للجانب الروائي...؟
- ربما هذه هي ضريبة خلفيتي الصحافية، لا أستطيع أن أنكر أو أبرر، وربما يختلف مع توصيفك البعض. ولكن دعني أقُلْ لك شيئاً قد يوضح السبب؛ عندما شرعتُ في كتابة هذه الرواية في عام 2014، كانت الفكرة أن أكتب عملاً يوثِّق مرحلة زمنية ملتهبة لم تشهدها بلادنا في تاريخها الطويل، ربما منذ توحيدها على يد الملك عبد العزيز (رحمه الله). صحيح أنه في فترتي الخمسينات والستينات شهدت البلاد بعض التقلبات، ولكنها بقيت ضمن سياقاتها الرسمية البعيدة بشكل كبير عن الشارع، ولكن مع اغتيال الملك فيصل (رحمه الله) شهدت البلاد تحولات متسارعة... هذا ما دفعني وحفزني، وربما هنا تحرَّك الصحافي الذي لم يكن يعلم حينها أنه يدخل عالم الرواية، لأسرد هذا التاريخ الذي سيُكتب حتماً في كتب التاريخ باعتباره أحداثاً سياسية، وهي محاولة لسرد صفحة من التاريخ في إطار روائي من خلال وعي المواطن البسيط، هنا خُلق (يزيد) بطل الرواية الذي يمضي بالرواية بصفته إنساناً هامشياً منكسراً في عالم معقَّد ملتهب متسارع، في بلاد تحاول أن تسابق الزمن وتصطدم بواقع يرفض التقدُّم.
> كيف أمكنك أن تضع كل هذه الأحداث بدءاً من اغتيال الملك فيصل 1975، مروراً بحادثة احتلال الحرم المكي 1979، ثم فترة الصحوة واحتلال الكويت 1990، حتى أحداث سبتمبر 2001 وحرب العراق 2003 والأحداث الإرهابية في السعودية، أليس هذا كثيراً على 300 صفحة...؟
- ما عاشته السعودية خلال العقود الماضية كثير، وكل مرة كنتُ أفكر في أن ألغي حدثاً أو أختصر حدثاً كنت أجد نفسي وكأني أرسم لوحة تتبختر بألوانها، ولكن ينقصها اللون الحي؛ فلا صحوة دون أحداث الحرم (مثلاً)، كيف يمكن أن أتحدث عن أحداث سبتمبر دون الإشارة لحرب العراق وحرب الكويت، في كل هذا الزخم الدولي كان الإرهاب يحاول أن يأخذ البلاد لغياهب التخلُّف والانعزال والرجعية.
من المهم هنا القول إن الأحداث المذكورة ليست مربط الفرس في الرواية، بل انعكاساتها على الإنسان البسيط... الرواية هي الأساس عبر السيرة المتخيَّلة لبطلها «يزيد الأمارجي» الذي نشأ طفلاً مندمجاً كباقي أطفال مرحلته، إلا أنه مع مرور الوقت وتسارع الأحداث تحوَّل من مندمج سلبي إلى ما أصفه بالمتنبِّه السلبي؛ يقبل بالواقع ولكنه يعي جيداً طبيعته ومكامن رفضه.
> ألا تخشى أن كل هذه الأحداث داخل الرواية تفقدها الإمتاع؟
- قد يكون ذلك صحيحاً؛ لم أضع ذلك في الحسبان عندما شرعتُ في الكتابة، لا تنسَ أن محفِّز الكاتب الأول هو التعبير والتنفُّس والتنفيس بالحروف على السطور، وليس الهدف الإمتاع، رغم أنه مبتغًى وأملُ كلِّ كاتب، دون شك.
إلا أن رهاني كان منذ البداية يكمن في خلق متعة التفكير والتحليل والمراجعة، وليس بالضرورة متعة الحماس التي تزخر بها العديد من الروايات الجميلة والمهمة، ورغم ذلك فإن الرواية مفعمة بأحداث تراجيدية قد يجد البعض متعة فيها.
> من حيث الموضوع، كأنك أيضاً تريد أن تتناول جميع أمراض المجتمع في رواية واحدة... فالرواية تتناول قضايا العنصرية، والقبلية، والتشدُّد، والطائفية، والانتهازية، والمرأة، والآخر، وصراع الأجيال... أليس ذلك كثيراً؟
- ربما لأن المواطن البسيط مثلي ومثلك ومثل الكثيرين عايش كل ذلك؛ كيف يمكن أن نفهم لماذا وصل يزيد لما وصل إليه في نهاية الرواية دون أن نفهم كيف كان يفكر في يومه العادي وفي يومه الاستثنائي، وهو يمر بمواقف تشكِّل مع بعضها فسيفساء شخصيته أو شخصية أخته وفاء أو صديقه أحمد أو أخيه موسى أو غيرهم من شخصيات الرواية.
يزيد عاش في حقبة سادتها حالة إنكار، وشكلت أمراضها للأسف وعي مجتمع بالكامل؛ هل المواضيع كثيرة تسألني، وأقول: سأكون قد ظلمتُ يزيد إن كنتُ قد اختزلت شخصيته ونفسيته لمجرد تأثيرات وانعكاسات موضوع أو موضوعين عليه.
> هناك مَن رأى، مثل الناقد إحسان الخالدي، أن السرد في هذه الرواية «مفعم بالحيوية والتشويق»، كيف أمكنك أن تجمع بين صرامة وجدية الحدث وسلاسة الأداء الكتابي...؟
- قد يكمن الجواب في كوني حاولتُ وضع الأحداث التاريخية مفاتيح وبوصلة زمنية ثم تركت الخيال يأخذني لحيث يريد، وهنا من المهم التنويه بأن الرواية ليست عملاً تاريخياً يمكن الركون إليه كمرجع، بل هي متجردة من كل حيادية أو موضوعية، أو لنقل مهنية الصحافي الذي يسيطر عليّ، ولذلك فسلاسة الكتابة وليدة هذه الحرية في كتابة ما أريد، وما يفرضه عليَّ يزيد وباقي شخوص الرواية.
> هل هناك خطط لمشروع روائي جديد...؟ وما الذي سيميزه عن هذا العمل...؟
- نعم، هناك رواية بإذن الله ستصدر في يناير (كانون الثاني) المقبل، تزامناً مع «معرض القاهرة للكتاب»، وهي رواية تدور أحداثها في دولة متخيَّلة، تمزج أحداثها ما بين الجريمة والفلسفة والحب، الرواية لها بطل جديد اسمه ريان، وهو أستاذ جامعي، وفيها نكتشف إلى جانب الأحداث الرئيسية للرواية ماذا حلّ بيزيد الأمارجي بعد نهاية روايته.
ربما ما يميزها هي أن «الأمارجي» تتحدث عن الواقع من وجهة نظر إنسان قد نعرف مثله كثيراً، بينما الرواية المقبلة تتحدث عن الخيال من وجهة نظر شخوص تعيش في عالم أشبه بـ«اليوتوبيا»، حيث «اليوتوبيا» ليست بالضرورة جميلة، كما قد نتوهم أن تكون.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط
TT

فهم العالم... المسعى الذي لا ينتهي

إيمانويل كانط
إيمانويل كانط

ما حدودُ قدرتنا المتاحة والممكنة على فهم العالم؟ هل أنّ أحلامنا ببلوغ معرفة كاملة للواقع تُعد واقعية أم أن هناك حدوداً قصوى نهائية لما يمكننا بلوغه؟ يتخيّل مؤلّف كتاب منشور أواخر عام 2023 لقاءً جمع ثلاثة عقول عظيمة: الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخس، والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرغ والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. مؤلّف الكتاب هو الدكتور ويليام إيغنتون أستاذ العلوم الإنسانية ومدير معهد ألكساندر غراس للإنسانيات في جامعة جونز هوبكنز. كتابه الأخير المشارُ إليه، صدر عن دار نشر «بانثيون» في 368 صفحة، بعنوان «صرامة الملائكة: بورخس، هايزنبرغ، كانْط، والطبيعة النهائية للواقع».

هذا الكتابُ نتاجُ عقود عدّة من القراءة والتدريس والتفكير في التداخلات المثيرة بين الأدب والفلسفة والفيزياء. يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ نطاق تفكيره بهذه التداخلات شمل عدداً أكبر بكثير من الكّتّاب والمفكّرين غير هؤلاء الثلاثة؛ لذا يوضّحُ قائلاً: «عندما نضج الوقت لتحويل المشروع إلى كتاب ارتسمت أمامي، بقوّة طاغية لم يكن مفرٌّ من مواجهتها، أسئلة على شاكلة: كيف يتوجب علي تنظيم الكتاب؟ ومن هم أفضل الشخصيات التي يمكن عدّها تمثلاتٍ صالحة للكشف عن التداخلات بين الأدب والفلسفة والفيزياء؟ والأهمّ من هذا: كم عدد الشخصيات التي يمكن تناولها في الكتاب؟

خورخي لويس بورخس

كان طموحي المبكّر عند التفكير في تصميم هيكلة الكتاب أكثر اتساعاً مما انتهى إليه الشكل النهائي للكتاب. أغوتْني فكرة سرد حكايات عن شخوصٍ محدّدين بغية استخلاص رؤاهم من وراء تلك الحكايات؛ لكن في بداية الأمر واجهتني معضلة وجود عدد كبير من الحكايات التي يتوجب علي سردُها. خطّطتُ في بداية الأمر لتأليف كتاب يحوي إثني عشر فصلاً، مع شخصية مركزية مختلفة في كلّ فصل منها؛ أي بمعنى أنّ الكتاب سيحوي اثنتي عشرة شخصية. شعرتُ بعد تفكّر طويل أنّ الكتاب سيكون نتفاً مشتّتة تغيب معها الفكرة الأساسية التي أسعى إليها. حتى لو ظلّ يدور في مدار المشروع الفكري الذي يجولُ بعقلي. بعد ذلك استطعت السيطرة على ذلك التشتّت وكبح مفاعيله إلى حدّ ربّما يجوز لي القول معه إنّني ضيّقتُ على العدد كثيراً عندما جعلته ثلاثة وحسب. وضوحُ الفكرة أفضل من كثرة الشخصيات: هذا ما انتهيتُ إليه من قناعة».

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف طيلة حياته، وأظنّ أن كثيرين منا لهم شغف عظيم بها حتى لو لم يكونوا فلاسفة مكرّسين، هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث. بعبارة أخرى أكثر تقنية: يمكن للمقاربات (الناعمة Soft) المعتمدة في الإنسانيات أن تقدّم استنارة عظمى للمقاربات العلمية (الصارمة Hard)، والعكس صحيح أيضاً.

في المقاربات الثلاث التي اعتمدها المؤلّف في كتابه أظنّه قدّم شاهدة تطبيقية على جوهر الفكرة الأساسية أعلاه: قراءة بورخس، وتوظيفُ بعض ما استخدمه (كانط) للتفكّر ومساءلة معضلات طرحها بورخس قادت المؤلّف على مدى سنوات عديدة إلى بلوغ فهم أعمق لما اكتشفه هايزنبرغ. يؤكّد المؤلّف في هذا الشأن: «أعتقد بقناعة مؤكّدة أنّ فهمي لإنجازات هايزنبرغ كان أفضل بعد اطلاعي على أعمال بورخس وكانْط، وما كانت لتبلغ هذا المبلغ من الفهم لو اكتفيتُ بقراءة ما كتبه هايزنبرغ ذاته بشأن منجزاته الثورية!!».

فيرنر هايزنبرغ

يبدو للقارئ المتفحّص والشغوف بالمساءلات الفلسفية أن الموضوعة الأساسية في الكتاب والتي تقود كلّ الفعالية السردية فيه هي الصراع الجوهري بين رغبتنا في المعرفة والتوق لبلوغ نوع من الإجابة «النهائية» عن أعمق أسئلتنا بشأن الوجود من جانب، واستحالة بلوغ مثل هذه الإجابات قطعياً من جانب آخر. يصرّحُ المؤلّفُ بإمكانية تلمّسِ بعض العزاء في محض محاولة بلوغ هذه الإجابات حتى مع معرفتنا المسبّقة بأننا كائنات مقدّرٌ لها مواجهة نهاية وجودية مغلقة والبقاء في متاهة الأسئلة الوجودية التي لا إجابات نهائية لها. يشيرُ المؤلّف بهذا الشأن وفيما قد يبدو مفارقة مثيرة، أنّ ما نفترض فيه أن يكون الأقل حساً شعرياً بين الثلاثة (أعني هايزنبرغ) هو الذي عبّر عن هذه المعضلة بكيفية أكثر كثافة وقوّة مفاهيمية من الاثنيْن الآخرين!!. كتب هايزنبرغ في مخطوطة له عام 1942 يقول: «قدرة البشر على الفهم لا حدود لها؛ أما (الأشياء النهائية Ultimate Things) فلا نستطيع الحديث عنها». يؤكّدُ المؤلّفُ أنّ هايزنبرغ كان يقصدُ بملحوظته هذه شيئاً ما حول ما اعتبره محدّداتٍ (داخلية) أو (جوهرية) للمعرفة البشرية. سعيُنا إلى المعرفة لا يمكن أن ينتهي لمجرّد معرفتنا بوجود هذه الحدود الجوهرية لما يمكننا معرفته. إنّ معرفة العالم على نحو كامل وتام تعني القدرة على بلوغ تلك (الأشياء النهائية) التي عناها هايزنبرغ، وهذا يستلزم الوقوف خارج إطار الزمان والمكان (أي خارج كلّ حدود الوجود البشري) بطريقة مماثلة لما تصوّره القدّيس أوغسطين والأفلاطونيون الجُدُد عن الرب باعتباره قادراً على استيعاب وحدة الوجود في كليته وخلوده. من الواضح أنّ مثل هذا التوصيف للمعرفة لا يتوافق أبداً مع أي شيء يمكننا توصيفه على أنّه معرفة بشرية. الخواص المطلقة والنهائية لا تتفق مع أي معرفة بشرية. نحن عاجزون عن بلوغ المعرفة المطلقة لا لنقص أو عيب فينا، بل لأنّ هذا العجز واحد من المظاهر الحتمية المرافقة للوجود البشري.

من المفارقات المدهشة والباعثة على التفكّر أننا نميل ككائنات بشرية، وبرغم اقتران وجودنا البشري بعدم القدرة على بلوغ الإجابات النهائية، إلى التأكّد واليقين في كلّ ما نفعله وما نتخذه من خيارات في الحياة. يؤكّدُ المؤلف أنّ هذه اليقينية أمر سيئ، وفضلاً عن سوئها فهي ليست توقّعاً واقعياً أو مرغوباً فيه. اللايقين هو الأمر الحسن؛ لأن سعينا لليقين يقود إلى الغطرسة، ومحدودية الأفق والرؤية، وإغلاق مسالك جديدة للتفكير. العلم نشاط يختص بالملاحظة والتجريب وبلوغ تفسيرات مؤقتة، وهذه التفسيرات تخضعُ لتدقيق الجماعات العلمية، وإذا دُعِمت بالأدلة فإنها تُقبلُ بوصفها أفضل تفسير لدينا حتى الآن. لكنّما العلمُ لا يرتقي في مسلكه الحثيث متى ما قلنا إنّ اللعبة انتهت وبلغ العلم حدوده النهائية: الحقيقة المطلقة.

الفكرة الأساسية التي ارتسمت أمام المؤلف هي: الكشف عن الكيفية التي يستطيع بها التفكير العميق في معضلة ما أن يقود إلى رؤى عميقة بصرف النظر عن النطاق المعرفي الخاص بالباحث

لو طُلِبَ إلى إبداءُ رأيي الشخصي في انتقاء المؤلّف لمقارباته واختياره للشخوص الممثلين لهذه المقاربات الثلاث فسأقول: مقاربة المؤلّف للواقع من بوابات الأدب والفيزياء والفلسفة هي مقاربة رائعة ومتفقة تماماً مع روح العصر الذي نعيش، ونحتاجُ تأكيداً لمثل هذه المقاربات التي تعمل على تمتين الجسور الرابطة بين الحقول المعرفية باعتبارها أنساقاً معرفية مشتبكة وليست جسوراً متناثرة. أما اختيار المؤلّف للشخوص الممثّلة لكلّ مقاربة فكان خيارُ بورخيس موفقاً للغاية. بورخيس هو الأكثر تمثيلاً للفكر الفلسفي وملاعبة الواقع بألعابه التي اتخذت تمظهرات ميتافيزيقية بدت عسيرة على القراءة والفهم أحياناً؛ لكنّه بقي البارع دوماً في طرق مفاهيم الزمان والخلود والأبدية وأشكال الواقع المخادعة، وأظنه كان فيلسوفاً بمثل ما كان مشتغلاً ماهراً بالأدب، ولو قرأنا أعماله الفلسفية الخالصة مثل (تفنيد جديد للزمن) لشهدنا مصداقية شغفه الفلسفي. يبدو بورخس أوّلَ من ابتدع في مقالته الفلسفية تلك بدائل للزمن الخطي Linear Time، كما قدم إضاءات كاشفة لمفهوم الزمن الدوري Cyclic Time الذي له تمثلات عدّة في الثقافات القديمة وفي العديد من الأدبيات التي لطالما أشار إليها بورخس فيما كتب. لاحظوا معي النبرة الفلسفية القوية التي يكتب بها بورخس في هذه الفقرة المستلّة من مقالته: «أنكر هيوم وجود فضاء مطلق يحدث فيه كل شيء (نعيشه). أنا أنكر كذلك وجود زمن واحد تتعاقب فيه الوقائع. إنكارُ التعايش ليس أقلّ مشقة من إنكار التعاقب».

الأمرُ ذاته يسري على كانط، الفيلسوف الأكثر تمثيلاً لعصر التنوير بنتاجاته التأسيسية العظيمة التي جعلت منه مثابة عليا في الفكر البشري. ربما الاختلاف هو بشأن هايزنبرغ. لن نختلف بالتأكيد حول الجهد الفلسفي الهائل الذي عرضه هايزنبرغ في كتاباته، وليس هذا بالأمر النادر أو المثير للدهشة؛ إذ كلُّ الفيزيائيين الكبار هم بالضرورة فلاسفة عظام باستثناءات قليلة (مثل هوكنغ). يكفي مثلاً أن نقرأ مؤلفات هايزنبرغ التي ترد فيها مفردة (الفلسفة) في عناوينها؛ لكنّي - وكذائقة شخصية - أظنّ أنّ «إرفن شرودنغر» هو الأكثر تمثيلاً بين فيزيائيي القرن العشرين للإسقاطات الفلسفية على الفكر العلمي والمسعى البشري الحثيث نحو فهم الواقع.

سيكون جهداً طيباً أن نتذوّق بعض جمال صرامة هؤلاء المفكّرين، وهي صرامة نابعة من عقول جميلة، وليست بصرامة لاعبي الشطرنج كما أورد بورخيس في واحدة من ملاحظاته المثيرة.