القادري: «داعش شر قديم» باسم جديد

العالم الإسلامي الباكستاني يطالب بتطبيق مناهج دراسية في «مناهضة الإرهاب» و«التصدي للتطرف» في المدارس والجامعات البريطانية

الشيخ محمد طاهر القادري، جانب من الحضور في المؤتمر الصحافي للشيخ طاهر القادري أمس (تصوير: جيمس حنا)
الشيخ محمد طاهر القادري، جانب من الحضور في المؤتمر الصحافي للشيخ طاهر القادري أمس (تصوير: جيمس حنا)
TT
20

القادري: «داعش شر قديم» باسم جديد

الشيخ محمد طاهر القادري، جانب من الحضور في المؤتمر الصحافي للشيخ طاهر القادري أمس (تصوير: جيمس حنا)
الشيخ محمد طاهر القادري، جانب من الحضور في المؤتمر الصحافي للشيخ طاهر القادري أمس (تصوير: جيمس حنا)

أعلن العالم الإسلامي الباكستاني الشيخ محمد طاهر القادري، الذي أصدر فتاوى ضد الإرهاب والعمليات الانتحارية، أنه لا يخشى الانتقام من الأعداء، وأنه ليس خائفا على حياته.
وقال القادري، مؤسس منظمة «منهاج القرآن» العالمية التي لها اتباع بعشرات الآلاف حول العالم، في اتصال هاتفي أجرته معه «الشرق الأوسط» قبل مؤتمر صحافي عقده في العاصمة لندن صباح أمس: «لست خائفا من أي شخص على سطح الأرض.. إنني أعمل من أجل جسر الفجوة بين العالم الإسلامي والغرب، وإزالة الكراهية وكل أسباب سوء الفهم. أريد أن يفهم العالم أن إسلامنا منهجه وسطي معتدل يدعو إلى السلام والمحبة». وقال إنه ينبغي على كل مسلم في بريطانيا تلقي دروس في مناهضة التطرف في المدارس والجامعات من أجل التصدي لمحاولات جذب البشر نحو التطرف.
وأوضح القادري أنه ينبغي لمناهج الدولة الحكومية أن تشمل دروسا في «السلام»، و«مناهضة الإرهاب»، و«التصدي للتطرف». وأوضح أن تلك المواد الدراسية لا بد أن تكون إجبارية بالنسبة إلى كل الطلبة المسلمين في البلاد، واختيارية بالنسبة إلى الأطفال غير المسلمين. وأضاف قائلا: «ينبغي أن تضم المناهج هذا الأمر. وينبغي أن تتم مناقشة السلام في إطار مادة دراسات السلام. وكذلك ينبغي أن تكون مناهضة التطرف مادة دراسية هي الأخرى، وكذلك مناهضة الإرهاب».
وأفاد بأن فتاواه التي أصدرها قبل خمس سنوات من بريطانيا في كتاب من 600 صفحة بالعربية والإنجليزية والأُردية كانت ضد الانتحاريين، لكنه اليوم يصدر من لندن كتابا ضد فكر الدواعش أعداء الإنسانية، يطالب فيه بتطبيق مناهج دراسية إجبارية بالنسبة للطلبة المسلمين تتصدى للتطرف والفكر المتشدد. وقال إن الأدلة في كتابه الجديد ضد «داعش» مستمدة من الكتاب والسنة النبوية المطهرة. وأوضح أنه دعا مفكرين وساسة ونوابا وضباط شرطة بريطانيين لمؤتمره الصحافي الذي يطالب فيه بالتصدي لفكر التطرف والانتحاريين في المدارس والجامعات. وأوضح أنه تلقى استجابة من كثير من الأئمة في بريطانيا وباكستان بخصوص دعواه الجديدة للتصدي لفكر الانتحاريين في المدارس والجامعات.
ويأتي هذا الطرح في وقت سافر فيه نحو 700 بريطاني إلى الشرق الأوسط من أجل المقاتلة في صفوف تنظيم داعش، ويعتقد أن نصفهم قد عاد إلى المملكة المتحدة. وانتقد ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني، مؤخرًا الجالية المسلمة التي «تقر التطرف بهدوء»، ودافع عن السلطات البريطانية التي حملتها أسر بعض من هربوا مسؤولية ما حدث. وقال إنه في الوقت الذي يتعين فيه على الجالية المسلمة تحمل مسؤولية معالجة هذه المشكلة «قبل أي شيء»، يمكن للحكومة أن تتخذ إجراءات من خلال المدارس.
ووصف المرجع الإسلامي قيادات وعناصر «داعش» الذين يثيرون الرعب في كل مكان بقطع الرؤوس وقتل الأبرياء من النساء والأطفال بأنهم «خوارج العصر الحديث.. كلاب أهل النار»، مؤكدا أنهم «لن يدخلوا الجنة أو يشموا ريحها». وأضاف القادري الباكستاني المولد: «من هذا المنطلق حياتي بين يدي المولى عز وجل، وأنا لا أخشى أحدا، فهذا الأمر يعتمد على إرادة الله، فإذا كنت سأعيش فإنني سأعيش، وبخلاف ذلك فأنا لست خائفا».
وقال مؤسس منظمة «منهاج القرآن» العالمية عبر الهاتف من لندن قبل ساعات من مؤتمره الصحافي الذي حظي بإقبال من ممثلي الصحافة البريطانية: «تنطبق فتواي على (داعش)، لأنهم يقطعون رقاب الناس، فهم يقتلون المسلمين وغير المسلمين، ولا يدافعون عن الإسلام، وما يفعلونه ليس دفاعا عن النفس، فهم يقتلون المسلمين ويزعزعون استقرار العالم الإسلامي ويقومون بتغذية الفُرقة في العالم العربي.. وبالتأكيد فهم يسيئون للإسلام ويحطمون الشعوب المسلمة». وأكد الشيخ القادري أن مقاتلي «داعش»: «لن يدخلوا الجنة ولن يشموا ريحها، فهم يقطعون الرقاب ويهدمون المساجد، ويثيرون الرعب، وكل تلك التصرفات السيئة لا تؤدي إلى الجنة، وكل ما يفعلونه يعتبر ذنوبا لا تؤدي إلا إلى جهنم».
وقال القادري إن الانتحاريين «لا يمكنهم الادعاء بأن انتحارهم عمل من أعمال الشهادة ليصبحوا من أبطال الأمة، هذا غير صحيح، لأنهم سيصبحون من أبطال النار في الجحيم». وأضاف أن «أفعالهم في هذه الحالة لا يمكن بأي شكل أن تصنف في إطار الجهاد». وأضاف أن الإسلام «ليس فقط بريئا من التفجيرات الانتحارية والهجمات التي تستهدف المدنيين، لكنه أيضا يخرج المتورطين فيها من الملة القويمة، أي أنه يعتبرهم كفارا». ووصف «داعش» بأنه «شر قديم باسم جديد». واستشهد المرجع الإسلامي بحديث شريف يقول: «يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَأونَ الْقُرْآنَ، لَيْسَتْ قِرَاءَتُكُمْ إِلَى قِرَاءَتِهِمْ، وَلا صَلاتُكُمْ إِلَى صَلاتِهِمْ شَيْئًا، وَلا صِيَامُكُمْ إِلَى صِيَامِهِمْ شَيْئًا، يَقْرَأونَ الْقُرْآنَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهُمْ، لا تَجَاوَزُ صَلاتَهُمْ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ».
وقال القادري إنه يعتقد أن السواد الأعظم من شباب المسلمين في بريطانيا لم ينجرفوا إلى التشدد، وإنه يعتقد أنهم سيفكرون مرة أخرى بعد قراءة فتواه. وأوضح: «لا يكون المرء إرهابيا في يوم وليلة، وإنما هي رحلة طويلة من الاعتدال إلى التطرف والتشدد، من منهج الإسلام الوسطي إلى الخروج من الملة الحنيفة. هناك كثيرون على هذا الطريق إلا أنهم لم يتحولوا إلى انتحاريين بعد». وأصدر العالم الإسلامي فتواه التي تتضمن تفنيدا للدوافع الدينية للانتحاريين بعد تزايد أعداد التفجيرات الإرهابية والانتحارية في سوريا والعراق وأفغانستان وليبيا وباكستان. وأعرب عن أمله أن تجذب آراؤه نظر السياسيين وأجهزة الأمن في الدول الغربية.
وقال المرجع الإسلامي: «إن العالم الغربي يرى أن هناك تطرفا عنيفا وتطرفا غير عنيف، وإننا يجب أن نقاوم التطرف العنيف ولا نقاوم غير العنيف، إلا أنني أعارض هذه الرؤية. فأنا أرى التطرف كتطرف وليس هناك مجال للتفرقة بين العنيف وغير العنيف، فكل تطرف لا بد في النهاية أن يصير إلى إرهابا. فالتطرف يعارض تدريس الإسلام وتدريس تعاليم النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) المبنية على الاعتدال، حيث قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إن الإسلام دين الوسطية. فقد دعانا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دوما إلى الاعتدال».
من جهتها، قالت مؤسسة «كويليام» البريطانية التي تحارب التطرف الإسلامي إن فتاوى القادري «يمكن أن تعتبر الحجة الفقهية الأكمل ضد التشدد والتطرف حتى يومنا هذا».
وشدد القادري، في اتصاله الهاتفي بالعربية والإنجليزية مع «الشرق الأوسط»، على أن هذه الفتوى ترفض بشكل قاطع أي عذر لتبرير العنف. وتابع الشيخ القادري: «الإرهاب هو الإرهاب والعنف هو العنف ولا مكان لهما في تعاليم الإسلام، ولا يوجد لهما أي تبرير أو عذر أو حجة». وشدد على أن الإسلام هو دين سلام وتسامح، داعيا المسلمين إلى الاقتداء بهذا الموقف. وقال إن عناصر «داعش» ينشرون الكراهية رغم أن الإسلام لم يدع إلى قتل غير المسلم ما دام بريئا ولم يقاتل حتى وإن انتسب لدار الحرب. وأكد الشيخ القادري أنه لا توجد دار حرب في بلاد المسلمين. وفي رأيه أن هناك خمس ديار: «دار السلام»، و«دار الحرب»، رغم أن هناك من يسميها «دار الكفر»، ثم «دار الصلح»، و«دار العهد»، و«دار الأمن». وأوضح القادري: «لا يمكنك إعلان أي بلاد كدار للحرب ما دامت تعاليم الإسلام تمارس فيها، وما دامت تقام فيها صلاة الجمعة وصلاة العيدين والصلاة المعتادة، ويسمح فيها بالصيام وبحرية العبادة. فقد يكون البلد غير مسلم إلا أنه سمح لك بحرية العبادة. دولة كهذه تعتبر دار السلام ودار الأمن، بينما دار العهد هي كل شعوب العالم التي تندرج تحت قانون الأمم المتحدة.
وكان الشيخ القادري أصدر من قبل فتوى نشرتها «الشرق الأوسط» في حينها جاءت في 600 صفحة، أدان فيها الإرهاب، واعتبر من يقومون بأعمال إرهابية أعداء للدين الحنيف. وصرح القادري بأن موجة الإرهاب والتطرف تؤدي إلى تدهور وضع الأمن والسلام في العالم بصفة مستمرة، وأنه من المؤسف أن النشاطات الإرهابية التي تقوم بها عناصر ضالة مثل «داعش» و«جبهة النصرة» تُضاف إلى الإسلام، ولكن في الواقع ليس الأمر كذلك. وأضاف بقوله إن «معظم رجال الدين يقومون بإدانة أعمال إرهابية بشكل مبهم»، موضحا أن منظمة «منهاج القرآن» العالمية لا تدين أعمال الإرهاب فحسب، وإنما ترفض ظاهرة الإرهاب بكل أشكالها على كل المستويات بشكل تام، مشيرا إلى أن الإسلام يدعو إلى الأمن والسلام.
وفي فتواه، قال القادري: «لا مكان للإرهاب والعنف في تعاليم الإسلام، وإن من يقومون بأعمال الإرهاب سواء من (داعش) أو (جبهة النصرة) لن يدخلوا الجنة أو يشموا ريحها، هؤلاء الذين ينتقون من الإسلام ما يتماشى مع هواهم وما يبرر أفعالهم الشنيعة ويزعمون أنهم على حق ينطبق عليهم الحديث الشريف: (يخرج أناس من قبل المشرق، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمية)». وأضاف أنه لا يعتقد أن رسالته ستصل إلى العدد القليل من المتشددين من «داعش» و«جبهة النصرة» الذين تعرضوا بالفعل لعملية غسيل دماغ، لكنه أوضح أن مئات الآلاف من الشباب السائرين على الطريق أو من المحتمل أن يتطرفوا سوف يستمعون لفتواه.
وقال القادري إن المهاجمين الانتحاريين يُعتبرون خارجين عن دائرة الإسلام، معربا عن أمله في ألا يُستخدم الشباب من قبل عناصر إرهابية أو منظمات متطرفة بعد دراستهم فتاواه، مضيفا بقوله إن «العناصر الإرهابية تقوم بغسيل أدمغة الشباب عبر تفسير عقائد الإسلام بشكل خاطئ، ويجب على الشباب الابتعاد عن نشاطات المتطرفين». وأوضح أنه أصدر أكثر من 500 كتاب في الفقه والشريعة وأحكام الدين من بينها 25 كتابا باللغة العربية والأردية والإنجليزية خصصها للتصدي للمفسدين في الأرض من الإرهابيين والمتشددين الذين يعيثون في الأرض فسادا وهم الخوارج «شرار أمتي يقتلهم خيار أمتي» بموجب الحديث الشريف «إنهم شر الخلق والخليقة، يقتلهم خير الخلق والخليقة، وأقربهم عند الله وسيلة». وقال القادري: «إن الانتحاريين لا يمكنهم الادعاء بأن انتحارهم عمل من أعمال الشهادة ليصبحوا من أبطال الأمة، هذا غير صحيح، لأنهم سيصبحون من أبطال النار في الجحيم». وأضاف أن «أفعالهم في هذه الحالة لا يمكن بأي شكل أن تصنف في إطار الجهاد». وأوضح القادري عبر الهاتف من مقر منظمة «منهاج القرآن» بلندن أن «الإرهاب لا مجال له في الإسلام، ولا يمكن أن يحظى بمشروعية في أي حالة من الأحوال». وأعرب عن أسفه أن البعض يقومون بشرح أحكام الإسلام التي تدعو إلى الأمن والسلام والمحبة والرفاهية حسب أهوائهم وذلك من أجل تحقيق مصالحهم الشخصية.
أوضح طاهر القادري أن «الذين يريدون تطبيق النظام الإسلامي على الآخرين عبر استخدام القوة ينتمون إلى مجموعة الخوارج التي حملت السلاح وقامت بالبغي المسلح ضد الدولة الإسلامية باسم تنفيذ أحكام الله تعالى في عصر سيدنا علي (رضي الله عنه)»، مشيرا إلى أن «خوارج العصر الحديث ينتمون إلى سلالة الخوارج الذين برزوا في عصر سيدنا علي (رضي الله عنه) باعتبار أشكالهم وتصرفاتهم، وينطبق عليهم قول الحديث الشريف: (قال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم:‏ ‏يخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان ‏‏ سفهاء ‏‏ الأحلام يقولون من خير قول الناس يقرأون القرآن لا يجاوز ‏ ‏تراقيهم ‏ ‏يمرقون ‏ ‏من الإسلام كما ‏ ‏يمرق ‏ ‏السهم من ‏ ‏الرمية ‏ ‏فمن لقيهم فليقتلهم فإن قتلهم أجر عند الله لمن قتلهم)».
وقال القادري إن الإسلام وضع قوانين الحرب، حيث منح الأطفال والنساء والمسنين حماية تامة خلال الحرب، وإن مراكز تجارية ومدارس ومستشفيات وأماكن العبادة مناطق آمنة حسب تلك القوانين الحربية. وصرح أيضا بأن «الإسلام لا يسمح بقتل المواطنين الأبرياء بأي سبب من الأسباب، وأنه يجب على الدولة الإسلامية أن تقوم بتطبيق نظام العدل والعقوبات بشكل تام وتقديم مرتكبي الأعمال الإجرامية للعدالة، ولا يجوز لأحد انتهاك قوانين الدولة».
ووجه القادري النقد إلى معارضي النظام الديمقراطي، وفي الوقت نفسه أوضح أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع النظام الديمقراطي والاستشاري. وقام بتذكير الحكومات الإسلامية بأن من مسؤولياتها الوطنية والدينية استئصال جذور ظاهرة الإرهاب وتفكيك شبكات إرهابية، ويجب عليها مواصلة العمليات العسكرية إلى أن يتم استئصال مجموعات إرهابية بشكل تام.
ويترأس الشيخ محمد طاهر القادري حركة «منهاج القرآن» الصوفية التي تحارب التطرف الديني في عشرات المراكز المنتشرة في بريطانيا. والشيخ القادري من مواليد عام 1951، ووالده الشيخ فريد الدين القادري الجيلاني كان من كبار علماء الشريعة في باكستان. وقد تولى خلال حياته العديد من المناصب العلمية، وانتخب عضوا في البرلمان الباكستاني عام 2002، إلا أنه ما لبث أن استقال احتجاجا على ما اعتبره ممارسات منافية للدستور والديمقراطية.



صراع صامت بين الدول الكبرى حول آسيا الوسطى

جانب من اجتماع لمجلس وزراء خارجية الجمهوريات السوفياتية السابقة في ألماتي بكازاخستان 11 أبريل (إ.ب.أ)
جانب من اجتماع لمجلس وزراء خارجية الجمهوريات السوفياتية السابقة في ألماتي بكازاخستان 11 أبريل (إ.ب.أ)
TT
20

صراع صامت بين الدول الكبرى حول آسيا الوسطى

جانب من اجتماع لمجلس وزراء خارجية الجمهوريات السوفياتية السابقة في ألماتي بكازاخستان 11 أبريل (إ.ب.أ)
جانب من اجتماع لمجلس وزراء خارجية الجمهوريات السوفياتية السابقة في ألماتي بكازاخستان 11 أبريل (إ.ب.أ)

بين ثلاثينات القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، شهدت منطقة آسيا الوسطى وامتدادها في بلاد القوقاز صراعاً مديداً على النفوذ بين الإمبراطوريتين الروسية والبريطانية، اشتهر فيه عدد من الجواسيس والقادة العسكريين الذين دخلوا تاريخ البلاد التي اصطلح على تسميتها اليوم «يوروآسيا»، والتي، منذ انفراط عقد الاتحاد السوفياتي، تتنافس على استمالتها وتوطيد العلاقات معها جميع القوى الجيوسياسية الوازنة في العالم، لما تختزنه من مصادر الطاقة والموارد الطبيعية والمعادن النادرة.

صورة جوية تُظهر مستودع ذهب فارفارينسكوي في منطقة كوستاناي بكازاخستان 15 أبريل (رويترز)
صورة جوية تُظهر مستودع ذهب فارفارينسكوي في منطقة كوستاناي بكازاخستان 15 أبريل (رويترز)

«اللعبة الكبرى» هو الاسم الذي توافق المؤرخون عليه لتعريف ذلك الصراع الطويل الذي لم يشهد مواجهة عسكرية مباشرة بين موسكو ولندن باستثناء «حرب القرم»، وتخللته محطات مفصلية مثل انشقاق منغوليا عن الصين ثم استقلالها عنها، واستقلال التيبت الذي عاد لاحقاً إلى سيطرة الصين بعد أن استعادت قوتها. وهي لعبة تتكرر اليوم بوسائل وأدوات مختلفة، وتبرز فيها بكين لاعباً أساسياً تكاد الأطراف الأخرى تعجز عن منافسته في توسيع دائرة امتداده التجاري والاقتصادي، وترسيخ حضوره السياسي والأمني في واحدة من أهم المناطق الجيوستراتيجية في العالم.

آخر الوافدين

ورغم أن بكين كانت آخر الوافدين إلى هذه المنطقة التي تهافتت عليها الدول الكبرى لتوقيع اتفاقات للشراكة التجارية والاقتصادية معها منذ أن استقلت جمهورياتها عن موسكو، فقد تمكنت في السنوات الخمس الأخيرة، منذ إطلاق مشروعها الضخم «طريق الحرير الجديد»، من ترسيخ حضورها ونفوذها في كازاخستان وقرغيزستان وتركمانستان وأوزبكستان وطاجيكستان، إلى أن أصبح حجم وارداتها من النفط والغاز والفحم من هذه البلدان يغطي 55 في المائة من احتياجات آلتها الصناعية الضخمة، فيما يزداد التبادل التجاري معها بنسبة 22 في المائة سنوياً.

الرئيس الصيني شي جينبينغ خلال افتتاح القمة مع دول آسيا الوسطى في شيان الصينية 18 مايو 2023 (إ.ب.أ)
الرئيس الصيني شي جينبينغ خلال افتتاح القمة مع دول آسيا الوسطى في شيان الصينية 18 مايو 2023 (إ.ب.أ)

الأسبوع الماضي، استضافت أوزبكستان القمة الأولى للاتحاد الأوروبي مع بلدان آسيا الوسطى، في دليل آخر على محورية هذه المنطقة على الساحة الدولية، في الوقت الذي تنكفئ فيه الإدارة الأميركية الجديدة عن معظم برامجها الإنمائية في العالم، بينما بدأت تظهر المؤشرات الأولى حول تقارب صيني - أوروبي لتشكيل محور واسع لمواجهة إجراءات الرئيس الأميركي «التنمّرية»، كما وصفها الرئيس الصيني شي جينبينغ خلال استقباله رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز في بكين، داعياً بلدان الاتحاد الأوروبي لرفع الصوت في وجه واشنطن.

وتفيد مصادر دبلوماسية مطّلعة بأن الإعدادات بدأت لعقد قمة موسعة في اليابان، مطلع يوليو (تموز) المقبل؛ لمناقشة هذا الوضع المستجد الذي يهدد بتقويض النظام الاقتصادي القائم.

قوة روسيا «الناعمة»

ويتزامن هذا الاهتمام الأوروبي المتزايد بآسيا الوسطى مع بداية مرحلة جديدة من التعاون الوثيق بين بلدان المنطقة، التي توصلت مؤخراً إلى اتفاق يُنهي النزاعات الحدودية بينها، مؤكدة عزمها على توثيق روابط الصداقة بينها وتعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي والأمني بينها، في محاولة للخروج من تحت العباءة الروسية، والوقوف على مسافة واحدة من القوى الكبرى.

بوتين في اجتماع تحالف أمني للدول السوفياتية السابقة في آستانة بكازاخستان 28 نوفمبر 2024 (إ.ب.أ)
بوتين في اجتماع تحالف أمني للدول السوفياتية السابقة في آستانة بكازاخستان 28 نوفمبر 2024 (إ.ب.أ)

ويعترف الأوروبيون بأن آسيا الوسطى ارتقت إلى إحدى أولويات السياسة الخارجية الأوروبية، بعد أن كانت تعدّ منطقة عازلة بين القوى العظمى، وهي اليوم على أبواب التحول إلى شريك استراتيجي للاتحاد الأوروبي في خضم التحولات الكبرى.

وتراجع النفوذ الروسي في المنطقة بشكل ملحوظ منذ بداية الحرب في أوكرانيا، لكن موسكو لجأت مؤخراً إلى تنشيط «قوتها الناعمة» عن طريق تكثيف أنشطتها الثقافية في بلدان آسيا الوسطى، بزيادة المنح الدراسية، وتوثيق العلاقات في مجالات الفنون، وتعليم اللغة، وتبادل الخبرات الإعلامية، مستندةً إلى الأواصر اللغوية والثقافية الروسية الوطيدة في النسيج الاجتماعي لهذه البلدان.

رسالة بكين

لكن رغم حمأة التهافت الدولي على هذه المنطقة، تبقى العيون مركزة على الصين التي تضع كل ثقلها لتوسيع نفوذها فيها، خصوصاً بعد اندلاع الحرب التجارية التي أعلنتها واشنطن، والتي تدل كل المؤشرات على أن بكين هي الجهة الرئيسية المستهدفة فيها.

جانب من لقاء الوفدين الصيني والتركمانستاني على هامش قمة الصين وسط آسيا في مايو 2023 (إ.ب.أ)
جانب من لقاء الوفدين الصيني والتركمانستاني على هامش قمة الصين وسط آسيا في مايو 2023 (إ.ب.أ)

وقبل أسابيع قليلة من انعقاد القمة المقبلة بين الصين وبلدان آسيا الوسطى، والتي ستستضيفها آستانة في يونيو (حزيران)، وجّه الرئيس الصيني رسالة إلى نظرائه في المنطقة جاء فيها أن «العالم يشهد وتيرة متسارعة من التغيرات لم يعرفها منذ أكثر من قرن، والصين عازمة على إقامة صداقة أبدية مع بلدان المنطقة في مرحلة حرجة من التاريخ».

وقال شي جينبينغ إن بلاده تريد توثيق التعاون مع دول المنطقة في جميع المجالات؛ من التجارة إلى الطاقة والزراعة والتعليم وعلوم الآثار، ما يظهر اهتمام بكين المتنامي بهذه الجمهوريات المجاورة التي أصبحت مصدراً رئيساً للموارد التي تحتاج إليها الصين، وسوقاً واسعة للمنتوجات الصينية، ومعبراً للبضائع الصينية نحو أوروبا، على غرار ما كانت عليه بين القرنين السابع والعاشر عندما كانت الإمبراطورية الصينية في أوج ازدهارها وقوتها خلال العصر الذهبي لسلالة «تانغ» التي يعود لها الفضل في إطلاق طريق الحرير التي كانت تعبرها القوافل التجارية من الصين إلى الهند وآسيا الوسطى، وصولاً إلى الشرق الأوسط وأوروبا، محملة بالبضائع والأفكار في الاتجاهين.

دور الحرب التجارية

ولا شك في أن التطورات الأخيرة قد دفعت بكين إلى المزيد من التصميم على تفعيل خطتها الرامية إلى إرساء موقعها كنقطة محورية في الشبكة الحديثة للمبادلات التجارية العالمية، وترسيخ هذا الموقع بواسطة مقترحات واسعة النطاق وطموحة تحمل الدمغة الصينية، ومبادرات مثل «التنمية الشاملة» أو «الأمن الشامل» أو «الحضارة الشاملة» التي يرددها جينبينغ في لقاءاته مع قادة المنطقة.

صورة جوية تُظهر جرافة تُحمّل خام الذهب في منجم فارفارينسكوي بمنطقة كوستناي بكازاخستان 15 أبريل (رويترز)
صورة جوية تُظهر جرافة تُحمّل خام الذهب في منجم فارفارينسكوي بمنطقة كوستناي بكازاخستان 15 أبريل (رويترز)

ويشدد الزعيم الصيني على أهمية بناء ما يسمّيها «مجموعة متكاملة ذات مستقبل مشترك»، وضرورة أن تقف الدول الست بحزم في وجه التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية لبلدان المنطقة، ومحاولات التحريض على العنف والثورة.

وكانت القمة السابقة بين الصين وبلدان آسيا الوسطى قد شددت في بيانها الختامي، العام الماضي، على أهمية الاستقرار السياسي والاجتماعي في المنطقة، وتعهدت بالدفاع عن سيادتها وأمنها واستقلالها ووحدة أراضيها، في إشارة واضحة إلى المخاوف التي تعتري معظم دول المنطقة من تدخل عسكري روسي، على غرار ما حصل في أوكرانيا.