«البركان العظيم» دمّر طبقة الأوزون ولم يقضِ على الجنس البشري

دراسة من «كاوست» وفريق دولي حول تأثيرات انفجار بركان «توبا» قبل 74 ألف عام

تحوّل بركان «توبا» العملاق إلى بحيرة بركانية (كالديرا) حاليا تُعرف باسم «بحيرة توبا»
تحوّل بركان «توبا» العملاق إلى بحيرة بركانية (كالديرا) حاليا تُعرف باسم «بحيرة توبا»
TT

«البركان العظيم» دمّر طبقة الأوزون ولم يقضِ على الجنس البشري

تحوّل بركان «توبا» العملاق إلى بحيرة بركانية (كالديرا) حاليا تُعرف باسم «بحيرة توبا»
تحوّل بركان «توبا» العملاق إلى بحيرة بركانية (كالديرا) حاليا تُعرف باسم «بحيرة توبا»

رجح علماء من جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (كاوست) وفريق بحثي دولي، أن الانخفاض الكارثي في مستويات الأوزون في الغلاف الجوي حول المناطق الاستوائية قد يكون أسهم في اختناق واضح في التجمعات البشرية في فترة تتراوح بين 60 ألفاً و100 ألف عام.
ودعم هذه الفرضية التي تحل «لغزاً تطورياً» يناقشه العلماء منذ عقود، دراسة ثوران بركان «توبا» العملاق في جزيرة سومطرة بإندونيسيا، الذي حدث قبل 74 ألف عام، وأدّى إلى تدمير كبير لطبقة الأوزون.
وقد عمل على هذه الدراسة البروفسور جورجي ستنتشيكوف، أستاذ علوم الأرض والهندسة في «كاوست» مع علماء من معهد «ناسا غودارد لدراسات الفضاء NASA GISS» بالولايات المتحدة الأميركية، وجامعة الملك سعود بالمملكة العربية السعودية، إلى جانب سيرغي أوسيبوف من معهد «ماكس بلانك MPI» للكيمياء بألمانيا، الذي يقول: «لطالما عُد (توبا) سبباً للاختناق، لكن التحقيقات الأولية في المتغيرات المناخية من جهة درجة الحرارة وهطول الأمطار لم تقدم دليلاً ملموساً على أنه قد حدث تأثير مدمر على الجنس البشري أو أن البشر اقتربوا جداً من الانقراض خلال هذه الفترة الزمنية».

أهمية الأوزون
تشير صفحة الأمم المتحدة الخاصة باليوم الدولي لحفظ طبقة الأوزون الذي يوافق 16 سبتمبر (أيلول) من كل عام، إلى أن الأوزون (O3)، هو شكل خاص من الأكسجين (O2) ولكن بتركيب مختلف. ويشكل الأوزون جزءاً صغيراً جداً من أجوائنا، غير أن وجوده أمر حيوي لرفاهية الإنسان.
ومعظم الأوزون يكمن في الغلاف الجوي، بين 10 و40 كلم فوق سطح الأرض. وتسمى هذه المنطقة «الستراتوسفير» وتحتوي على نحو 90% من جميع الأوزون في الغلاف الجوي.
تكمن أهمية الأوزون في طبقة «الستراتوسفير» في أنه يمتص بعض أشعة الشمس فوق البنفسجية الضارة بيولوجياً. وبسبب هذا الدور المفيد، يعد الأوزون «الاستراتوسفيري»، هو الأوزون «الجيد». وعلى النقيض من ذلك، فإن الأوزون الزائد على سطح الأرض الذي يتكون من الملوثات يعد من الأوزون «السيء» لأنه يمكن أن يكون ضاراً على البشر والنباتات والحيوانات.

تأثير بركان «توبا»
درس ستنتشيكوف وفريقه ثوران بركان «توبا العظيم»، حيث تدعم الأبحاث الحالية أن هذا البركان أثّر في حجم السكان خلال ذلك الوقت، مستحدثاً ما يسمى «عنق الزجاجة السكاني»، الذي يشير إلى انخفاض حاد في حجم السكان بسبب حدث فردي.
يقول ستنتشيكوف: «تؤكد معظم الأبحاث السابقة التي أُجريت على «توبا» أن الانفجار البركاني تسبب على الأرجح في حدوث «شتاء بركاني»، وذلك لأن البراكين تقذف ملايين الأطنان من الغازات مثل ثاني أكسيد الكبريت في الغلاف الجوي. وهذه الغازات هي مقدمة لتكوين الهباء الجوي، وهو قطرات صغيرة ذات تركيز عالٍ من حمض الكبريتيك، يمكن أن تبقى في طبقة «الستراتوسفير» لبضع سنوات، وتؤثر في المناخ من خلال عكس الإشعاع الشمسي وتبريد الأرض.
وتُظهر سجلات المناخ أن درجات الحرارة انخفضت بدرجة كبيرة بعد انفجار «توبا العظيم»؛ ما لم يؤثر على السكان والحيوانات والنباتات فحسب، وإنما في انتشار الأمراض، وبرودة المحيطات التي تطيل أمد ظاهرة «النينيو».
ويرى الباحث أن بعض التحليلات لا تدعم هذا الرأي، مشيراً إلى الدراسات الحديثة للرواسب في قاع بحيرة مالاوي بأفريقيا التي أظهرت عدم تأثرها كثيراً بالتبريد، خصوصاً في المناطق الاستوائية؛ حيث كان معظم السكان يتركزون ذلك الوقت، لكنه يوضح: «لهذا السبب فإنّ دراستنا تنظر في التأثيرات الأكثر تنوعاً للسحب البركانية أو الانبعاثات البركانية على كيمياء الستراتوسفير».
ونماذج ستنتشيكوف هي الأولى التي تفسر التأثير الإشعاعي لثاني أكسيد الكبريت في التسخين الإشعاعي ومعدلات التحلل الضوئي في «الستراتوسفير». فهذا الأخير يتحكم في التفاعلات الكيميائية الضوئية في الغلاف الجوي، وقد وجد فريقه أن نسبة كبيرة من الأوزون تتلف في سياق مثل هذه الانفجارات.
يوضّح ستنتشيكوف: «نحن نعلم أن انبعاثات الهالوجينات تدمر طبقة الأوزون في الستراتوسفير، ونعلم أيضاً أن انبعاثات بركان (توبا العظيم) لم تكن غنية بالهالوجينات. ومع ذلك، حتى من دون الهالوجينات، لاحظنا استنفاداً قوياً لطبقة الأوزون». وتشمل الهالوجينات عناصر الفلور، والكلور، والبروم، واليود، والاستاتين.
وقد أثبتت الأبحاث في العقود الأخيرة أن استنفاد طبقة الأوزون ناتج عن مركبات الكربون الكلورفلورية. وتحدث هذه الظاهرة في القطبين، ومعظمها في القطب الجنوبي حيث لا يوجد سكان، على الرغم من أن دول نصف الكرة الجنوبي مثل نيوزيلندا وأستراليا تتأثر أيضاً.
ويشرح ستنتشيكوف: «في حالة (توبا) وجدنا ثقباً للأوزون ليس في القطبين ولكن في المناطق الاستوائية، وقد استمر لعدة سنوات، ما يعد عاملاً قوياً آخر تسبب في تدهور الظروف البيئية والانخفاض الحاد في درجة الحرارة، على نحو أثّر سلباً في البشر خلال ذلك الوقت».

استنتاجات البحث
تشمل الآلية التي تستند إليها استنتاجات ستنتشيكوف نمذجة رياضية للنظام، يقارنها بعدئذ مع الملاحظات المرصودة. وعلى الرغم من عدم وجود الكثير من الملاحظات التي يمكن الرجوع إليها منذ 74 ألف عام إلا أن الباحث يقول إن ثمّة بيانات قديمة تتوفر لدينا من ذلك الزمن.
ووضع هو وفريقه افتراضات فيزيائية في نموذجهم، وابتكروا سلسلة تجارب عددية توضح نتائج هذه الافتراضات. وللتأكد من أنها ذات مغزى فقد دعموا جميع التفسيرات الفيزيائية بالنتائج.
يقول: «بهذه الطريقة نحاول دراسة الماضي والمستقبل. ونُجري عمليات محاكاة محاولين جعلها ذات دلالة إحصائية، ونجد آليات فيزيائية تفسر ما نراه». ويشير ستنتشيكوف إلى «أنّ الأشعة فوق البنفسجية القريبة من السطح، في المناطق الاستوائية، تعد العامل الدافع للتطور؛ إذ يصبح المناخ أكثر أهمية في المناطق الأكثر تقلباً بعيداً عن المناطق المدارية». ويضيف أن «طبقة الأوزون تمنع ارتفاع مستويات الأشعة فوق البنفسجية الضارة التي تصل إلى الأرض، حيث تشكل (درعاً) هشاً في الغلاف الجوي العلوي الذي يوجد فيه أعلى تركيز للأوزون».
عندما يطلق بركان ما كميات هائلة من ثاني أكسيد الكبريت، فإن العمود البركاني الناتج يمتص الأشعة فوق البنفسجية ولكنه يحجب أشعة الشمس. وهو ما يحدّ من تكوين الأوزون، ويحدث ثقب للأوزون ويزيد من فرص الإجهاد بالأشعة فوق البنفسجية.

نموذج المناخ المطور
فحص الفريق مستويات الأشعة فوق البنفسجية في أعقاب ثوران «توبا» باستخدام نموذج المناخ «ModulE» الذي طوّره معهد «غودارد لدراسات الفضاء» التابع لوكالة الفضاء الأميركية «ناسا»، إذ قام الباحثون بمحاكاة الآثار المحتملة بعد أحجام مختلفة من الانفجارات. ويتسم تشغيل مثل هذا النموذج بالكثافة الحسابية، وهو ما استدعى ضرورة استخدام حاسوب «كاوست» الفائق، «شاهين 2»، الذي يستطيع إنجاز عدد من العمليات الحسابية الثقيلة المطلوبة للنموذج. ويشير نموذج الباحثين إلى أن سحابة ثاني أكسيد الكبريت الناتجة عن ثوران بركان «توبا» استنفدت مستويات الأوزون العالمية بنسبة تصل إلى 50 في المائة. علاوة على ذلك، وجدوا أن الآثار على الأوزون كبيرة، حتى في ظل سيناريوهات ثوران صغيرة نسبياً. ومن شأن الأخطار الصحية الناجمة عن ارتفاع الأشعة فوق البنفسجية على السطح أن تحدث تأثيراً كبيراً على معدلات بقاء البشر على قيد الحياة.
ويقول أوسيبوف إنّ «آثار الإجهاد بالأشعة فوق البنفسجية يمكن أن تؤدي إلى نتاج مماثلة لما أعقب الحرب النووية. على سبيل المثال، ستنخفض غلة المحاصيل والإنتاجية البحرية بسبب آثار التعقيم بالأشعة فوق البنفسجية. فالتعرض للأشعة فوق البنفسجية من دون حماية سيسبب ضرراً للعين وحروق الشمس في أقل من 15 دقيقة. ومع مرور الوقت، كانت سرطانات الجلد والأضرار العامة التي لحقت بالحمض النووي تؤدي إلى تراجع أعداد السكان».

الدراسات المستقبلية للبراكين
يقول ستنتشيكوف: «تساعد البراكين العملاقة العلماء في تحديد الآليات الكامنة وراء العمليات المناخية الحالية والمستقبلية، إذ إنّ الانفجارات البركانية تسمح لنا بفهم الآليات الفيزيائية للمناخ بشكل أفضل؛ لأنها توضّح كيف يمكن لتغيير التوازن الإشعاعي للأرض أن يؤثر في المناخ. وهذا سيمكننا من التنبؤ بشكل أفضل بالاحترار العالمي وتغير المناخ في المستقبل».
وفي ورقة بحثية سابقة بعنوان «الإشارات البركانية في المحيطات»، أثبت ستنتشيكوف أنه بدءاً من عام 1850 أدت الانفجارات البركانية إلى تأخير الاحتباس الحراري بمعدّل يقارب 30 في المائة. إذ إنّ الفريق الحكومي الدولي المعنيّ بتغير المناخ (IPCC)، حدّد عام 1850 بوصفه خط أساس قياسياً لدراسة درجات حرارة سطح الأرض، ليشمل فترة ما قبل الصناعة حتى يومنا هذا، وهي الفترة الزمنية التي تم فيها إطلاق معظم ثاني أكسيد الكربون.
ويرى ستنتشيكوف أننا إذا أردنا أن نفهم المناخ فإن علينا أن نفهم آثار الانفجارات البركانية في المناخ، وأن ندرك أنّ النشاط البركاني في أي مكان يمكن أن يؤثر في الظروف الجوية للعالم بأسره.
ويشير إلى أنه لم تكن توجد دراسات أو ملاحظات كافية تتناول المرحلة الأولية للانفجارات البركانية. علاوة على ذلك، لا تقدم النماذج المناخية الحالية المستخدمة لدراسة تأثير الانفجارات البركانية تفاصيل كافية. ولمعالجة هذه الفجوة، قام هو وفريقه بتعديل النماذج الحالية من أجل فهم أفضل للمراحل الأولى لتطوير السحابة البركانية.

تأثير الانفجارات البركانية على الشرق الأوسط

> تؤثر الانفجارات البركانية التي تجري حول العالم تأثيراً شديداً على منطقة الشرق الأوسط. وسطياً، يكون التأثير على مناخ الشرق الأوسط أكبر بمرتين من التأثيرات على نصف الكرة الشمالي. يقول ستنتشيكوف: «يتضخم تأثير المناخ البركاني في الشرق الأوسط بسبب تغير الدوران الذي تسببه الانفجارات البركانية الاستوائية القوية».
على سبيل المثال، بعد انفجار بركان «بيناتوبو» عام 1991 في الفلبين، كان هناك تساقط قوي للثلوج في فلسطين وإسرائيل وشمال الشرق الأوسط. وفي العامين 1991 و1992 كان لهذه الانفجارات تأثير قوي على البحر الأحمر؛ إذ شهدت المنطقة ابيضاض الشعاب المرجانية في البحر الأحمر لمدة عامين بسبب تبريد السطح وتعزيز اختلاط المياه بالقرب منه.
وفي سبتمبر من العام 2007 ثار بركان «جبل الطير» في جنوب البحر الأحمر، ما أدى إلى تكوين جزيرة بركانية هناك. ويقول ستنتشيكوف: «انبعثت من هذا الانفجار البركاني كمية لا بأس بها من ثاني أكسيد الكبريت، وكان ذلك حدثاً مثيراً للاهتمام. إذ يمكن أن يتأثر الشرق الأوسط بأكمله بالانفجارات القوية، ولهذا فمن المنطقي النظر إلى تأثيراتها في المنطقة».


مقالات ذات صلة

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

علوم النموذج تم تطويره باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء ينتجون «نموذج جنين بشري» في المختبر

أنتجت مجموعة من العلماء هيكلاً يشبه إلى حد كبير الجنين البشري، وذلك في المختبر، دون استخدام حيوانات منوية أو بويضات.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم الهياكل الشبيهة بالأجنة البشرية تم إنشاؤها في المختبر باستخدام الخلايا الجذعية (أرشيف - رويترز)

علماء يطورون «نماذج أجنة بشرية» في المختبر

قال فريق من الباحثين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إنهم ابتكروا أول هياكل صناعية في العالم شبيهة بالأجنة البشرية باستخدام الخلايا الجذعية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

علماء يتمكنون من جمع حمض نووي بشري من الهواء والرمال والمياه

تمكنت مجموعة من العلماء من جمع وتحليل الحمض النووي البشري من الهواء في غرفة مزدحمة ومن آثار الأقدام على رمال الشواطئ ومياه المحيطات والأنهار.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
علوم صورة لنموذج يمثل إنسان «نياندرتال» معروضاً في «المتحف الوطني لعصور ما قبل التاريخ» بفرنسا (أ.ف.ب)

دراسة: شكل أنف البشر حالياً تأثر بجينات إنسان «نياندرتال»

أظهرت دراسة جديدة أن شكل أنف الإنسان الحديث قد يكون تأثر جزئياً بالجينات الموروثة من إنسان «نياندرتال».

«الشرق الأوسط» (لندن)
علوم دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

دراسة تطرح نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات

توصلت دراسة جديدة إلى نظرية جديدة بشأن كيفية نشأة القارات على كوكب الأرض مشيرة إلى أن نظرية «تبلور العقيق المعدني» الشهيرة تعتبر تفسيراً بعيد الاحتمال للغاية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

«جراح آلي» بذكاء اصطناعي دُرّب على مشاهدة فيديوهات طبية

«جراح آلي» بذكاء اصطناعي دُرّب على مشاهدة فيديوهات طبية
TT

«جراح آلي» بذكاء اصطناعي دُرّب على مشاهدة فيديوهات طبية

«جراح آلي» بذكاء اصطناعي دُرّب على مشاهدة فيديوهات طبية

«تخيل أنك بحاجة إلى إجراء عملية جراحية في غضون بضع دقائق لأنك قد لا تنجو... لا يوجد جراحون في الجوار ولكن يوجد روبوت جراحي مستقل متاح يمكنه إجراء هذا الإجراء باحتمالية عالية جداً للنجاح، هل ستغتنم الفرصة؟» هذا ما أجابني به طالب ما بعد الدكتوراه بجامعة جونز هوبكنز عبر البريد الإلكتروني، لدى سؤالي عن التطوير الجديد.

تعليم الروبوت بمقاطع فيديو للجراحة

لأول مرة في التاريخ، تمكن كيم وزملاؤه من تعليم الذكاء الاصطناعي استخدام آلة جراحة آلية لأداء مهام جراحية دقيقة، من خلال جعلها تشاهد آلاف الساعات من الإجراءات الفعلية التي تحدث في ردهات جراحية حقيقية. ويقول فريق البحث إنه تطور رائد يتجاوز حدوداً طبية محددة ويفتح الطريق لعصر جديد في الرعاية الصحية.

وفقاً لورقتهم البحثية المنشورة حديثاً، يقول الباحثون إن الذكاء الاصطناعي تمكن من تحقيق مستوى أداء مماثل لجراحي البشر دون برمجة مسبقة.

جراحة بتوظيف الروبوت

تدريب على العروض بدلاً من البرمجة

وبدلاً من محاولة برمجة الروبوت بشق الأنفس للعمل -وهو ما تقول ورقة البحث إنه فشل دائماً في الماضي- قاموا بتدريب هذا الذكاء الاصطناعي من خلال شيء يسمى التعلم بالتقليد، وهو فرع من الذكاء الاصطناعي حيث تراقب الآلة وتكرر الأفعال البشرية. سمح هذا للذكاء الاصطناعي بتعلم التسلسلات المعقدة للأفعال المطلوبة لإكمال المهام الجراحية عن طريق تقسيمها إلى مكونات حركية. وتترجم هذه المكونات إلى أفعال أبسط -مثل زوايا المفاصل ومواضعها ومساراتها- والتي يسهل فهمها وتكرارها وتكييفها أثناء الجراحة.

توظيف روبوت «دافنشي» للتدريب

استخدم كيم وزملاؤه نظام دافنشي الجراحي كأيدٍ وعيون لهذا الذكاء الاصطناعي. ولكن قبل استخدام المنصة الروبوتية الراسخة (التي يستخدمها الجراحون حالياً لإجراء عمليات دقيقة محلياً وعن بُعد) لإثبات نجاح الذكاء الاصطناعي الجديد، قاموا أيضاً بتشغيل محاكاة افتراضية. وقد سمح هذا بتكرار أسرع وتحقق من السلامة قبل تطبيق الإجراءات التي تم تعلمها على الأجهزة الفعلية.

«كل ما نحتاجه هو إدخال الصورة، ثم يجد نظام الذكاء الاصطناعي هذا الإجراء الصحيح»، كما يقول كيم. كانت روبوتات دافنشي أيضاً مصدر مقاطع الفيديو التي حللها الذكاء الاصطناعي، باستخدام أكثر من 10000 تسجيل تم التقاطها بواسطة كاميرات المعصم أثناء العمليات الجراحية التي يقودها الإنسان.

تعلّم 3 مهام جراحية

وكان الهدف تعلم ثلاث مهام جراحية: التعامل مع إبرة جراحية وتحديد موضعها، ورفع الأنسجة والتلاعب بها بعناية، والخياطة -كلها مهام معقدة تتطلب تحكماً دقيقاً وحساساً للغاية.

مكنت مجموعة البيانات واسعة النطاق هذه الذكاء الاصطناعي من تعلم الاختلافات الدقيقة بين الإجراءات الجراحية المتشابهة، مثل شدة التوتر المناسب اللازم للتعامل مع الأنسجة دون التسبب في ضرر.

تعد مقاطع الفيديو التدريبية هذه جزءاً صغيراً جداً من مستودع واسع النطاق للبيانات الجراحية. مع ما يقرب من 7000 روبوت دافنشي قيد الاستخدام في جميع أنحاء العالم، هناك مكتبة ضخمة من العروض الجراحية للمراقبة والتعلم منها، والتي يستخدمها فريق البحث الآن لتوسيع ذخيرة الذكاء الاصطناعي الجراحية لدراسة جديدة لم تُنشر بعد.

«في عملنا المتابع، والذي سنصدره قريباً، ندرس ما إذا كانت هذه النماذج يمكن أن تعمل في الإجراءات الجراحية طويلة المدى التي تنطوي على هياكل تشريحية غير مرئية»، يكتب كيم، في إشارة إلى الإجراءات الجراحية المعقدة التي تتطلب التكيف مع حالة المريض في أي وقت معين، مثل إجراء عملية جراحية على جرح داخلي خطير.

التحقق من صحة النموذج المطور

أثناء التطوير، عمل الفريق عن كثب مع الجراحين الممارسين لتقييم أداء النموذج وتقديم ملاحظات حاسمة (خاصة فيما يتعلق بالتعامل الدقيق مع الأنسجة)، والتي قام الروبوت بدمجها في عملية التعلم الخاصة به.

أخيراً، للتحقق من صحة النموذج، استخدموا مجموعة بيانات منفصلة غير مدرجة في التدريب الأولي لإنشاء محاكاة افتراضية، ما يضمن قدرة الذكاء الاصطناعي على التكيف مع السيناريوهات الجراحية الجديدة وغير المرئية قبل الشروع في اختبارها في الإجراءات المادية. أكد هذا التحقق المتبادل قدرة الروبوت على التعميم بدلاً من مجرد حفظ الإجراءات، وهو أمر بالغ الأهمية بالطبع نظراً للعدد المجهول المحتمل الذي قد ينشأ في غرفة العمليات.

جراح آلي «ذو خبرة»

كل شيء سار بشكل جميل إذ تعلم نموذج الروبوت هذه المهام إلى مستوى الجراحين ذوي الخبرة. يقول أكسل كريغر، الأستاذ المساعد في الهندسة الميكانيكية في جامعة جونز هوبكنز والمؤلف الرئيسي للدراسة، في بيان عبر البريد الإلكتروني: «إنه لأمر سحري حقاً أن يكون لدينا هذا النموذج حيث كل ما نقوم به هو تلقيمه مدخلات الكاميرا، ويمكنه التنبؤ بالحركات الروبوتية اللازمة للجراحة». «نعتقد أن هذا يمثل خطوة مهمة إلى الأمام نحو أفق جديد في مجال الروبوتات الطبية».

تطوير رائد

إن أحد مفاتيح هذا النجاح هو استخدام الحركات النسبية بدلاً من التعليمات المطلقة. ففي نظام دافنشي قد لا تنتهي الأذرع الآلية إلى حيث هي مقصودة تماماً بسبب التناقضات الطفيفة في حركة المفصل التي تتراكم على مدار عدة حركات ويمكن أن تؤدي في النهاية إلى أخطاء كبيرة -خاصة في بيئة حساسة مثل الجراحة. كان على الفريق إيجاد حل، لذا بدلاً من الاعتماد على هذه القياسات، قام بتدريب النموذج على التحرك بناءً على ما يلاحظه في الوقت الفعلي أثناء إجراء العملية.

لكن الابتكار الرئيسي هنا هو أن التعلم بالتقليد يزيل الحاجة إلى البرمجة اليدوية للحركات الفردية. قبل هذا الاختراق، كانت برمجة الروبوت للخياطة تتطلب ترميزاً يدوياً لكل حركة بالتفصيل. يقول كيم إن هذه الطريقة كانت أيضاً عرضة للخطأ وتشكل قيداً رئيسياً في تقدم الجراحة الروبوتية. إذ إنها حدت مما يمكن للروبوت فعله بسبب جهود التطوير، والافتقار إلى المرونة التي جعلت من الصعب للغاية على الروبوتات القيام بمهام جديدة.

ومع ذلك، يسمح التعلم بالتقليد للروبوت بالتكيف بسرعة مع أي شيء يمكن مشاهدته، والتعلم على غرار طالب الجراحة. «(نحن) نحتاج فقط إلى جمع بيانات التعلم التقليدي لإجراءات مختلفة، ويمكننا تدريب الروبوت على تعلمها في غضون يومين»، كما يقول كريغر. «هذا يسمح لنا بالتعجيل نحو هدف الاستقلالية مع تقليل الأخطاء الطبية وتحقيق جراحة أكثر دقة».

تقييم مدى النجاح

لقياس مدى نجاح الذكاء الاصطناعي، حدد الباحثون مقاييس الأداء الرئيسية، مثل الدقة في وضع الإبرة والاتساق في التلاعب بالأنسجة باستخدام مجموعة من البيئات الجراحية الوهمية المادية، والتي تضمنت محاكيات الأنسجة الاصطناعية والدمى الجراحية. وكانت النتائج مذهلة. يقول كريغر: «النموذج جيد جداً في تعلم الأشياء التي لم نعلمه إياها. على سبيل المثال، إذا أسقط الإبرة، فسوف يلتقطها تلقائياً ويستمر».

لا تعد هذه القدرة على التكيف مهمة فقط لمواصلة تعلم مهارات جديدة ولكنها أيضاً ضرورية للتعامل مع الأحداث غير المتوقعة في الجراحات الحية، مثل تمزق الشريان أو تغير العلامات الحيوية للمريض فجأة. بالإضافة إلى ذلك، أظهر النموذج كفاءة زمنية محسنة، ما أدى إلى تقليل وقت الانتهاء للمهام الجراحية القياسية مثل الخياطة بنحو 30 في المائة، وهو أمر واعد بشكل خاص للعمليات الحرجة من حيث الوقت.

ويتصور العلماء سيناريو حيث تساعد هذه الروبوتات الجراحين في المواقف عالية الضغط، وتعزيز قدراتهم وتقليل الخطأ البشري. سيؤثر جراحو الذكاء الاصطناعي المستقبليون بشكل كبير على توفر الرعاية الجراحية، مما يجعل التدخلات الطبية عالية الجودة متاحة لعدد أكبر.

اللوائح التنظيمية وأخلاقيات الطب

هناك أيضاً تحديات أخلاقية وتنظيمية يجب معالجتها قبل نشر مثل هذا الذكاء الاصطناعي في بيئات جراحية حقيقية دون إشراف بشري. فالقفزة نحو الروبوتات الجراحية المستقلة تثير مخاوف أخلاقية جديدة.

هناك قضية المساءلة: من سيكون مسؤولاً إذا حدثت مشكلة؟ الشركة التي صنعت الجراح الذكي؟ المهنيون الطبيون الذين يشرفون عليه (إذا كان هناك أي إشراف)؟ هناك أيضاً مسألة موافقة المريض، والتي ستتطلب تثقيف كل من الشخص الذي يخضع للجراحة والأشخاص المحيطين به حول ماهية هذا الذكاء الاصطناعي، وما الذي يمكنهم فعله بالضبط، وما هي المخاطر التي تشكلها الروبوتات مقارنة بالجراحين البشر.

يعترف كيم بأن المستقبل الآن في منطقة رمادية حيث يمكن للجميع مجرد التكهن بما يجب أن يحدث أو سيحدث. ستكون أيدي السلطات التنظيمية مشغولة، من معالجة المساءلة والمخاوف الأخلاقية عند السماح لجراحي الذكاء الاصطناعي بالعمل بشكل مستقل، إلى وضع معايير للحصول على موافقة مستنيرة من المرضى.

ولكن عند الاختيار بين إجراء عملية جراحية طارئة منقذة للحياة بواسطة جراح مستقل أو عدم تلقي العلاج لأن الجراح البشري غير متاح (مثلاً في مكان بعيد أو منطقة متخلفة)، يزعم كيم أن الخيار الأفضل واضح. يمكنني بسهولة أن أتخيل مستقبلاً قريباً حيث يبدأ الناس في اختيار روبوتات الذكاء الاصطناعي على نظرائهم من البشر - في ظل وجود دليل إحصائي على أن جراحي الذكاء الاصطناعي يعملون بأمان.

وبعيداً عن التحديات الأخلاقية والقانونية، هناك حاجة إلى المزيد من العمل لتمكين التنفيذ العملي. ستحتاج المستشفيات إلى الاستثمار في البنية الأساسية التي تدعم جراحة الروبوتات بالذكاء الاصطناعي، بما في ذلك الأجهزة المادية والخبرة الفنية للتشغيل والصيانة. بالإضافة إلى ذلك، سيكون تدريب الفرق الطبية على إدارة العملية أمراً بالغ الأهمية. فالأطباء سيحتاجون إلى فهم الآلة ومتى يكون التدخل ضرورياً، وفي النهاية تحويل الجراحين البشريين من المهام الجراحية المباشرة إلى أدوار تركز على الإشراف والسلامة.

جراحات بسيطة أولاً

على المستوى العملي، يتصور الباحثون تقدماً تدريجياً، بدءاً بجراحات أبسط وأقل خطورة مثل إصلاح الفتق والتقدم تدريجياً إلى عمليات أكثر تعقيداً. سيساعد النهج التدريجي في التحقق من موثوقية الروبوت مع معالجة المخاوف التنظيمية والأخلاقية بمرور الوقت، فضلاً عن مساعدة السكان على الثقة في الذكاء الاصطناعي لإجراء العمليات الحرجة للحياة.

يقول كريغر: «ما زلنا في المراحل الأولى من فهم ما يمكن أن تحققه هذه الآلات حقاً. الهدف النهائي هو الحصول على أنظمة جراحية مستقلة تماماً وموثوقة وقابلة للتكيف وقادرة على إجراء العمليات الجراحية التي تتطلب حالياً اختصاصياً مدرباً تدريباً عالياً».

* مجلة «فاست كومباني» خدمات «تريبيون ميديا»

اقرأ أيضاً