الهاربون إلى الموت!

TT

الهاربون إلى الموت!

فجأة، أمرت الجميع بالصمت كي تستمع جيداً للمذياع... كان الخبر عن انتشال عشرات الجثث قرب الشواطئ السورية لأشخاص حاولوا الهرب لأوروبا من ميناء بشمال لبنان، لكن مشكلات فنية بالقارب وجشع تحميله فوق طاقته وجنون البحر كانت بالمرصاد... الخبر يعنيها، بدأت أمارات متراكبة من التوجس والقلق والخوف ترتسم على وجهها، ربما يكون ابنها الوحيد ماهر من بين هؤلاء... لقد غادر دمشق منذ شهور إلى لبنان عساه يجد منفذاً للوصول إلى أحد البلدان الأوروبية... أخذ شهادته الجامعية وطرق أبواب كل السفارات الغربية ومكاتب الأمم المتحدة لعله يحصل على وعد بمساعدته للسفر والعمل، لكن الأبواب كانت موصدة بشدة، فأبلغها بأنه لم يعد من خيار أمامه سوى البحث عن طريق غير شرعي، عن مهربين يمكنهم بالمال مساعدته.
هو وحيدها وتتمنى أن يبقى إلى جانبها، أن يكون سنداً لأختيه الأصغر، لكنْ أُسقط بيدها، فالحياة هنا لم تعد تطاق، والصعوبات لا تتجلى في غياب فرص العمل والغلاء المخيف وشح المواد الأساسية فحسب، وإنما أيضاً في الانقطاع شبه المستمر للكهرباء وشبكة الاتصالات وأحياناً لماء الشرب، وفي الاضطرار للوقوف ساعات لتحصيل أسطوانة غاز أو ربطة خبز... في معارك مزاحمة لا بد أن تخاض لتوفير فسحة في وسائل المواصلات المكتظة... في التسليم والخضوع لابتزازات الحواجز الأمنية، التي بدأت تكشّر عن أنيابها بعد «انتصاراتها»!
لم يكن يرغب في السفر، كان يُبعد هذه الفكرة عن رأسه كلما عُرض عليه الأمر، ويرد بسؤال مشروع: كيف أترك أمي وأختيَّ وحدهن هنا؟ لكن في غفلة، بدّل خياره وصار متحمساً، ربما لأنه اقتنع بفكرة أن وجوده في أوروبا يسمح له بلمّ شمل عائلته وإنقاذها من ذاك الجحيم، ليصبح السفر كمسؤولية حيوية تقع على عاتقه لتخليص أهله مما يكابدونه ومن مستقبل مظلم ومجهول، لكنها تعتقد بأن السبب يتعلق أيضاً بتداعيات قصة اعتقاله منذ عامين عند أحد الحواجز الأمنية، حين أنزلوه مع أكثر من عشرة شبان من الحافلة، وضعوا على عيونهم قماشة سوداء مهترئة تسمى «الطماشة» لحجب الرؤية وأجبروهم على الجلوس لساعات على الأرض، ليزجّوهم بعدها في سيارة عسكرية كما القمامة، ويسوقوهم لأحد المراكز الأمنية وهم ينهالون عليهم ضرباً وإهانات... حشروهم أكثر من أربعين شاباً وفتى، في غرفة صغيرة لا تتسع لعشرة أشخاص... كان عليهم تقسيم أنفسهم إلى مجموعتين للتناوب، كل ساعتين، بين جالسين وواقفين، عدا عن تحمل الضرب المبرح والإهانات عند الخروج إلى المرحاض، ويزدادان شدة حين يضطر أحدهم للتأخر أكثر من دقيقة هناك. بعد يومين، لم ينقذه من تلك المحنة سوى سماع اسمه... شق طريقه بصعوبة بين المعتقلين، وهو يلتفت بين هذا وذاك ممن سارعوا لتذكيره بأسمائهم ومناطق سكنهم، وهم يرجونه إخبار أهاليهم عن مكان اعتقالهم... كظم غيظه، حين بدأ الضابط تأنيبه بالسؤال: لماذا لم تقل إنك وحيد ومعفي من الخدمة الإلزامية؟! كان يريد الخلاص بأي ثمن، لم يقوَ على محاججته بأنه ذكر ذلك مرات ولم يُصغِ له أحد!
أدركتْ الأم أن تلك التجربة كانت أشبه بلعنة حلّت عليه... كانت تتألم حين يكرر طرح السؤال عليها: إذا كان التعامل معنا بسبب التجنيد الإجباري هكذا، فكيف الحال مع من يعارضون السلطة؟ كانت تعرف أنه بهذا السؤال يحاول التعاطف مع زميل دراسته عصام، الذي كان يُبدي «عدم الرضا» عن عنف النظام واعتُقل منذ خمسة أعوام، ولم يعد يعرف عنه شيئاً! بدأت تقتنع، وهي تشعر بأن همومه ومعاناته تزداد مع كل يوم يمر، بأنه صار واجبها تشجيعه على السفر؛ أعطته بعض المال لقاء بيع قطعة الأرض الصغيرة التي ورثتها من أهلها، لكن أوصته بألا يغامر في السفر بحراً، وإذا اضطر عليه التأني في الاختيار، فمن لا يعرف أن آلاف السوريين صاروا طعاماً للحيتان؟ ومَن ينسى صورة الطفل إيلان الكردي الذي لفظه البحر على أحد الشواطئ التركية؟
تركيا! رددت الكلمة باستهجان وهي ترد على سؤال جارتها عن سبب إرسال ماهر إلى لبنان وليس إلى تركيا التي لطالما شكّلت ممراً لمئات ألوف السوريين نحو أوروبا... وسألت بحرقة: ألا تتابعين ما يحصل هناك؟ ألم تسمعي بعشرات الأشخاص الذين قُتلوا بالرصاص وهم يحاولون العبور إلى الأراضي التركية، ومنهم أطفال ونساء؟ ثم أي مصير سيلقاه إن ردّه حرس الحدود التركي إلى مناطق «جبهة النصرة»، حيث جحيم آخر يعيشه الناس هناك؟ هل تريدين أن أنقل ابني من تحت الدلف إلى تحت المزراب؟ وأضافت متحسرة: تركيا لم تعد كما كانت في التعامل مع اللاجئين السوريين، كل يوم ثمة خبر عن أذى وضرر يلحق بهم هناك، عن محاصرتهم والعبث بأمنهم وأرزاقهم وأعمالهم، عن عدم تجديد إقاماتهم وتسفيرهم قسراً إلى الأراضي السورية... لكن، بعد لحظة، استدركت وهي تنظر في عينَي جارتها بحزن... نعم، ربما أوضاع اللاجئين السوريين في لبنان أسوأ حالاً، لكن وعدتني إحدى قريباتي هناك، بالاهتمام بشؤون ماهر ومساعدته.
مع شح الإنترنت، كان يتصل بها كل بضعة أيام ليطمئنها على أحواله، لكن مضى أسبوع ولم تسمع عنه خبراً، وأعلمتها قريبتها بأنها لم تره منذ عشرة أيام... بدأت تُكثر الدعاء ألا يكون سوء حل به، ألا يكون وحيدها ضمن ضحايا القارب المنكوب... حتى الآن هم لا يزالون مجرد أرقام باردة، ليس من أسماء عُرفت، وليس من أدلة عن هوية هؤلاء الغرقى... نظرت إلى ابنتها الكبرى علّها تجد جواباً يهدئ مخاوفها، إن كانت قد أخطأت في تشجيعه على السفر؟ هامت الفتاة اليافعة مع نظرات أمها المشتتة كأنها أدركت ما يدور في خلدها، فقالت بعصبية: مهما حصل، فهو أهون من بقائه هنا!
للحظة شعرت الفتاة بعد لفظ تلك الكلمات بالضيق والاختناق، راحت تراقب بتوجس ورعب رد فعل أمها، هدأت قليلاً، حين أدركت أن أمها لم تأخذ ما قالته على محمل الجد... فكّرت في عبارتها مستغربة، هل كانت تعني حقاً ما قالته؟ هل بات الموت أهون؟ نفرت من الجواب، ونهضت بسرعة وهي تشاغل نفسها وأمها بالسؤال: ما رأيك في أن أعدّ فنجاناً من القهوة؟



الجيش الموريتاني: لن نسمح بأي انتهاك لحوزتنا الترابية

الجيش الموريتاني خلال مناورات على الحدود مع مالي مايو الماضي (أرشيف الجيش الموريتاني)
الجيش الموريتاني خلال مناورات على الحدود مع مالي مايو الماضي (أرشيف الجيش الموريتاني)
TT

الجيش الموريتاني: لن نسمح بأي انتهاك لحوزتنا الترابية

الجيش الموريتاني خلال مناورات على الحدود مع مالي مايو الماضي (أرشيف الجيش الموريتاني)
الجيش الموريتاني خلال مناورات على الحدود مع مالي مايو الماضي (أرشيف الجيش الموريتاني)

أفرجت السلطات في دولة مالي عن 6 مواطنين موريتانيين، كانت قد اعتقلتهم وحدة من مقاتلي مجموعة «فاغنر» الروسية الخاصة، خلال عملية عسكرية خاصة داخل الشريط الحدودي بين موريتانيا ومالي. في حين أعلن الجيش الموريتاني أن المواطنين جرى توقيفهم داخل أراضي مالي، وأكد أنه «لن يسمح» بأي انتهاك لحوزته الترابية.

الجيش الموريتاني خلال مناورات على الحدود مع مالي مايو الماضي (أرشيف الجيش الموريتاني)

وقالت مصادر محلية إن المواطنين الموريتانيين أفرج عنهم بعد ساعات من التوقيف، وكانت وحدة «فاغنر» قد سلّمتهم إلى الجيش المالي الذي حقّق معهم ثم أفرج عنهم، ليعودوا إلى الأراضي الموريتانية ليل الأربعاء/الخميس.

اختراق الحدود

بعد توقيف الموريتانيين من طرف وحدة «فاغنر»، المرافقة للجيش المالي، تداول ناشطون موريتانيون على وسائل التواصل الاجتماعي معلومات تُفيد بأن مقاتلي «فاغنر» وقوات الجيش المالي «اخترقوا» الحدود، وأوقفوا مواطنين موريتانيين.

ولكن الحكومة الموريتانية نفت أن يكون قد حدث أي اختراق للحدود، وقال الوزير الناطق باسم الحكومة، الحسين ولد أمدو: «إن وحدات من الجيش المالي كانت تتحرك في مناطق تابعة لحدودها، وأثناء مرورها اعتقلت هذه المجموعة».

وأضاف ولد أمدو، في مؤتمر صحافي مساء الأربعاء، أن القرية التي دخلها الجيش المالي وقوات «فاغنر»، «تابعة لدولة مالي»، مشيراً إلى أن «اتصالات جرت بين السلطات العسكرية الموريتانية والمالية أسفرت عن إطلاق سراح الموقوفين».

لا تسامح

وأصدر الجيش الموريتاني بياناً صحافياً حول الحادثة، وقال إن ما تداولته الصحف المحلية وبعض الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي حول اختراق الحدود «مجرد معلومات مغلوطة وأخبار زائفة»، وقال: «إنه لن يسمح لأي كان بانتهاك الحدود».

وأوضح الجيش الموريتاني أن «الأمر يتعلق بوصول وحدة من الجيش المالي إلى قرية الأغظف الموجودة داخل التراب المالي»، وشدّد على أنه «لم تصل القوات المالية مطلقاً إلى خط الحدود بين البلدين».

وقال الجيش الموريتاني: «إن الوحدة العسكرية المالية أوقفت 18 شخصاً في المناطق التي مرت بها، قبل أن يجري إطلاق سراح الموقوفين لاحقاً، بعد اتصالات ميدانية بين الجهات المعنية بموريتانيا ومالي».

وخلص الجيش الموريتاني إلى «طمأنة المواطنين بأن الوحدات العسكرية الموريتانية المرابطة على الحدود، لن تسمح لأي كان بانتهاك الحوزة الترابية للبلاد»، وفق نص البيان الصحافي.

احتفاء محلي

كان توقيف المواطنين الموريتانيين قد أثار حالة من الرعب في أوساط السكان المحليين، في ظل مخاوف من تصفيتهم، كما سبق أن حدث مع موريتانيين خلال العامين الماضيين، أوقفتهم «فاغنر» وعثر عليهم في مقابر جماعية، ما كاد يقود إلى أزمة في العلاقات بين مالي وموريتانيا.

وبعد الإفراج عن الموقوفين سادت حالة من الارتياح في أوساط السكان المحليين، وأصدرت مجموعة من السياسيين والمنتخبين المحليين بياناً، قالت فيه إن سكان محافظة باسكنو الحدودية «يثمنون إطلاق سراح المختطفين على الحدود المالية».

وقال النائب البرلماني، محمد محمود ولد سيدي، إن الإفراج عن الموقوفين «لحظة تحمل في طياتها فرحة كبرى، وترسم أفقاً جديداً من الأمل والطمأنينة في قلوب الجميع».

وأضاف عضو البرلمان الموريتاني عن دائرة باسكنو، أن السكان يشكرون الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني «الذي قاد بحكمة وحزم مسار الجهود المبذولة لتحقيق هذا الإنجاز الوطني الكبير».

وأرجع النائب جهود الإفراج عن الموقوفين إلى ما سمّاه «الدبلوماسية العسكرية (الموريتانية) التي أظهرت قدرتها على إدارة الأزمات بفاعلية، وأثبتت بالدوام نجاعة وحنكة عاليتين في التعامل مع هذا التحدي الأمني الكبير».

حرب مالي

وتعيش دولة مالي على وقع حرب، منذ أكثر من 10 سنوات، ضد مجموعات مسلحة موالية لتنظيمي «القاعدة» و«داعش»، وقبل سنوات قاد ضباط ماليون انقلاباً عسكرياً، وسيطروا على الحكم في البلد، ليعلنوا التحالف مع روسيا، وجلب مئات المقاتلين من «فاغنر» لمساعدتهم في مواجهة المجموعات الإرهابية.

ويثير وجود «فاغنر» داخل الأراضي المالية، خصوصاً في المناطق الحدودية، مخاوف الموريتانيين؛ إذ تسببت عمليات «فاغنر» في مقتل عشرات الموريتانيين داخل الشريط الحدودي بين البلدين.

وتوجد في الشريط الحدودي عشرات القرى المتداخلة، بعضها تتبع موريتانيا ويقطنها مواطنون ماليون، وأخرى تتبع مالي ويقطنها مواطنون موريتانيون، وذلك بسبب عدم ترسيم الحدود بشكل نهائي بين البلدين.